هيڤي قجو
وصايا الغبار هي الرواية الأولى للكاتب والروائي مازن عرفة. وقد طُبعت عن دار التكوين في دمشق عام 2011 بعدها صدر له روايتان أخريان هما: “الغرانيق” و”سرير على الجبهة” بالإضافة إلى كتب في المجال البحثي وهي: العـالم العـربي في الكتابات البولونيـة في القـرن التاسـع عـشر باللغـة البولونيـة. سـحر الكتاب وفتنة الصورة من الثقافة النصية إلى سلطة اللامرئي 2008.
وإذا بدأنا من العنوان “وصايا الغبار” نلاحظ أنه يثير الكثير من الجماليات والدلالات التي تفتح ذهن القارئ على آفاق متخمة بتساؤلات جمة، ما يجعله يبحر في بحر من التأويلات المتضادة، ويقحمه في صراع مع ذاته ومع بياض المحيط به.
فأي وصايا يشير إليه المؤلف؟ ولماذا سمّى الكاتب هذه الوصايا غباراً؟ استفهامات وتساؤلات كثيرة تربك القارئ لكنه سرعان ما يرسي على برّ حين يفكك العنوان ليعطيه تأويلاً يطابق شعوره الباذخ به. العنوان هو هوية النص والعتبة الأولى التي يطؤها القارئ ليسبر أغوار النص وهنا تفوّق مازن عرفة على نفسه في اختيار هذا العنوان المميز الذي يجذب القارئ من حيث لا يدري ويجعله يغوص في عوالم الرواية المثيرة.
حين يقرأ المرء الرواية للوهلة الأولى يشعر أنها رواية إيروتيكية بامتياز وذلك من خلال شخصية “ورد” التي يجدها البطل فجأة في سريره ومظهرها الذي يوحي أنه قضى معها ليلة مثيرة، لتتجدد هذه اللقاءات كلما أمطرت لتدخل “ورد” من النافذة وتحلق مع البطل في سماوات الشهوة، شخصية لطيفة تأتي مع هطول المطر تداعب البطل كما تداعب زخات المطر بشرته، هي حنينه للمطر ورغبته التي تلبيها له دون نقاش. لكن الأمر بعيد كل البعد عما يشعر به المرء للوهلة الأولى. إنه أمر آخر، تابوهات ممنوعة باتت تهدد الإنسانية جمعاء.
الرواية تعرّي السلطة، الواقع المعاش والجماعات المتطرفة من خلال تجربة البطل وتقرّبه من هذه التابوهات بحكم عمله في مركز ثقافي تابع للسلطة.
الرواية تلقي الضوء على السلطة الفاسدة والتي كان همها الثراء الفاحش على حساب الشعب. المتسلقون الذين يتناوبون على مناصب لا تناسبهم، بهلول على سبيل المثال، المرأة الموظفة التي تجعل من جسدها وسيلة لتوظيف معارفها فتغري “المدير البهلول” لممارسة وضعيات شتى في الجنس. ما لفت انتباهي وجعلني أنبهر ذلك الوصف الدقيق واللافت للنظر حين وصف الكاتب الشخص الذي كان جالساً في القمة ويكلم البطل ويرغب أن يجعله من رجالاته وكان كلما يصدر أمراً للبطل يغدو أعلى فأعلى، هو وصف حقيقي لكل من في السلطة ويخال نفسه الإله حين يصدر الأوامر، لكن حين قوبل بالرفض بات يصغر شيئاً فشيئاً.
هذا الواقع البسيط البعيد عن جشع السلطة حيث الناس البسطاء بعاداتهم وتقاليدهم البسيطة وتأمين لقمة عيشهم بتلك البساطة والقناعة التي تجعلهم سعداء، والواقع الذي يرزحون تحت وطأة أوهامه وخرافاته ثم يقضون أجمل الأوقات في الحديث عن مغامراتهم والتلذذ بذكرها، هذا العالم الذي أمسى بين ليلة وضحاها بيد مجموعة من السلطة يحاولون النيل منه وتخديره بالدين وذلك بالاتفاق مع شيوخ قادمين من بلاد الصحراء ووصاياها المغبرة، هذه الوصايا التي حاصرت الناس البسطاء وجعلتهم كالدمى في أيادي الشيوخ، الوصايا التي أهملت أمور الحياة كلها والتي كان الهدف منها التلاعب بالناس وتشتيت تفكيرهم كي يبتعدوا عن السياسة، الوصايا التي حاصرت المرأة في شتى مجالات حياتها بدءاً من اللباس وانتهاءً بجعلها وسيلة للرجل ثم إغواءه بالجنة حيث سبعون حورية في خدمته يتناوبن على منحه أنفسهن ويمارس معهن كل ما يخطر على باله بالإضافة إلى الغلمان إذا كان له نية في وطأهم. في المقابل كانت هناك الجنة الأمريكية والتي كانت ترى نفسها بديلاً قوياً لأغبرة الصحراء والتي كانت أيضاً تساهم بجعل المرأة وسيلة للترفيه عن الرجل من خلال عرض مفاتنها إلى جانب ما تستعرضه من حاجات.
في الحالتين المرأة تُستغل سواء عند أهل الصحراء وأفكارهم المغبرة أو عند الأمريكان الذين يتباهون بآرائهم الديمقراطية
لكن ما يذهب إليه الروائي لست متفقة فيه معه، فالمرأة الأمريكية على الأقل تملك سلطاناً على جسدها ولقد تحررت من قيود شتى وحققت قفزات نوعية يسجل لها وتجعلها سيدة تقف جنباً إلى جانب الرجل وباستطاعتها التباهي بإنجازاتها.
كل ما حدث في الآونة الأخيرة من وقائع جعل من البطل فريسة للضياع في متاهات الواقع والأحلام، هو لم يأت من سلومانيا إلا من أجل صاحبة العيون العسلية وهرباً من العيون الرمادية الباردة هناك، ليس له علاقة بكل ما يحصل في البلاد ما جعله يسافر إلى عوالمه الداخلية والماورائيات ليتطهر من كل ماله صلة بالواقع، فيصعد جبلاً مع صديقه المقرب الذي يطلب منه الصعود وحده إن كان جديراً بذلك سيلاقيه عند الطرف الآخر وينجح بجدارة في ذلك ليعثر على فتاته صاحبة العيون العسلية في الجبل، التي تضعه أمام اختبار إن كان جديراً بها سينجح وسيفوز بعينيها العسليتين وقلبها، تفاجئه الحوريات وتعرضن عليه البقاء معهن والحصول على كل ما يشتهيه منهن لكنه يرفض، وفي امتحان يقرره هو لنفسه يزور الجنة الأمريكية لكنه يفاجئ الكل أنه لا يرضخ لإغرائها فهو لديه صاحبة العيون العسلية. يأتيه صوت صاحبة العيون العسلية حين تستيقظ من النوم من خلال الهاتف، يقفز راكضاً ليذهب إليها ثم يقرران الذهاب إلى بيتها ومنه إلى دوامة البحيرة فقد قرر التخلي عن كل شيء من أجلها. يقفزان معاً إلى البحيرة حيث تتلقفهما الدوامة ويتحدان معاً جسداً واحداً لكن يسقطان في هاوية ما ويستيقظ على صراخ زوجته وأولاده الأربعة، وطلبات زوجته التي لا تنتهي، يذهب إلى عمله هناك فسحة ترتاح نفسه حين رؤيتها قرر النزول من الحافلة والتوجه، صاحبة العيون العسلية تنتظره هناك، قرأ مستشفى الأمراض العقلية، أدرك أن العقلاء هم المجانين لذا دخل المبنى وهناك لمح من بعيد حبيبته وهي تبتسم له بعيونها العسلية.
الرواية ممتعة جداً لقد فضحت السلطة والإسلام المتطرف، إلى جانب العالم الذي يتفرد به بطل الرواية، لكن لدي ملاحظة بالنسبة لحجمها، كان حري بالكاتب اللجوء إلى التكثيف الذي كان من الممكن أن يجعل من الرواية أن تسجّل حضوراً مغايراً في مشهد القراءة.