الغزوة الخائبة 1

د آلان كيكاني
الجزء الأول:
نصب زكريا برميلاً فارغاً لصق الحائط الخلفي للمستوصف، ووضع فوقه تنكةً ملأى بالماء، كي لا تجرفها الرياح، ووضع فوق التنكة صندوقاً خشبياً صغيراً، واتخذ من هذا الركام سلّماً، نصعد من خلاله إلى سطح المستوصف عند أصيل كل يوم ربيعي جميل، أو قبيل الغروب من كل يوم صيفي حار، ونمتّع أعيننا بالنظر إلى ذرى جبال قلمون الشامخة والمغطاة بالثلوج على مدار ثلاثة أشهر من السنة، ومن ثم، نرصد قرية الناصرية الوقعة على بعد فرسخ منا، وندقق النظر، من خلال منظار مقرب جلبه لنا أحد أصدقاء زكريا من لبنان، إلى شوارعها المتسخة الزاخرة بالحفر والمطبات، وأرصفتها المتآكلة، وسياراتها المهترئة، وبيوتها المتواضعة ذات الجدران المتقرحة، ونقول في أنفسنا: 
“آه، ما أجملها… وما أسعد المدني فيها، ينام ويصحو وقتما يشاء… ويطلق العنان لقدميه لتطوف به أرض الله الواسعة دون منّة من أحد، أو فضل… ويغادر بيته من غير أن يتذلّل لرئيس، أو يتملق لقائد، أو يرشو مسؤولاً، كما نفعل نحن… والأروع في هذا المدني أنه يعيش جنباً إلى جنب مع النساء… يا للنساء! ما أجملهن، وما ألطفهن من كائنات! لم نكن ندرك القيمة الحقيقية لهذه المخلوقات الآدمية الوديعة إلا عندما اضطررنا إلى الابتعاد عنهن والعيش في بيئة تخلو منهن… ولم نكن نعلم أن لهن طعماً، هو طعم الحياة، ورائحةً، هي رائحة الأمل، ولوناً، هو لون السعادة، وصوتاً، هو نبض القلب، حتى حلَّ الفراق بيننا وبينهن، ولم يعد بإمكاننا رؤيتهن… إنهن مثل الورود، أينما حللن أضفن إلى الطبيعة مسحة من الجمال والبهاء والرومانسية، وذلك على العكس منا، نحن الرجال، الذين لا نستطيع إضافة شيء إلى المكان سوى القسوة والرعونة والجفاء… بحق السماء، والحال هذه، هل يعقل أن تمر أسابيع، وشهور، دون أن نرى فيها وجه امرأة، ونحن في هذا السن، سن الشباب، الذي يحنُّ إليه كل من تجاوزه، وينتظرهُ بشغف كل من لم يبلغه؟ … أية حياة هذه التي نحياها، وأسمى غاياتنا هي أن تقع عيوننا على امرأة، وإنْ بصورة عابرة… ولو عثرنا على صورة لها في إحدى الجرائد أو المجلات، قصصناها، وعلقناها داخل غرفنا، في الجهة المقابلة لأسرّتنا، لنتفرج عليها مطولاً، ونتخيلها بعمق، حتى تتندى سراويلنا قبل أن ننام… هذه المرأة التي تأخذ مساحة شاسعة من تفكيرنا وتهيمن على أحلامنا في النوم واليقظة، يراها محسودنا المدني أينما يلتفت، ويشم رائحتها في الشوارع، وفي المتاجر، وفي الحقول، وفي البيوت، ويشنّف مسامعه بصوتها الرقيق الناعم، ويتذوق من يديها أشهى أصناف المأكولات… أما نحن، معشر العساكر، فننام ونصحو على وجوه مكفهرة تعلوها القساوة، ويرتسم عليها البؤس والشقاء، ونصبح على أنكر الأصوات، ونمسي على أكره الروائح… وما إن ترى عيوننا القصعات المليئة بالبرغل المشوب بالحصى، والخبز المطعم بندف التبن، حتى تتقزز نفوسنا، وتنكر كروشنا جوعها”. 
وحين يستبد بنا الشوق إلى المدنية وزخارفها، يتساءل زكريا: “كل هذا، ولسنا بسجناء، وحولنا أناس، نجتمع بهم كل ساعة، ونستأنس إليهم، وفي وسع أحدنا في أية لحظة أن يطلب إجازة ساعية لقضاء وقت قصير في إحدى البلدات القريبة، والعمل على إمتاع نفسه بالنظر إلى بعض الوجوه الناعمة فيها، فما بالك لو كنا في أحد المعتقلات، سيادة الملازم الطبيب؟ وخاصة تلك الإفرادية منها، الواسعة الانتشار في بلادنا”. فأكرر له قول المقدم يوسف سلمى: “الجندية سجن لا حيطان له”. وأضيف إليه: “سجن الروح أكثر إيلاماً من سجن الجسد، يا زكريا. ولا تنس أن السجن الإفرادي أرحم من السجن الجماعي، حين يكون الأخير مرتعاً للرذالة والسفالة والهمجية”. فيوافقني زكريا المكلوم في أعماقه، ويطلق تنهيدة طويلة من رئتيه. ثم يدير المنظار بلطف وترو، وكأنه عالم آثار يحفر في أرض يتوقع وجود تحفة أثرية ثمينة وهشة فيها، يخشى عليها الانكسار أو التخدش. وفجأة يعثر الرقيب على ضالته، ويدير بيده عدسة المنظار ليزيدها تقريباً ووضوحاً، ثم يثبّت المنظار في الهواء ويدعوني إلى النظر قائلاً:
“هيا كحّل عينيك، سيادة الملازم الطبيب”.
أنظر من خلال المنظار فأرى خيال امرأة تسير على قدميها في أحد شوارع الناصرية، تبدو لي كما يبدو السراب للظمآن في رمضاء الصيف. ألتقط المنظار من يد زكريا، وأزيد من قوته التقريبية، وأحاول عبثاً الإمعان في وجه المرأة وهي تمشي بكل براءة على بعد نحو خمس كيلو مترات مني، إذ ما كان للمنظار أن يتثبت في يدي ذلك الثبات الذي يمكنني من تبيان دقائق الأشياء عن بعد، ولا كان للمرأة أن تهدأ عن الحركة. وسرعان ما توارت خلف سور يحيط بأحد الأبنية ولم يظهر لها أثر بعد ذلك.
يترك زكريا المنظار بين يديَّ، ثم ينصرف لقضاء حاجته، والتزود بالماء، فأتقرى به السهوب، والوديان، والجبال، والمزارع المحيطة بالمطار، وأشاهد من خلاله مباراة لكرة القدم تقوم بين فريقين من فتيان الناصرية على أرض جرداء في محيط القرية. ثم أشاهد مساكن الضباط، والعَرَصات القاحلة الفاصلة بينها، والشوارع الكئيبة التي تتخللها، والأغبرة المثارة من قوائم قطعان الماشية وهي تنساب من سفوح الجبال وتسلك طريقاً ترابياً يمر من خلفها. ثم أرصد سيارة تتسلل من بين بعض الخرائب أسفل الجبل، وتتوجه نحو الناصرية، سالكة طريقاً صخرياً سطّحته أظلاف المواشي، وحوافر الحمير، وخفاف الجِمال، وأحاول معرفة نوعها، ولونها، وموديلها، لا لشيء إلا بدافع الفضول، وقتل الوقت. وإلى اليسار، ومن فوق المطبخ، وعلى بعد ألفي متر تقريباً، يلفت نظري وجود ستة من عناصر المطبخ، يقفون على شفا حفرة كبيرة خلفتها الجرافات في أرض بور عشية بناء صوامع الناصرية قبل أكثر من عقدين من الزمن. وعلى الشفا المقابلة لهم تنتصب بهيمة شاردة، لم أستطع التأكد من جنسها، وتبيان نوعها، أهي حمار، أم بغل، أم كديش؟! أثار الموقف استغرابي، وأطلت النظر فيه، ترى ماذا يفعل هؤلاء العساكر الستة هناك في الوقت الذي من المفترض أن يكونوا مستلقين فيه على أسرتهم ينالون قسطاً من الراحة بعد عناء اليوم؟! لم يصدر أمر مني، بصفتي رئيس وحدة صحية، بتسميم الحيوانات السائبة في الانحاء، درأً للأوبئة. ولو أن أمراً صدر من العميد قائد السرب بضرورة التخلص من البهائم الشاردة في محيط المطار مخافة أن تتسلل إلى المَدْرج وتسبب في كارثة أثناء صعود أو هبوط الطائرات، لكنت أول من يعلم به، وينفذ جزءاً منه، فما الذي دفع بهذا النفر من الجنود إلى الحفرة، وجعلهم يتربصون بحيوان لا يؤكل لحمه، ولا يصلح لزينة أو خدمة؟ وبعد برهة خرج فجأة عنصر سابع من الحفرة، والتحق برفاقه، وفي يده كيس أبيض كبير يخفق في الهواء. ثم تراجع الأنفار السبعة بضع خطوات إلى الوراء، ووقفوا يلتفتون الى جهة البهيمة، وكأنهم يترقبون حدوث أمر ما. وما هي إلا دقيقة حتى انحدر الحيوان إلى الحفرة بحذر، فقام العساكرُ بما يقومُ به صبيٌ وقع عصفورٌ في فخه، وتسابقوا إلى داخل الحفرة، وغابوا فيها، ولم أعد أرى منهم سوى رأس الطويل بينهم. ثم سرعان ما خرجوا متثاقلي الخطى، فاتري الهمة، كأنهم فرّوا من معركة، أو خسروا في مقامرة، تدل حركات أيديهم في الهواء على أنهم يتحدثون بصخب، أو يختلفون في أمر مهم. ثم ما لبثوا أن ساروا باتجاه المطبخ يلوحون بالكيس الأبيض في الهواء مثل ثلة من المشردين.
عاد زكريا ورويت له المشهد الذي رأيته حول الحفرة قبل قليل، فضحك ضحكة مجلجلة وضرب كفاً بكف وقال:
“وأنا أتساءل دائماً أين يتبخر البقدونس، والبصل الأخضر، والخس، والملفوف، والفجل، هذه الأيام من المطبخ!”.
التفتُّ إليه باستدارة سريعة من رأسي مستغرباً ومستفسراً. فتابع قائلاً:
“أراهنك على أنهم يأخذونها ليستدرجوا بها البهائم إلى الحفرة ليفعلوا بها الأفعال المنافية للحشمة، سيادة الملازم الطبيب… يا لهم من أوغاد هؤلاء العساكر… لا يفوتهم ثقب، إلا ويضعون فيه قضبانهم القذرة، حتى لو كان جحر أفعى. أنظر إليهم كيف يمشون، تحسبهم كلاباً مسعورة تبحث عن ضحية، أو مدمنين انفطموا عن أفيونهم… يبدو أن الحيوان رفسهم دفاعاً عن شرفه، فعادوا أذلاء صاغرين”.
“هل يعقل هذا يا زكريا؟ … أحسبك تمزح”.
“أقسم لك سيادة الملازم الطبيب، وسترى”.
ثم استأنف كلامه قائلاً بعد شوط من الضحك: 
“والله لأفضح أمركم أيها المخادعون، السفلة، ناكحي الحمير!” 
ثم حثّني على معاقبتهم قائلاً:
“عليك بهم سيادة الملازم الطبيب، إنهم يبددون مخصصات عناصر الوحدة ويصرفونها في غير محلها. ومن يدري؟ فقد يبيعون منها أيضا. لقد اشترى جلال منذ أيام ساعة سيتزن جميلة بتسعمائة ليرة سورية، وقبلها اشترى رياض كاميرا سوني بخمسمائة ليرة، ناهيك عن أن عناصر المطبخ، كلهم، صاروا يدخنون، منذ فترة، الكِنتَ والمالبورو والونستون، عوضاً عن الشرق والناعورة والإيبلا، وحتى الحمراء التي يتهافت عليها الناس هنا، لم تعد تعجبهم. ترى من أين لهم كل هذا، والراتب الشهري لكل واحد منهم ثلاثون ليرة سورية؟ ثلاثون ليرة فقط… بل وحتى الثلاثين هذه، يختلسها النقيب أحمد من عناصر المطبخ ولا يدعها تصلهم”.
“لا تستبق الأمور يا زكريا. لا أحب سوء الظن بالناس وإلقاء التهم جزافاً. دعنا نتأكد اولاً من أنَّهم بالفعل كانوا ينوون مناكحة الحيوان، ومن ثمّ، لكل حادث حديث. فإذا وجَّهنا إليهم هذه التهمة السافلة الآن، وتبين فيما بعد أنهم أبرياء، وأنهم كانوا هناك بقصد التخلص من بقايا الطعام، مثلاً، ورميها في الحفرة، نكون حينها في موقف صعب. أليس كذلك؟”.
“كما تشاء”.
“الآن هيا بنا إليهم”.
“هيا”.
وانحدرنا من سقف المستوصف، وأخذنا طريقنا باتجاه القادمين. وعلى يميننا وعند باب المهجع الذي يقيم فيه عناصر المطبخ والمستودع، لمحنا عسكرياً يقتَعد تنكة، ويضع كوعيه على ركبتيه، ويشبك أصابع يديه ببعضها، ويسترسل النظر باتجاه القادمين من عند الحفرة، وكأنه ينتظرهم لأمر مهم. ألقى زكريا التحية عليه من بعيد وقال لي:
“هل تعرفه؟”.
“لا”.
“إنه المجند عاطف الديك”.
“ومن هو الديك هذا؟”.
“أحد عناصر حراسة الباب الرئيسي”.
“وما الذي أتى به إلى هنا؟”.
“ليروج لبضاعته”. 
“بضاعته؟”. سألت مستغرباً. “هو لا يحمل في يده شيئاً!”.
رد زكريا ضاحكاً
“هو من إحدى القرى القريبة من الحدود السورية اللبنانية. وكلما ذهب في إجازة إلى بيته، جلب معه مجموعة من الصور الخلاعية المقتطعة من المجلات الجنسية”.
“أهذه بضاعته؟”.
“نعم”.
“وماذا يفعل بها؟”.
“يُري العسكري الصورة الواحدة بليرة واحدة. وإذا أراد عسكري أن يحتفظ بإحدى الصور معه حتى اليوم التالي، كان عليه دفع خمس ليرات. على أنَّ سعر التأجير اليومي للصورة يعتمد على حجمها، وجمالها، ووضوحها، وقدرتها على الإثارة الجنسية. ولكن السعر المتعارف عليه هو خمس ليرات للصورة الواحدة في الليلة الواحدة. وهكذا لا يعود صاحبنا من جولته كل مرة، إلا وفي جيبه مئات الليرات”.
“وما الذي يدفع العسكري إلى الاحتفاظ بالصورة، إن كانت ستكلفه هذا المبلغ؟”.
“يستفرد بها في الليل، ويتخيلها، ويستمني. وفي اليوم التالي يعيدها إلى صاحبها”.
“يا لرذالة صاحبها وقذارته. ينبغي تأديبه”.
قلت هذا، وتباطأت في سيري، والتفتُّ إلى اتجاهه، وفي نيتي العودة إليه، وتفتيش جيوبه، ثم إخطار قيادة السرب بأمره في حال العثور على أية صورة خلاعية لديه. إلا أن زكريا تعلق بي ومنعني من القيام بذلك وقال:
“أرجوك، لا تزجَّ بنفسك في ورطة أنت بغنى عنها، سيادة الملازم الطبيب. إنه مسنود بقوة، ويستطيع إلحاق الأذى بك إن أزعجته، فهناك من كبار الضباط من يتقاسم معه الغلة، ويقدم له، في المقابل، الدعم والحماية… أما أنت، فمن وراءك ليساندك إن أنت أقحمت نفسك في صراع عبثي مع هذا القميء… هه، قل لي، مَن وراءك؟ … ناهيك عن أنك ستوقع بيني وبينه حتماً، إن أقدمت على محاسبته، لأنه سيعرف حكماً أنني أنا الواشي به عندك”.
رأيت أن كلام زكريا ينطوي على الكثير من الحكمة والحصافة، ولا بد من الأخذ به، وتجنب القيام بعمل عفوي غير محسوب العواقب… بالفعل من ورائي ليسندني، وأنا ابن فلاح متخم بالبراءة، وليست له سلطة إلا على خرافه. وحتى أرضه التي ورثها عن آبائه وأجداده، تجد الدولة لها الحق في نزعها منه في أية لحظة، استناداً إلى تقرير كيدي من أحد المحسوبين على السلطة، أو اعتماداً على وشاية من أحد المنتمين إلى الحزب الحاكم؟ … مَن ورائي ليسندني، وأنا أعلم علم اليقين أنه في دولة تفتقر إلى العدالة والمساواة بين أبناء شعبها يتشظى رأس ابن الفلاح إلى مئة شظية حين يصطدم برأس صاحب السلطة، حتى إذا كان ابن الفلاح هذا ملازماً وطبيباً، وصاحب السلطة سافلاً، يدافع عن عسكري يبيع الصور الخلاعية للمجندين ويدفعهم إلى الرذيلة والانحطاط؟ … لهذا عملت بنصيحة زكريا وتابعت سيري. لكن حكاية الديك هذه لفتت انتباهي وأثارت فضولي. وربما ما انطوت عليه من طرائف هو ما شدني إلى الخوض فيها بشيء من التفصيل. لهذا رأيتني أسأل زكريا:
“أهذه كل بضاعته؟”.
“لا”.
“وماذا لديه بعد؟”.
“مجلات مختلفة الأحجام والأنواع، يؤجر الواحدة منها بعشرين إلى ثلاثين ليرة في الليلة الواحدة. وأشرطة سمعية مقابل خمسين ليرة. وقد قيل لي أنه جلب معه، ذات مرة، جهاز فيديو، وأبقاه في غرفة جانبية قرب بوابة المطار، وكسب من ورائه مبالغ كبيرة من المال”. 
“بقي أن تقول لي أنه ينظم حفلات جنسية ماجنة، أيضاً!”.
“يفعلها”.
“تبالغ”.
“أقسم لك، سيادة الملازم الطبيب”.
“لكن كيف؟”.
“لديه زبائنه الخاصون في المطار وخارجه، وأغلبهم من أبناء الأغنياء الذين يجلبون معهم الآلاف بعد عودتهم من إجازاتهم. هؤلاء يقتادهم صاحبنا إلى بيوت الدعارة في دمشق مقابل مبالغ مالية خيالية”.
“هو قوّاد إذن!”.
“تماماً”.
“يا للوغد”. 
وتابعنا طريقنا إلى الجماعة العائدة من غزوتها.
وكابن قرية نائية لم يكن إقدام أحدهم على مناكحة البهائم تثير استغرابي وتحرك فضولي. صحيح أنني لم أمارس هذا الشذوذ في حياتي، إلا أنني سمعت عنه الكثير، وشاهدت في طفولتي أحد الرعاة يتعامل بطريقة غريبة مع أتانته وراء كومة من القش، ولما كبرت فهمت مغزى تواجده خلفها وهو يقوم بحركات غريبة تشبه حركات كلب يسفد أنثاه، وأدركت معنى ارتباكه، وانسحابه المفاجئ خطوة إلى الوراء، حين لمحني. وتفطنت إلى أن الغاية من قيامه بتعدّيل وضع البردعة وإعادة توازن الخُرج إنما كانت التمويه على فعلته الشائنة التي أقدم عليها. ولكن ما أثار استغرابي في مشهد هذا اليوم هو اجتماع سبعة شباب على بهيمة واحدة في نفس الوقت، وفي وضح النهار، وهم بكامل قدراتهم العقلية. أي دواعر هؤلاء العساكر وهم يقدمون على ممارسة الجنس الجماعي مع بهيمة في العراء! ترى كيف سلك هؤلاء طريق التحرر من الآداب العامة وهم أبناء قرى وبلدات مثلي، وينحدرون من عائلات ريفية محافظة؟ أعرفهم جيداً: 
فجلال ابن عجوز طاعن في السن وطليق اللحية ولم يعرف في حياته غير التقوى والعمل الصالح. وقد جاء مع توأمه بعد سبع بنات، فأقسم والده على أن ينشئهما تنشئة صالحة، وسهرت الأسرة عليهما، حتى شبّا عن الطوق، وصارا مضرباً للمثل في حسن الخلق، وجمال الأدب، وحلاوة المعشر، وقد قيل لي، أنّ جلالاً هذا، في مستهل خدمته العسكرية، كان خجولاً وانطوائياً، ولكنه سرعان ما تحول إلى زنديق لا يشق له غبار. 
وشبلي ابن فلاح بسيط شديد الحياء قضى سنواته الثماني والستين في قريته الرابضة على أطراف البادية السورية، برفقة المحراث والمنجل والمعول، وبضعة خراف يقوم على تربيتها في كل سنة، ثم يبيعها قبيل عيد الأضحى بأيام ليكسب منها قليلاً من المال. ولم يغادر هذا الأب الحنون قريته في حياته إلا مرتين أو ثلاث مرات، كانت إحداها تلك التي زار فيها شبلي، حينما اشتد اشتياقه إليه، وفشل الابن في الحصول على إجازة. وقد أقام معه اسبوعاً كاملاً في المهجع، بعد أن رشا قائد الوحدة بقرص من العسل الخالص، جلبه معه من منحلة أخيه، وتنكة من زيت الزيتون ابتاعها من سوق مدينة السلمية، أقرب المدن إلى قريته. وعشية إقامته بيننا، كنا نلتم حوله في كل مساء، أنا وزكريا وثلةٌ من عناصر المطبخ والمستودع والأرصاد الجوية وعسكريٌ آخرٌ ينتمي إلى قبيلته ويخدم في كتيبة الدفاع الجوي القريبة من المطار، فيرسل ابنه شبلي إلى الناصرية ليجلب لنا عشاء فاخراً مع الحلوى والفواكه والعصائر. ثم يروي لنا في هدأة الليل القصص الطويلة والحكايات الشيقة، ويسهب في الحديث عن تراث منطقته، وعاداتها، وتقاليدها، وقبائلها، وبطونها، وشجاعة رجالها، وبراعتهم في فنون القتال والغزو في الحقبة العثمانية، وما تلاها من أيام الإقطاع. وغداة مغادرته، بكى بحرارة وهو يودعنا، وعرض المال على من يحتاجه من المجندين، ودعا كل من عرفه إلى زيارة قريته في فصل الربيع والتمتع بجمال السهوب الخضراء الشاسعة التي تمتاز بها منطقته. 
ومحمد سعيد سليل أسرة اشتهرت بالكرم والتواضع، وكان أبوه قد آلى على نفسه منذ باكورة حياته ألا يقرب الحرام، فلم يقربه حتى رحل قبل التحاق محمد سعيد بالخدمة العسكرية بسنة واحدة. هكذا حدثني عنه أحد الضباط الفنيين في المطار من أبناء قريته. 
وبشير ابن غنّام ساذج لا يعرف الخبثُ سبيلاً إلى قلبه، وقيل عنه أن العامة يلقبونه بالدرويش لشدة بساطته وتواضعه. 
وزهير ابن حلاقٍ جاء، هو الآخر، لزيارة ابنه مرة، ومكث معه خمسة أيام، وكان يقطر أدباً ولطفاً وكرماً، حتى أنه جلب معه عدته، وحلق شعورنا وذقوننا جميعاً دون مقابل، وحين غادر ترك عنوان بيته في بانياس الساحل لكل من كان على اختلاط مع ابنه، مبدياً استعداده لاستقبال كل من يزور بانياس زائراً أو سائحاً، تماماً كما فعل قبله أبو شبلي. 
ورامي حفيد مناضل كبير ومقاتل شرس ضد الانتداب الفرنسي على سوريا، وقيل أنَّ الفرنسيين أسروا جده مرة وخيروه بين البوح بالأسرار التي بحوزته عن رفاقه الثوار، وبين الموت رمياً بالرصاص، فاختار الموت على الخيانة. وقيل أنّه في اللحظة التي سبقت رميه بالرصاص تظاهر بالاستسلام، وهو مقيد اليدين والقدمين، وأبدى استعداده للإفشاء بكل ما لديه عن رفاقه، والتمس الصفح من الضابط الفرنسي طالباً منه الاقتراب ليبوح له، وما إن كان وجه الضابط على مرمى بصاقه، بصق عليه، ونال بعدها عشرين رصاصة في صدره… أما حفيده رامي الآن، فلا يجرؤ أحد على البصق أمامه، لأنه ينقل الحدث مباشرة إلى ضابط التوجيه السياسي غازي حنتوش، ممثل حزب البعث العربي الاشتراكي في الوحدة، بعد أن يضيف إلى البصقة تهماً خطيرة، من قبيل انها كانت موجهة إلى أحد أركان القيادة في البلد أو إلى الحزب. هكذا كان الآباء والأجداد، وهكذا كانت خصالهم، فأية مدرسة تلك التي مسّخت الأبناء وجعلتهم يهبطون إلى هذا الدرك الأسفل من الرذالة والانحطاط! 
ولعل الفضول، وربما الطيش، هو ما دفعنا، أنا وزكريا، في ذلك اليوم، إلى التفكير باعتراض طريق العشاق القادمين من مغامرتهم العاطفية، وفتح تحقيق معهم. وعندما تجاوزنا المطبخ وتوارينا عن أنظار الديك، بائع الصور الخلاعية، وقفنا ننتظرهم. وفيما نحن واقفون نراقب مجيئهم، تدخّل زكريا، الذي لا يكف عن إسداء النصائح إليَّ، متجاوزاً حاجزي فرق الرتبة وتباين العمر بيننا، بذريعة أقدميته في السلك العسكري مرة، وباحترامه لي وخوفه عليَّ مرات أخرى، وقال:
“لا تنس، سيادة الملازم الطبيب، أن السبعة حزبيون وأنت لست كذلك. وعلاقاتهم جيدة مع ضابط التوجيه السياسي المقدم غازي حنتوش، بينما علاقتك ليست على ما يرام معه، لهذا خذ حذرك، فإن الضغط الزائد عليهم قد يرتد عليك بما لا تشتهي”.
بهذه الكلمات نصحني زكريا، وإذا أردنا قول الحقيقة فإن الشابّ، ورغم حداثة سنّه وقلة خبرته في الحياة، كان ذا فَرَاسَةٍ فذةٍ، وبصيرةٍ قويةٍ، وقلما كان يخطئ في تقييمه للرجال. لهذا كنت أستشيره دائماً في أبسط الأمور، ولا أهمل رأيه في شيء. وكان من عاداته أن يسيء الظن بالمرء حتى يثبت له العكس، وهذه حكمة تعلمتها منه، وأفدت منها في حياتي الاجتماعية فيما بعد. وأتذكر أنّه قال لي مرة ضاحكاً، عندما وصفته بأنه داهية من دهاة البدو: “إذا كنت في صيد ورأيت من بعيد حيواناً لم تتبين نوعه بعد، فمن الحكمة أن تعتبره ذئباً يبحث عنك ليأكلك، وليس غزالة تبحث عنها لتأكلها، حتى يتضح لك الأمر”. 
والحق أن زكريا نال ثقتي المطلقة مع مرور الأيام، وما إن مرت ستة أشهر على التحاقي بالمطار حتى كنت أبوح له بما أتردد في بوحه لأقرب الناس إليَّ. 
قلت متقبلاً نصيحته:
“أعرف هذا يا زكريا، أعدك بأن محاسبتي لهم سوف لن تأخذ طابعاً جدياً أبداً، وإنما هي بغاية اختلاق جو من اللهو والمرح، ولهذا لا بد في البداية من تخويفهم بإظهار شيء من الجدية لهم، حتى تكتمل التمثيلية. وما عليك إلا أن تتماسك عن الضحك، وتقطب وجهك قليلاً وكأنك في حداد، وإلا فإنك ستفسد اللعبة.
وعلى هذا الأساس اتفقنا أنا وزكريا، وأحكمنا بناء فخاخنا للقادمين، وانتظرناهم بفارغ الصبر حتى يقعوا فيها. كان المجند شبلي يعرج، ولهذا تأخروا في الوصول قليلاً. ولما باتوا على بعد أمتار قليلة منّا، بدأوا بالهرج والمرج وهم ينظرون إلينا ويضحكون في محاولة منهم لإضفاء جوّ من البهجة على حضورهم، كما اعتادوا أن يفعلوا في كل مرة يزوروننا فيها جماعياً في المستوصف. ولكنني تظاهرت بالجدّ والحنق، ولم أتفاعل معهم، واقتدى بي زكريا، وعبس وجهه. فتسرب شيء من القلق إلى نفوسهم، وخفتت عقائرهم. وقبل أن يلقوا التحية، أمرتهم بلهجة لا تخلو من القسوة أن يصطفّوا بصمت في رتل أحادي، فنفذوا الأمر مستغربين ممتقعي الوجوه، إذ كانت المرة الأولى التي اتحدث فيها معهم بهذه الطريقة الفظة رغم مرور ستة أشهر على احتكاكي اليومي بهم. دنوت منهم بوجه مكفهر وسألتهم بصوت عال:  ………………….. 
تتبع في أجزاء
(تنويه: هذه القصة هي باب من رواية مذكرات الملازم الطبيب… المكان: مطار الناصرية العسكري في ريف دمشق… الزمان صيف عام 1998 … الملازم الطبيب هو كاتب الرواية وزكريا هو ممرضه)

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…