أصواتُ فاوست

عبداللطيف الحسيني/هانوفر

حصلَ ما كنتُ توهّمتُه, انسلّ فاوست من المبنى ليشاركَ مع المُحتفلين وليحتجّ ضدّ غوته وبأنّه لم يبع نفسَه للشيطان, وأنه ها هو ذا يتمشّى في الأزقّة وبجانب الأنهار. إنه يومُ المسرح العالميّ في ألمانيا التي تحتفل بالمسرح على طريقتِها, أعني أنّ أكثرَ من ثمانين مليوناً يكونُ المسرحُ يومَهم, يتسلّقون السماءَ بحكايا بريخت وموسيقاه, مضافاً إلى هذه الملايين…. ضيوفاً قادمين من بلاد لم نسمع بها, بدءاً منّي أنا الحاملُ تغريبتي السوريّة التي تتماهى مع تغريبة بريخت الذي أسمعُ طقطقة عذاباته تتلوّى في قبره.
 قيلَ لي بأنّ الألمان يتدرّبون على التمثيل والحركات والموسيقا طَوَالَ العام كي يخرج كلُّهم في هذا اليوم المعلوم مُمثّلين وعازفين ليحققوا نبوءةَ بريخت بأنّ المسرح جاء مُغيِّراً حياةَ الناس ومنحازاً لطبقات هؤلاء المعذّبين, شكرتُ بريخت سرّاً لأنّه مؤتمن على تعاليم ماركس “فالناسُ متساوون هنا في كلّ شيء”. الممثّلُ يتركُ دائرةَ الطباشير فجأة ليخاطبَ المُشاهدين”أنّكم في المسرح لا في الواقع, فكونوا يقظين ولا تتوهّموا مع شطحاتي.” في بلاد الإغريق وجدتُ قبراً فوضويّاً مُلتصقاً بالأرض كالسلحفاة, سألتُ عنه: “لِمَن هذا؟” قيل لي: إنّه قبرُ أرسطو, فركلتُه بعدَما ركلَه بريخت قبلي بمئة عام عابثاً مُتجّهماً بالحدث والزمان والمكان. هذا العبثُ البريختي يضاهي عبثيّة”في انتظار غودو”. 
حسناً فعلتم حين أبقيتم فاوست نصّاً لا يتعدّاه إلى إخراج مسرحيّ,فقط بريخت كان بقدوره أن يضمّها إلى عالمه الملحميّ وجمهوره المُشارك في مسرحه لا المُشاهِد فقط.
شياطينُ فاوست معي قبلَ تغريبتي وأثناءَها وبعدَها, كنتُ أهجسُ: هل سألتقي بفاوست أو بأحد شياطينه؟ غيرَ أنّ ما أعايشُه هو أنّ مسرحَ فاوست يلتصقُ ببيتي, والألمان يخافون المرورَ بالمثلّث المُرعب الذي يحيط  بهذا المبنى ليلاً.أحايين كثيرة أسمعُ عزيفاً و أصواتاً غامضةً وهامسةً تتحاورُ بجانب المبنى, خصوصاً حين تهجمُ عليّ كآبتي المزمنة مرافقةً بوحدتي و تغريبتي بما أنّي هاربٌ من بلاد جَبّت المسرحَ وكُتّابَه ومُخرجيه ومُمثّليه, لكن بقي معي “سعدالله ونوس”حميماً  في هذه الوحشة” فالمسرحُ هو المكانُ النموذجيّ الذي يتأمّل فيه الانسانُ شرطَه التاريخيّ والوجوديّ, فقد ازدادَ العَالمُ وحشةً وقبحاً و فَقراً لأنّه دونَ مسرح. 
في يوم المسرح الألماني أمام أمواج البشر وقفتُ صائحاً: (إني أبيعُ فاوست, فَمَن يشتريه)؟
مسرح فاوست

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عصمت شاهين الدوسكي

 

ربما هناك ما یرھب الشاعر عندما یكون شعره تحت مجھر الناقد وھذا لیس بالأمر الحقیقي ، فالشاعر یكتب القصیدة وينتهي منھا لیتحول إلى تجربة جدیدة ،حتى لو تصدى لھ ناقد وبرز لھ الایجابیات وأشار إلى السلبیات إن وجدت ، فلیس هناك غرابة ، فالتحلیل والتأویل یصب في أساس الواقع الشعري ،وكلما كتب الشاعر…

فيان دلي

 

أرحْتُ رأسي عندَ عُنقِ السماءْ،

أصغيْتُ لأنفاسِ المساءْ،

بحثْتُ فيها عن عُودٍ ثقاب،

عن فتيلٍ يُشعلُ جمرةَ فؤادي،

ناري الحبيسةَ خلفَ جدرانِ الجليد.

 

* * *

 

فوجدْتُه،

وجدْتُه يوقظُ ركودَ النظرةِ،

ويفكّكُ حيرةَ الفكرةِ.

وجدْتُه في سحابةٍ ملتهبةٍ،

متوهّجةٍ بغضبٍ قديم،

أحيَتْ غمامةَ فكري،

تلك التي أثقلَتْ كاهلَ الباطنِ،

وأغرقَتْ سماءَ مسائي

بعبءِ المعنى.

 

* * *

 

مساءٌ وسماء:

شراعٌ يترنّحُ،

بينَ ميمٍ وسين.

ميمُ المرسى، عشبٌ للتأمّلِ وبابٌ للخيال

سينُ السموّ، بذرةٌ للوحي…

ربحـان رمضان

بسعادة لاتوصف استلمت هدية رائعة أرسلها إلي الكاتب سمكو عمر العلي من كردستان العراق مع صديقي الدكتور صبري آميدي أسماه ” حلم الأمل ” .

قراته فتداخلت في نفسي ذكريات الاعتقال في غياهب معتقلات النظام البائد الذي كان يحكمه المقبور حافظ أسد .. نظام القمع والارهاب والعنصرية البغيضة حيث أنه كتب عن مجريات اعتقاله في…

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…