إبراهيم اليوسف
ليس في الحياة، من أحد، إلا ويمكن تناول سيرته، بما فيها من إيجابيات أو سلبيات، يمكن توظيفها في أعمال سردية واقعية، لإنتاج عوالم لافتة، إذا وجدت من يتناولها، ومن بين هؤلاء ذلك المروض، الروتيني، الذي يكاد لا يعبأ بمن هم خارج بيته وإطار عمله، إلا أن نماذج محددة تستوقف المرء لتناولها، ولعلي أعنى أكثر بمن هم: غيريون متنكرون لذواتهم، يضحون من أجل الآخر. من أجل القيم العليا، وإن غدت هذه الخصال أشبه بالانتحار. هذا الكلام أسوقه هنا، وأنا في صدد إنسان لم يعرف على نطاق واسع، خارج بيئته، وخارج من التقاهم، لأنه انشغل بالقضايا-العامة- بالتوازي مع نضاله لتأمين لقمة العيش لأفواه فلذات كبد”لا ماء ولاشجر”، بعد أن أضطر لترك المدرسة، وليكون شريك ما يصله من عرق جبينه كل محتاج، وهذا ما أعرفه عنه منذ ثمانينيات القرن الماضي، في أقل تقدير.
ليست مأثرة الرجل هنا، فحسب، فقد كان امرءاً طموحاً، مكافحاً، يريد الخير للآخرين. روحه كانت ظمأى للتواصل مع الآخرين. أبناء قريته. ذويه. العاملين في حقل الثقافة، بل وحتى الرياضة، فقد أسس فريقاً رياضياً لكرة القدم في حي الهلالية- مع بعض جيرانه منهم من هم من آل رجب وآخرين كما قيل لي- وساهم مع آخرين بتأسيس فرقة فنية- فرقة خلات- تكفل بدفع مصاريفها من لباس وسواه، كما روى ذلك الفنان بهاء شيخو مرات عديدة، بحضوره، ومن ثم بعد رحيله، وكان يتكفل إيجاد أكثر من بيت- بيته إلى جانب بيوت سواه- لإجراء أعضائها التدريبات باعتبار أن هكذا فرقاً فلكلورية شعبية، غير رسمية، كانت ممنوعة، وملاحقة، ومواسم عملها تكون في يوم عيد النوروز أو يوم عيد العمال العالمي!
عمل ضمن صفوف حزب البارتي، منذ صغره، وكان يؤكد أنه كان- آنذاك- دون سن الثامنة عشر من العمر- ولا أدري كم كان عمره تحديداً- إلا أنه كان يذكر اسم المرحوم دهام ميرو “ماعدت اعرف التفاصيل”، بل وكان مقرباً من الراحل كمال درويش، وهكذا الراحل إسماعيل عمر، وكانت له علاقة جد مميزة مع رفاقه الذين عملوا معه في البارتي، بالرغم من أنه حدثني عن نقده لقيادي في الحزب في قصيدة قرأها ضمن هيئته الحزبية -رلداع ما- وبدلاً من أية ردة فعل منه تجاهه جاءه ذلك القيادي وأثنى على روح الحرص لديه، وسوغ له لم تم ذلك- الخطأ؟- ليقنعه، بل ازداد اقتناعه فيما بعد بذلك!
ومما كان يرويه لي، أو يرويه والداه لي عنه استقبال لاجئين كرد في بيتهم- كما بيت السيد جميل قمركي- في حي الهلالية وكانت الدفعة الاولى، من كردستان العراق، وذلك في منتصف سبعينيات القرن الماضي منهم: صالح وصالو “الطويل”، وهكذا بالنسبة إلى لاجئين من كردستان الشمالية، عن طريق حزب” ” ذي علاقات مع حزبه، وكان ذلك في أوائل الثمانينيات، كما أتوقع، ومنهم من كان يعيش في بيته، ومنهم من كان قد أوجد لهم أكثر من مسكن، وأمن لهم مستلزمات الإقامة: أسرة وأدوات مطبخ، و من بين ذلك مسكن في بيت شخص فقير في الحي تكفل هو وأسرته بتأمين سبل معيشة من أفردت الأسرة لهم غرفة في بيتهم، بالإضافة إلى آخرين في بيت آخر!
من المغامرات التي قام بها، أنه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي- ولا أدري في أية سنة- أشيع بأن مسؤولين من العاصمة دمشق قادمون إلى- قامشلي- ويبدو أنه قد تردد بأن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد قد يكون من بينهم، وتم الإعداد لمسيرات- مسيَّرة. كبرى لاستقبال الضيف، ماجعل عبدالكريم فرمان يخطط للمشاركة مع عدد من أقربائه وذويه، لتقديم مطالب كردية إليهم- وهو الأجنبي- بعد تأمين اللباس الكردي لهم: نساء ورجالاً، وكان عددهم لايتجاوز العشرين شخصاً، وحين بحث عن فرقة موسيقية شعبية مكونة من” طبال و زمار”، فإن أحداً لم يتجرأ على المشاركة، وذلك لأن مجرد لفظ كلمة كردي كانت تؤدي إلى- المساءلة- فاضطر للذهاب إلى ريف الدرباسية ومن ثم عامودا إلى أن أمن- موسيقيين اثنين- وجاء بهما، في سيارة صديق له “مهدي أبو جوان”- صاحب معمل بلوك، وفي الصباح أشرف على المجموعة العائلية، قرب جسر الهلالية وعلق قائلاً: بعد حوالي ربع ساعة انضم إلينا المئات، بل الآلاف، ومرت من قربنا سيارات أمن، وقفز أحدهم في الحي وجاء بصورة للأسد الأب، وقال:
لم نكن نتوقع ذلك، فنحن أعددنا لافتة حمراء بعبارة- مبطنة- ليس فيها لااسم الأسد ولا” الجمهورية العربية السورية ولا البعث، كما كان رائجاً، وتحت توقيع”الأكراد بالقامشلي” وقال: مررنا من أمام مدرسة كذا” عربستان” ربما، أو من أمام المنصة التي كان يحتلها وفد القيادة القطرية ورئيس مجلس الوزراء عبدالرؤوف الكسم، وفرع البعث والمحافظ والضباط والمسؤولين إلخ- جنوب مبنى المنطقة وشمال ثانوية العربية- وإذا بالأستاذ حسن سعدون يهتف مرحباً عبر مكبرالصوت:
أهلا بالأكراد في وطنكم!
أهلا بأحفاد صلاح الدين!
وحدثني أن زهير مشارقة رفع يده، مرحباً، أو تلفظ بعبارة ترحيب؟، ولاأتذكر أكثر من ذلك. ما لفت نظره، كما قال لي ذلك مرات عديدة، أنه أمر بعزف النشيد القومي الكردستاني”أي رقيب”” هرنه بيش” بعد أن انضم الآلاف من الكرد إلى المظاهرة، ومر كل ذلك بسلام، وذكر لي اسم- قصاب- ربما هو “عربو”من قدوربك انضم إليهم أثناء تجوالهم في الشوارع وكان يؤدي رقصات استعراضية في مقدمة الفرقة، كما أن الفرقة الفلكلورية الكردية- ربما نوروز- أخذت مكانها في أول – الموكب- وان نساء من قدوربك- على سبيل المثال- رششن الرز والسكاكر فوق رؤوسهم وهم يمرون في الشارع العام، وأن قياديين في حزب كردي عرضوا عليه أن يعوضوه عن المصاريف التي تكبدها، فاعتذر وقال لهم: أنا أيضاً أديت مهمتي!
إلا انه، وبعد يومين، أو ثلاثة، علم بأن بعض أجهزة الأمن تسال عنه، فتوارى عن الأنظار، واختبأ في أماكن عديدة، منها قرية: نافكر “بيت خاله أحمد سلام”، أو منطقة آليان، وهنا لابد من تدقيق الأماكن والبيوت!
ربما يستخف بعضهم الآن، بالمشاركة في- تظاهرة كهذه- والسير- ضمن مسيرة- تحت علم -سوريا- لا البعث- وتسبقها صورة للرئيس الأسد الأب، وليس للكرد فيها إلا: اللباس الكردي- الموسيقا الكردية- النشيد القومي “أي رقيب” وعبارة “الأكراد بالقامشلي”، إلا أن هذه المشاركة التي نستتفها لم يكن النظام ليتقبلها، بل يحاسب على مثلها أشد الحساب، إذ إن مجموعة من الشبان الكرد، هتفوا في حفل بمناسبة يوم المرأة، أو الثامن من آذارفي إحدى دور السينما ” قائلين:عاشت الأخوة الكردية العربية”- وذلك في أواخرالستينيات- فتم إلقاء القبض عليهم وسجنهم، وهو ما رواه لي بالتفصيل زميلنا المناضل الراحل: أكرم كنعو “من المعتقلين” وهكذا زملاؤه أ. خيرالدين مراد و أحمد عزت وأحدهم من آل فاطمي الكرام. كل من جهته، ونشرت حواراً مع الراحل أكرم كنعو وذكر فيه ذلك بالتفصيل!
كانت هناك رسالة -عفوية- أو مخطط لها، في اتجاهات عدة: النظام الذي لايعترف بوجود الكرد، وذكرعبارة “أحفاد صلاح الدين” وفي مدينة كقامشلي، كانت اختراقاً كبيراً لجبهة النظام، مكوناً من وجوه -الصف الأول- من العصابة الحاكمة. العصابة العنصرية التي لاتعترف بالكرد، ناهيك عن أنها- ولعل كلاً منا يستطيع تصور ذلك- دعت الكرد الذين حضروا تلك الاحتفالية يتنفسون الصعداء، ويكسرون قيداً ما من قيودهم، في لحظة تاريخية مناسبة، ولا أتصورأن مثل ذلك تكرر في زمن الأسدين، بهذه القوة، حتى انتفاضة قامشلي، وكان ثمن إعلان الكردي عن رفضه للمجزرة 2004، والهتاف باسمه جد باهظ. هو المزيد من الشهداء، والجرحى، والمعتقلين، ومنهم من لايزال يعاني من – إعاقة جسدية- دائمة، كما الشهيد الحي: مسعود حمزة سيد دخيل، وهكذا الشهيد الحي سعود حمزة سيد سيراج!
من بين ما رواه لي الحاج عبدالكريم- وأكده مراراً أخوته- أنه عندما وصلت المسيرة، منتصف مدينة قامشلي- قرب المكتبات- فأشيرإليهم أن هناك من يصور من أعلى البناية- ربما كان رجل أمن أو أحد العملاء- بل إن هناك من استبدت به الحمية واراد إطلاق الرصاص عندما وصلوا أحد الأحياء الكردية، وأن صديقه خورشيد والد الشهيد جوان” منعه، وأن حماه العجوز: عمر إسماعيل كان في مقدمة- الموكب- وأن من ذويه الذين كانوا يؤدون الدبكات” سلمان حسين- عثمان حسين- أحمد فرمان- صالح حزني- صالح مجيد.. إلخ!
تجربته الشعرية
كان عبدالكريم فرمان يعيش حالة شعرية، إلا إنها تدور في حدود ماهو تقليدي، موقَّع، مقفى، أقرب لما هو شعبي، كما كنت أقوله له، بالرغم من أنني في تسعينيات القرن الماضي ترجمت له مجموعة قصائد، ونشرت بعضها في مجلة “مواسم” وبعضها الآخر في جريدة -الدياراللبنانية- عندما كان يعمل الصديق مردوك الشامي رئيساً لقسمها الثقافي وصار يعنى بمكانه وكائنه، من دون أن ينساهما، ولعلي وقعت اسم المترجم بـ “علي ش” وهو اسم يرد في – طابو- أرض جدي الشيخ يوسف شيخ حسين الشيخ سعيد و التي قسمتها الحدود بين تركيا وسوريا “الحاليتين” إلى قسمين، وكان يقول لي جاداً أو مازحاً: علي ذاك جدنا، أي أنهم شركاء ولهم حصة في “الميراث”.
طرحت عليه مرات عديدة، ونحن بعد في الوطن أن يطبع مخطوطاته، والتي كان قد جمعها في كراس ضخم كبير بغلافين جلديين، بعد أن يحولها أحد الأصدقاء من الحرف- الآرامي/ العربي-إلى اللاتيني، إلا أنه كان يقتنع، ثم يتناسى، أو يحاول أن ينسيني المطلب، ما إن التقينا في ألمانيا “وكان هو وأولاده والصديق أحمد إيمو- آلان أسعد-حكمت حسن- أفين ولات” من أوائل من استقبلونا في المطار، ورافقونا إلى مسكننا الحالي” حتى سألته:
هل جلبت مخطوطاتك؟
فقال هي في أمان!
وألححت عليها طباعتها، مرات، قبل مرضه، ورحت أشدد عليه بعد المرض، واتفقت مع فريق من الزملاء- من الاتحاد العام للكتاب والصحفيين- للعمل على طباعة المخطوط منهم: هجار بوطاني- صلاح محمد- حفيظ عبدالرحمن وغيرهم، وإلى جانبهم نجلاه درغام وإبراهيم. كل منهما لأمر خاص به، وصرت أحرض هجار مرات عديدة لمطالبته بالعمل بطباعته ديوان أول له، ومن بين كتاباته ماهو غنائي، إبداعي، مكتوب بلغة بسيطة، سواء أكان قومياً، أو طبقياً، أو إنسانياً، أو غزلياً، أو اجتماعياً، أو حتى ساخراً، وكان يكتب هذه القصيدة.
إن أول ما طلبته من أبنائه، بعد رافقوا جنازته إلى الوطن، ليوارى في مسقط رأسه في حي الهلالية- قامشلي: لاتنسوا مخطوط الحجي، ولكن، بعد فوات الأوان، وإن كان من حقه علينا، طباعة نتاجه بما له وما عليه، ومنه ما غناه بعضهم، وماعدت أتذكر- تماماً- من هم؟
أب وبنات وبنون وزوجة
صورة رائعة!:
خلال السنوات الخمس الأخيرة، عانى عبدالكريم فرمان من شدة المرض تدريجياً عليه، ولم أكن أريد أن أعرف عن حركة السرطان في جسده، ولذلك فقد قيل لي “إنه تحت السيطرة”، وذلك بفضل اهتمام أحد الأطباء السوريين به، بالرغم من أنه كان دائم التعرق ويضطر أحياناً إلى الاستعانة بمروحة بيتية حتى في الشتاء، بل إن صداع رأسه كان يبلغ حداً لا يحتمل، لايطاق، إلا أنه خلال السنتين الأخيرتين، أو السنة والنصف الأخيرة بلغت معاناته مع المرض أكبر أكبر، وهو صابر، يحمد الله، ولايشكو المرض، قائلاً: الحمدلله، ليتني أبقى هكذا، إذ كان يعطى المسكنات القوية، إضافة إلى-اللواصق- المسكنة، وظل وفياً لسيكارته التي لم يتركها إلا في الأسابيع الأخيرة، بعد أن تركته هي، وأتذكر أباه ذاته الذي لم يتخل عن سيكارته حتى آخر نفس من حياته، بالرغم من النوبة القلبية التي تعرض لها وتحذيرالأطباء له، بيد أن الألم تفاقم وماعادت الإجراءات كلها تفيده، إلى أن أعطي”إبرة” مسكنة، ذات مفعول دائم، جعلته نصف نائم، منذ ليلة رأس السنة، وحتى لحظة وفاته، وإن كان يصحو بين حين وآخر، من غفوته، ويواجه واقعه بشجاعة!
أبناء أوفياء:
إن أعظم ما يمنه الله على الإنسان أن يرزق بأبناء أوفياء، وبنات نبيلات، ورفيقة درب صابرة رغم مرضها، مخلصين، راحوا يتناوبون عليه، منذ أن التزم السرير، إذ كانوا يعنون به، لايتركونه وحده لحظة واحدة، ما كان يخفف من وطأة ألمه الكبير، ناهيك عن متابعة شؤونه الصحية بكل مالديهم من بأس وشهامة!
مقبرة الهلالية الجديدة:
أجل، ليس أصعب من الموت في زمن كورونا، إذ إننا خلال سنة ونيف، من ظهور كورونا، لم نعد نستطيع أن نزوره، بانتظام- أقصد المقربين منه- وإن كان يهتف إلي، يطلب أن أزوره ويحدد الأسماء من أصدقاء وأقرباء، وألتزم بذلك، أو أخترق الاتفاق قليلاً، لأن كل من حولنا يعرفون مدى علاقتنا وكانوا يسألونني و أبناءه ويرغبون بعيادته، إلا أنه لم يكن ليريد أن يراه محبوه وهوعلى تلك الحال، وأذكرأن أكثرمن موفد سياسي كردي أو كردستاني اعتذرعن اللقاء بهما، من دون أن أحرجه، وإن كان أحياناً يفاجئني: لنلتق بفلان في البيت أو….خارجه، بعدأن كنا نخرج معاً لزيارة بعض الاقرباء أو أداء واجب التعازي أو حتى حفلات أعراس مقربين جداً.
كانت أيام عصيبة. لحظات أليمة، وأنا أتلقى خبروفاته، أو أرافق جسده لتسليمه إلى مكتب الدفن، ومن ثم حضور وداعية جنازته قبل أن تنقل إلى مطار- كولن- مع عدد قليل من الاهل والأصدقاء، لتنقل عبر- استنبول- آمد/ دياربكر، إبراهيم الخليل- سيمالكا- بيته في الهلالية ومن ثم مرقده الأخير، الذي احتضنه ترابه بعد بضع سنوات من المنفى العلقمي، وهو في انتظارالعودة، وبيننا مخطط لعمل واسع، صرت أزينه، في أصعب لحظات مرضه-أنى التقينا- أعيد إليه التفاؤل، وإن كان في أعماقه عارفاً أي جرح يعانيه؟ أية آلام يعانيها أي عدو بغيض احتل خلايا جسده!