حكاية الشاعر يوسف برازي في المعتقل

بهزاد عبد الباقي عجمو 

في فجر إحدى أيام شهر أيلول عام 1966 استيقظنا من النوم على صوت ضربات قوية تدق بوابة بيتنا الذي كان مقابل معجل الجليد في قامشلو ، فعرفنا بأنهم زوار الفجر ( مباحث أمن الدولة ) لأنه سبق أن زارنا في السنوات الماضية و في هذا التوقيت بالضبط ، وهذه كانت الإدارة الوحيدة للأمن و المخابرات في سوريا و سابقاً في زمن الوحدة بين سورية و مصر كانت تسمى (المكتب الثاني) و يرأسها عبد الحميد السراج ففتح والدي البوابة لهؤلاء الزوار غير المرحب بهم و مباشرة كبلوا يديه و بدأوا بتفتيش البيت و قلبوه رأساً على عقب فلم يعثروا على شيء سوى صورة للبارزاني الخالد و هو ممتطياً صهوة جواداً و بندقيته معلقة على كتفه و خلفه جبال كردستان الشماء و بعد تفتيش البيت أخذوا والدي ووضعوه في سيارة جيب عسكرية و ذهبوا به إلى أين لا ندري حيث اعتقدنا في البداية أنه ربما أخذوه إلى إحدى أقبيتهم في فرع قامشلو مع بعض أصدقاء والدي أما التهمة فهي جاهزة و نعرفها سلفاً ( التعاطف و مناصرة ثورة أيلول بقيادة البارزاني الخالد ) 
و لكن بعد يومين أو ثلاثة تبين لنا أن هذه العملية هي أشمل و أكبر من عمليات السنوات السابقة حيث أن عملية الاعتقالات قد شملت كل الشخصيات الوطنية في محافظة الحسكة من قرى ديريك حتى مدينة سري كانيه حيث أُعتقل فيها شاعرنا الفذ يوسف برازي و أخيه إسماعيل ، سآتي على ذكرهم فيما بعد ، و عرفنا أيضاً بأنهم أخذوهم إلى سجن غويران في الحسكة لأن عددهم كان كبيراً قرابة ثلاثة وخمسون شخصية وطنية ، و لم يكم يوجد بينهم حزبياً واحداً هذه المعلومات نستطيع أن نضع أمامها أكثر من إشارة استفهام ، و عندما علمتْ جدتي بأن كل المعتقلين موجودين في سجن غويران و كأي أم فإن  نار الشوق لابنها تحرق قلبها فقررت أن تزور والدي و أن تصطحبني معها باعتباري حفيدها الأكبر رغم أني في تلك الفترة كنت طفلاً لم أتجاوز التاسعة من العمر و عندما وصلنا إلى بوابة السجن رأينا جمعاً غفيراً من الزوار و قد اصطفوا في رتل أحادي ، فدخلنا في الرتل و كان أمام البوابة مدير السجن و بيده عصا غليظة من الخيزران طولها قرابة المتر و نصف المتر و هو يردد بصوت قوي و غليظ ( ممنوع زيارة السياسيين ، فمن أتى لزيارة السياسيين فليخرج من الرتل ) ، فخرج كل الذين أتوا لزيارة الشخصيات الوطنية ، فهنا نظرتُ إلى جدتي ، فقالت بصوت منخفض ( لا عليك يا بني لن نخرج من الرتل و سنزور والدك و ستراه ) فتقدم الرتل حيث سنمر من أمام طاولة و كان خلفها رجل من الأمن لا أعرف رتبته فكان يسأل الزوار عن اسمه و اسم المعتقل و يسجله على ورقة ، فلما أتى دورنا ، سأل هذا الرجل جدتي و قال : قولي لي أيتها العجوز منْ تريدن أن تزوري ، و هنا انتابتني الدهشة و الغرابة عندما رأيت جدتي تلوح بيديها يمنة و يسرة و تخرج بأصوات لم يستطع رجل الأمن أن يفهمها و لم تكن تعرف هي نفسها ما تقول ، حيث ادعت أنها صمّاء بكماء فلما عجز الأمن أن يفهموا منها شيئاً ، فقالوا هيّا ادخلي أيتها العجوز فأمسكت بيدي و دخلنا في الممر و هي مسرعة و أنا أهرول بين الفينة و الأخرى ، التفت إلى الخلف خشية أن يرجعونا و أفكر بجدتي هذه المرأة البسيطة و الطيبة و الحنونة كيف خطرت لها هذه الفكرة و التي كانت في غاية من الذكاء و الدهاء و عندما وصلنا إلى صالة الزوار ، كانت هناك شبكة تفصل بين الزوار و المعتقلين فطلبت جدتي من أحد المعتقلين أن ينادي والدي و بينما نحن بالانتظار سألتها يا جدتي لم أستطع أن أفهم شيئاً من الكلام الذي قلته عندما كنا أما طاولة الانتظار أما رجل الأمن ، فابتسمت و قالت : ( وهل أنا فهمت يا بني ) ، فما هي إلا لحظات حتى أتى والدي و آثار التعذيب الوحشي ظاهرة عليه بالكاد كان يستطيع المشي جراء التعذيب و برفقة صديقه ملا مصطفى ملا عيسى     ( هلالية ) فما أن رأى والدي أمه ابتسم و نسي آلامه و تعذيبه أما جدتي في البداية أجهشت بالبكاء و هي ترى فلذة كبدها خلف القطبان و لكن عندما رأت بأن معنوياته عالية و هو يبتسم و يمازحها ، مسحت دموعها و بدأت تضحك و قالت له ( السجن للرجال ) ثم التفتت إلى ملا مصطفى و قالت إن ابنتك الصغرى تسأل عنك و تقول : ( أين أبي ) و عادت ثانية للبكاء ، فقال لها ملا مصطفى : ( كفى بكاءً أيتها العجوز فإنكِ متى أردتِ تستطيعين التوقف عن البكاء أما أنا إن بكيت لا أستطيع التوقف ) و بعد انتهاء موعد وقت الزيارة و دعنا والدي و صديقه و خرجنا و ظلوا في المعتقل قرابة خمسة و ستون يوماً حيث ذاقوا أبشع أنواع التعذيب الوحشي حتى في سجون النازيين لم يعذبوا المعتقلين بهذا الشكل اللاإنساني و لكن لم يستطيعوا أن يحطموا معنويات هؤلاء الشخصيات بل ازدادوا إصراراً و عنفواناً و كبرياءً فبعد أن خرج والدي من المعتقل روى لي ما كانوا يلاقوه من شتى أنواع التعذيب في الفناء الداخلي للسجن ، حيث كان السجناء يقفون خلف الشبكة حيث تهمهم المختلفة و بعض هؤلاء المساجين غير السياسيين لم يكن يستطيعوا تناول الطعام لبشاعة ما يروه من أشكال التعذيب المختلفة ، و كان تعذيب الشخصيات الوطنية يتم بالتناوب فأتى الدور على شاعرنا الكبير يوسف برازي فالتمَّ عليه كل عناصر الأمن لإظهار وحشيتهم في التعذيب و خاصة كان هناك عنصر أكثرهم وحشية يكنى بـ ( عواد ) و هو من سكان دير الزور حيث كان معظم عناصر الأمن في تلك الفترة الزمنية كانوا من دير الزور و شاعرنا كان يصرخ جرّاء التعذيب على يد هؤلاء الوحوش الضارية و أخيه إسماعيل كان يقف خلف الشبكة و هو يذرف الدموع و هو يرى أخاه يُعَذب بهذا الشكل فبعد أن أنهكوا شاعرنا من التعذيب و لم يعد يقوى على الحراك و خارت قواه و لم تعد به حركة سوى النفس فأمسكوا يديه و أرجله ووضعوه خارج الشبكة و مباشرة نادوا باسم إسماعيل برازي و إسماعيل هذا كان طويلاً عريض المنكبين مفتول العضلات و ضخماً حيث التقيته و تحدثنا طويلاً عن الأدب و الشعر عندما كان يأتي لزيارة والدي في عام 1992 ، و عندما سمع اسمه ينادى من قبل عناصر الأمن لينال التعذيب مسح دموعه و اتجه نحو باب الشبكة مسرعاً و ما إن فتحوا له الباب دخل إلى داخل الشبكة مثل النمر الجريح و قفز هذا النمر على عواد فرماه أرضاً ووضع رقبة عواد بين ساعده الأيمن و هو يضغط يده بأقصى قوة محاولاً خنقه و قتله ، فاجتمع كل عناصر الأمن عليه يضربونه بالخيزرانات محاولين إنقاذ عواد فلم يستطيعوا و إسماعيل يضغط على رقبة عواد أكثر فأكثر ، إلى أن أتى أحد عناصر الأمن ووجه لكمة قوية على جبين إسماعيل فخارت قواه وارتخت يداه فسحبوا عواد من بين يديه و لكن مع الأسف كان تعذيبه أكثر و أبشع من تعذيب أخيه الشاعر ، فرموه أيضاً خارج الشبكة ، فبعد عدة أيام بعد أن اندملت جروحهم قال شاعرنا لأخيه معاتباً : ( يا إسماعيل كيف لم تستطع أن تقتل عواد فقبل عامين لكمتَ البغل لكمة قوية فرميتهُ أرضاً و قتلته ) ، فردَّ إسماعيل : ( أقسم بالله بأنني كنت سأقتل ذاك السافل عواد لو لم ينقذه زملاءه ) . 
فأي شجاعة و بسالة كانت لدى رجالات الكرد في الماضي القريب حيث كانوا رجالاً بكل معنى الكلمة بينما في هذا الزمن الكردي الصعب لم نعد نرى سوى القليل من أمثال هؤلاء الرجال و مع الأسف الشديد نرى الكثير من أشباه الرجال أقولها بكل أسى .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…