صمتٌ يُماثل الكلام

ماجد ع  محمد 
مع أن صمت الآخر عما تتعرض له كفرد في الشارع أو في الحي أو في مكان العمل أو في المجتمع ومن قِبل أحد المتنمرين مِن نفس المجتمع، أو صمت الآخر حيال ما تتعرض له كشخص على أساس انتمائك لمجموعة بشرية ما، في وقت قدرة ذلك الآخر على قول لا فيما يجري بحقك، وخاصةً صمت مَن يدّعي بأنه مِن معتنقي مذهب الحق والعدالة والإنصاف، فلا شك أن صمته وقتها عن قول كلمة الحق بوجه مَن يتطاول عليك بالكلام، أو يمارس أقسى أنواع الانتهاكات بحقك أو بحق أيّ بريءٍ مثلك في هذه المعمورة، في الوقت الذي لن يكون لاستنكاره أو اعتراضه على ما يحدث لك أيَّة آثار سلبية عليه، حقيقةً إن لم يكن ذلك الشخص فَرِح بالذي يحدث لك، أو متواطئ مع الجهة التي تمارس طغيانها عليك أو على أيّ شخصٍ في حكمك، هو على الأغلب إما متقاعس أو متخاذل أو جبان أو بليد أو عاجز، هذا بخصوص وجع الصمت والصامتين في الوقت الذي سيكون لكلامهم دور إيجابي ولو كان ذلك على المستوى المعنوي فحسب.
أما عن أهمية الصمت والحاجة الماسة إليه عوضاً عن النطق الجائر أو المسيء أو المسبّب للإشكاليات الحياتية، فمِن كل بد أن هنالك في شِعاب الحياة الواقعية أو الافتراضية بشر مِن صدق تعابيرهم، ورقة كلماتهم، ودقة ما يصدر عنهم، وغنى معارفهم، وإنصاف مواقفهم، وموضوعية خطابهم، تتمنى دوام الاستماع إليهم، إلاّ أنه بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أعطت رخصة الكلام والنشر لكل الأوادم على اختلاف مشاربهم ومستوياتهم الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية، فصار بعضنا يتمنى أن يغرف الكثير منهم مِن معين الصمت إلى حين زوال الأسباب التي دعت المستمع أو القارئ إلى النفور من منطوقاتهم أو مكتوباتهم.
وإذا كان في الصمت فضيلتي: السلامة والفهم حسب الإمام الغزالي، فإن الأذى المتوقع مِن بعض المُعلن كان من المستحسن تجنبه إن تحكم المرءُ بشهوة الكلام وآثر الكتمان لحظتها، خاصةً في ظل انتشار ثقافة الحكومات الاستبدادية أو سطوة الثقافة القطيعية في المجتمع الواقعي أو التقني، وبما أن لسان الكائن البشري كثير العثرات، فبناءً على ذلك لا بد للمرءِ من ضبطه، ولا شك أن ما يقال بهذا الخصوص عن السياسي ينسحب بتمامه على أي شخص منا، خاصةً مَن كان لديه شيء غير قليل من حس المسؤولية، المسؤولية تجاه ما يُطلقه من الأقوال الاِرتجالية اللامسؤولة، أو العبارات المعكرة صفو الغير، أو التصريحات الإعلامية المثيرة والمنفّرة، وحس المسؤولية تجاه ما ينشره هنا وهناك من الكلمات، وهذا ما يقودنا إلى مكتوب المفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي بقوله: “حنكة السياسي تمُثُل في أن يعرف كيف يتلبَّس صمتُهُ بالكلام، ويدرك أن إتقان فن الكلام هو في الوقت ذاته إتقانٌ لفنِّ الصمت، وأن حس السياسي هو الذي يجعل المرء يعرف كيف ومتى يغدو غياب الكلام إضافة شيء مِن المعنى، وكيف يكون الامتناع عن الرد وعن التعليق أبلغ من كل رد، وأبيَن من كل تعليق”.
عموماً وفق معطيات الواقع الذي يفرض محظوراته على الكثير من المقيمين في دول الشرق الأوسط، هناك عشرات الأسباب التي تدفع الواحد منا إلى التريث في إطلاق سراح الجمل والعبارات، وضرورة الاحتفاظ بتلك المندلقات من بين الشفاه لتبقى حبيسة في جوف صاحبه/ا بدلاً مِن أن تكون وبالاً على صاحبه/ا الذي في مكانٍ ما، ولسببٍ ما، وعبر وسيلةٍ ما من الوسائل، وفي لحظة تسرع أشبه بحالة مركبة لم تعد تعمل مكابحها وسط المنحدر، حرَّر الحروف دفعة واحدة، وإذ بها تجول في حقلٍ من الألغام، وغدا إرجاعها إلى معقلها أو لملمتها بحاجة إلى طواقم هندسية كاملة لتعطيلها أو تفخيخها عن بُعد تجنباً للضرر المحتمل؛ علماً بأنه لو تريث قليلاً وفكّر بأنه مسؤول عن كل حرفٍ من تلك المنطوقات أو المنشورات لما تجرّع مرارة عواقب الاستعجال في بوحه؛ وفيما يخص تبعات التسرع ومسؤولية ما يقوله الإنسان أينما كان في وسائل التواصل أو على أرض الواقع، فمن بين الفقرات التراثية الجميلة التي أوردها الداعية السعودي سلمان العودة في كتابه “لو كنت طيرا” جاء في باب العبادة، أن الحسنُ البصريُّ مرّ على مطرف بن عبدالله في أصحابه، فقال له: عِظهُم،  فقال: أخشى أن أقول ما لا أفعلُ، فقال الحسنُ: وأينا يقول ما يفعل؟ ودّ الشيطانُ أن يكون ظفرَ منكم بهذه”.
وبما أننا ما نزال في ديار الصمت والحاجة إليه في الظروف الاِستثنائية، وبما أن القراءة لها دور وقائي في الكثير من الحالات، فكم سيكون محط ارتياح عندما نعرف بأن أصدقاءنا ومعارفنا ممن يقيمون في الداخل السوري وسط تسلط ومكوث العسكر على صدورهم في كل المناطق دون أي استثناء، بأنهم تسلحوا وسط هذا المناخ الآسن بشيء من منافع وفلسفة الصمت بعد قراءتهم رواية الكاتب الفرنسي فيركور “صمت البحر” كواحدة من أهم الروايات التي تحث على المقاومة السلبية، وتحض على المقاومة بالصمت، وآلية حرمان الكائن المدرّع من سماع صوت المغلوب على أمره، وذلك من خلال الامتناع عن الكلام مع المستحكم أو الغاصب أو الآمر أو المتفرعن بناءً على السلطة الممنوحة له أو بناءً على السلاح الذي بيده، وذلك عبر المقاومة من خلال رفض البوح والإفصاح، وليس عبرَ أيَّ سلاحٍ معرفي أو حربيٍّ آخر؛ وبعيداً عن أيّ نية ترويجية فالرواية التي نتحدث عنها قصيرة جداً وهي متوفرة مجاناً على الأنترنت، وتنتهي في جلسة قراءة واحدة، وبمقدور أي شخص يتململ عادةً من القراءة في أن يقاربها من دون أن يشعر البَتَّة بثقل صفحاتها على أنفاسه.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…