صبري يوسف – ستوكهولم،
صدر للدُّكتورةِ و الشاعرة السُّوريّة الكرديّة ميديا شيخة عن دار التَّنوير للطباعة والنّشر، ديوان شعري بعنوان: “باب موارب للصدى”.
قرأتُ هذا الدِّيوان، الَّذي استهلّتهُ الدُّكـتـورةُ الشّاعرة بقصيدة حملت عنوان: “قهوة باليورانيوم”، فجاءت القصيدة معفّرةً بالحزنِ والأسى والانشراخ، ولامست عبر صورها الجراح الغائرة وراحتْ تضع إصبعها على الجراحِ وتتحسّسُ بألمٍ كبير الأوجاع المتفاقمة حولها بلغة مضرّجة بالأنين. نظرتْ حولها مليَّاً ولم ترَ إلّا استيلاد الخيبات المتتالية، ولم تجد إلّا قلمها كي تخفِّفَ من وطأةِ الأحزانِ، وبدأتْ تنسجُ ما يموجُ في مخيالها وذاكرتها وجموح بوحها من آهات. وراحتْ تصوِّرُ قامات النيّران والهزائم المتفاقمة فوق ضفائر الصَّبايا، وارتسم لهيبها فوق شفاه الأطفال ومناكب الكهول والعجائز على مساحات شهيق البلاد، اهتاجتِ النّيرانُ فوق صدرِ المدائن، ثمّ توالت الانكسارات من ويلِ الحروب، وتهدَّلَتْ أجنحةُ الحبِّ والأمل، وتراختْ فوق رمادِ الاشتعال. وحدَها القصيدة استطاعت أن تنتشلَ الشَّاعرة من هولِ الجراح المرصرصة فوقَ كينونتها وفوق مآقي البلاد.
تشتمُّ الدُّكـتـورةُ الشّاعرة عبر حرفها أريج النّرجس البرّي، فتشمخُ أمامها قامات آشوريّة سريانيّة، وتنبلجُ فوقَ محيّاهم أسئلة ملبّدة بالأحزانِ، ومفتوحة على مساراتِ حنين الرّوح إلى الأزمنة الغابرة والمغبّرة بالأوجاع وراحت تقول:
” .. سيفو ما زال حيَّاً / توقَّفت خطوطُ حياتهِ
تجلَّدَتْ ملامحهُ الرّمادية/ ضحكَ من أمسِهِ الموبوء باللَّعناتِ” ..
تتداخل الآهاتُ عبر مساراتِ القصائد في خيوطِ الأحلامِ والآمالِ، وتتلظَّى هلالات الذّاكرة من قيظِ الاشتعالِ، فلم تجدِ الشَّاعرة إلَّا سهام الحبِّ تصدُّ أجيجَ النَّيرانِ الّتي تعالَت ألسنتها الحارقة فوقَ قبّةِ الأحلامِ. وتزدادُ الأحلامُ تشظِّياً، وتتهاوى البيوتُ العتيقة في رمادِ النّارِ، ويتحوَّل ودادُ الأمكنة بكلِّ حنانها إلى أكوامٍ مهجورةٍ. ترسمُ الشّاعرة جفافَ الأنهارِ، وتفرشُ حبرها فوقَ انتشارِ الصّحارى نحو خصوبةِ المدائن، وتبقى مذهولةً في ترجمةِ لغةِ الشَّوقِ، من هولِ انبعاثِ لهيبِ النّيرانِ، ترتسمُ أمام عينيها شرارات القبحِ، تجحظ عيناها عندما ترى اللَّيلَ يفترسُ آخر ما تبقَّى من عذوبةِ الحلمِ. تتأوّه من ضراوةِ الانحدارِ. آهٍ .. تاهتِ الأحلامُ في خضمِّ التّيهِ، وضلَّتْ حمائمُ السَّلامِ طريقها إلى أعشاشها المهشّمة فوقَ اخضرارِ أغصان الزّيتونِ. وجّهت الشّاعرة أنظارها نحو زخّاتِ المطر، وهي متلهّفة إلى مشاهدةِ أسرابَ النّوارس تحلِّقُ فوقَ مهجةِ الأملِ، لعلّها تروي ظمأ السّنين المستكينة فوقَ أنقاضِ القحطِ. وسرعان ما توجّهُ أنظارها إلى لغةِ الأماني، فتنسجُ قصائد محتبكة بتحقيق الرّغبات الكامنة في النّفس، ونادراً ما تتحقَّق الأماني، فهي أشبه ما تكون بالأحلام البهيّة، الّتي تزيدنا شوقاً إلى مساراتها الرّهيفة، وأجمل ما في الأحلام والأماني أنّها ليست قابلة للتحقيق في أغلب الأحيان، لهذا نبقى وتبقى الشَّاعرة في حالةِ شغفٍ وشوقٍ لتحقيقِ هذه الرّغبات المعشّشة في أعماقنا الدّفينة! وبعدَ رحابِ البوحِ عن الأماني الهاربة بعيداً، تغوصُ الشّاعرة في مرامي الأديمِ بلغة طريّةٍ طراوة الصّلصالِ، موشّحةً بوحها بلغة الحكمة على إيقاعِ خصوبةِ الأرضِ، فيبدو لها كيف تلوِّنُ الفراشاتُ دهاليزَ الأساطيرِ المؤدّية إلى أغوارِ المغائر، تنبشُ أسرارها ثمّ تتوقّف عند أشعار “جكرخوين”، وتسترسلُ في مناجاتها لآلهة الحبِّ “عشتار – آميدا” متوغِّلةً في لغةِ الابتهالِ، كأنّها تناجي حنينَ الرُّوحِ إلى أصفى ما في ظلالِ القلبِ من لواعجِ الحنين، ثمّ تبحث عن مرامي الفرح إذ تقول في آخر مقطع من قصيدة “رشفةٌ من شاي الذّاكرة”:
النّهرُ يسردُ أنشودةَ سيرِهِ
مع كأسٍ من الشّاي وابتسامةٍ
تداعبُ أخاديدَ البيادرِ/ وتشاطرُ فرحَ الجدّاتِ
بقدومِنا وهنَّ حاملات سلالَ الفرحِ.
تكتبُ الشَّاعرة ميديا شيخة قصيدتها بلغةٍ سهلة ومعبِّرة وعميقة في دلالاتها، وتحمل صورها الشّعريّة ترميزات ورؤية حافلة بالكثير من المعاني، تريد إيصالها إلى القارئ بسهولةٍ ويسر، فيتلقّاها القرّاء والقارئات بسلاسةٍ وشغفٍ من دونِ أيّةِ تعقيدات، ونراها تقولُ في اقفال قصيدة بعنوان: “نعم يا سلطانيَ المبجّل”:
أَتَذْكُـرُ زهراتِ الزَّنبقِ على خِصلاتِ شعري؟
شاخَتْ معي وأنا في مقتبلِ العمرِ!!
قصائدٌ معلقةٌ أنا/ كطفلةٍ سكنَتْ رحمَ الكلامِ
مبللّةً بالدّموعِ/ تستجدي شذا الأحلامِ.
ديوان الشّاعرة ميديا شيخة زاخر بلغة سهلة وسلسة، تمكّنتْ أن تعبِّر عن آفاقها عبر صور طافحة بالأوجاع، وتضمّنَ ديوانها 52 قصيدة شعريّة، على مساحة 120 صفحة من الحجم المتوسّط حملت العناوين التّالية:
“قهوة باليورانيوم، قامات النّار، شرود إصبع، طيّات عمري، الباب الموارب للصّدى، تحت المطر، لو، تيه، على أديم الأرض، رشفة اطلالة شاي الذّاكرة، روح ترتّل عشقها، حلب، ايزابيلا، نعم يا سلطاني المبجّل، تجاعيد القلب، ابنة القدر، ترابك المتيّم باسمي، إله القلب، همسات، وحي الجمال، زمن أعور، الصّمت، كبريائي، محنة اللّوز، ذبابٌ على مشانق قصائدي، وأمضي، فنجان قهوتي، خفيف الظّل، مكائد الشّطرنج، دمعة طفلة، طقوس النّار، قاع ألم، نزف على عتبات ظلّك، كورونا موت ضمير، أضحك وأبكي، رائحة الطّين، روني، الثّلج وأنا في الغابة، رسائل مرتلّة، قصاصة واحدة تفرحني، قطعة سكّر، بحر إيجا، جدّي ومعطف أحاديثه، رغيف الخبز، وجع حرف، موت وطن، يا أنت نزف القصيدة، منقار حجل، تيه، وله، رقصة هوى، و طوق الياسمين”.
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم