لعنة الأرض.. قصة من مدينتي

هيثم هورو 

-1-
في تلك المدينة العريقة عفرين، تتميز بجمال قراها، المبنية فوق سفح سلاسل جبالها الشامخة، المحيطة بأشجار السنديان والبطم، وكروم الزيتون والعنب. 
كانت تعيش في إحدى قراها، عائلة كريمة، تمتد جذورها إلى حسب ونسب عميقة، لديها ثلاثة صبيان، وأكبرهم الفتاة Nûpelda  (نوبالدا) المدللة على قلوبها، حيث كانت نوبالدا فائقة الجمال، وطيبة النفس، ترعرعت الفتاة، وأصبحت في ربيع عمرها، تقدم جلال إليها طالباً يدها وخلال محاولات متعددة لكنها رفضته لسوء أخلاقه، حينها تزوج جلال من قرية أخرى. 
لم تمضي فترة طويلة من الزمن، تقدم لها شاب آخر يدعى zinar ( زنار ) وهو من عائلة ثرية، وافقت الفتاة الزواج منه دون تردد، حيث قامت عائلتها بإيصال نوبالدا وهي مرتدية الثوب الأبيض الناصع الجميل، على ظهر حصان بني اللون ومزركش بأشياء جميلة، عند وصول موكب العروس قرب قرية العريس، استقبل الأهالي بالزغاريد والأغاني التراثية، وقرع الطبول على ألحان المزامير، حين توجه الموكب نحو دار العريس، هنا قام أحد أقرباء العريس بوضع طفله خلف العروس، ليرافقها إلى منزل العريس متمنياً لها بمولود ذكر .
-2-
قضت نوبالدا مع زوجها حياة سعيدة، مرت شهرين أو أكثر قليلاً غيابها من منزل والديها، بدأ الوالدان يشتاقان إلى إبنتهما، فأضطر الأب أن يخترق تلك العادة البالية، التي تمنع الإبنة المتزوجة زيارة أهلها، إلا بعد إنجابها طفلاً، قام الوالد بإرسال رسالة شفهية إلى ابنته طالباً منها اللقاء سراً، في مكان آخر تحديداً تحت شجرة الجوز الواقعة بين القريتين، والبعيدة عن الأنظار .
ألتقت العائلتان تحت فيايئ شجرة الجوز، والسرور يغامر قلوبهم، وتبادلوا هنا الأحاديث المشوقة، وجلسوا معاً على مائدة الطعام والشراب، ويسترجعون الذكريات الطيبة، إلى أن ودعت الشمس النهار، ثم عادت كل عائلة أدراجها إلى قريتها مسرورة  .
-3-
كانت عائلة نوبالدا ثرية، تملك أراضي واسعة من كروم الزيتون والعنب، حيث قام جلال بطرح فكرة على سعيد، والد نوبالدا ببيعه قطعة أرض، لكن رفض سعيد أن يبيع ذرة من التراب، مما أدى إلى خلق الحقد والكراهية لدى جلال مضاعفاً .
وهنا بدأ جلال يحرض شقيقه زهر الدين ضد عائلة سعيد، تارةً يلقي زهر الدين الحجارة على سطح منزله في منتصف الليل، ليبث الرعب في نفوس تلك العائلة، فإنه لم يكتفي بهذا الأسلوب الخبيث فحسب بل فعل أكثر من هذا، وبادر بقطع أشجار كرمة الزيتون العائدة إلى سعيد، وذلك لزرع الفتنة بينه وبين أهالي القرية، ولكن لم يقف جلال عند تصرفاته السابقة والشنيعة، ففي إحدى الأيام بينما كانت زوجة سعيد تزور جارتها، لاحقها زهر الدين في الطريق، وأقذف عليها كلمات نابية مثيرة للقرف، ثم محاولة التحرش بها مما أضطرت المسكينة العودة إلى منزلها، دون أن تتم زيارتها وهي غاضبة ومهانة من جراء تلك التصرفات اللأخلاقية. 
-4-
في المساء عاد سعيد من حقله إلى بيته، أفصحت زوجته فوراً، عما حدثت معها في الشارع حين التقى بها زهر الدين الماكر، وهنا جن جنون سعيد وثار كثور هائج غاضباً من زهر الدين، ويريد مقارعته ومقارعة أخيه جلال، واللذان يسخران من كرامة وشرف سعيد  .
فقد سعيد شهيته من طعام العشاء، وبدأ يدخن سيجارة تلو الأخرى ويفكر كيفية الخلاص من هذين الثعبانين، اللذين يحومان حول منزله، والتحرش بزوجته العفيفة الطاهرة، وعلى أثر ذلك قرر سعيد أن ينتقم من زهر الدين، وأخوه جلال أشد الإنتقام لرد الإعتبار لزوجته، وصوناً لكرامته أمام أهل قريته .
وفي إحدى الليالي العاتمة، خرج سعيد من منزله مسلحاً وبدأ يراقب عن كثب منزل زهر الدين، ولم تمر دقائق معدودة خرج زهر الدين من داره لقضاء حاجة له عندئذٍ أطلق سعيد النار عليه، وأرداه قتيلاً .
فرّ سعيد مع عائلته حالاً، وضجت القرية بأكملها، وتعالت الصرخات، وفي اليوم التالي، تم دفن الجثة وسط موجة غضب شديد من عائلة زهر الدين .
-5-
فقد سعيد أمل العودة الى قريته، فقرر مغادرة البلاد برفقة عائلته، متوجهين نحو تركيا بطريقة غير مشروعة، عبر الأسلاك الشائكة والممر الضيق، من وسط حقول الألغام،  مودعاً مسقط رأسه، وقلبه ينزف دماً، وترك كل أملاكه ولا يعرف لمن؟ 
وأخيراً أستقر به المطاف، في إحدى أشهر مدن تركيا، وفي ظل غياب وفرار سعيد من القرية أستولى جلال على كامل أملاكه، لقاء مقتل أخيه زهر الدين، وبذلك تحقق حلمه الدنيئ .
أما سعيد بدأ يعمل في معمل للألبسة الجاهزة، ثم انتسب أطفاله إلى المدرسة، لكن لم يفارق مخيلته ابنته نوبالدا، التي بقيت في الجانب السوري يشتاقها ويتحسر دائماً اللقاء بها، لكنه لم ينسى ممتلكاته التي تركها مضطراً حفاظاً على سلامته .
مضت سنوات، تخرج اولاده من الجامعات، وأصبحوا موظفين في دوائر الدولة وأصبح سعيد من الأثرياء في المدينة التي يعيش فيها .
لكن جلال الفاسد، لم يهنأ مطلقاً من أرض سعيد المستولى عليها ظلماً، لقد أصبحت زوجته تعاني من مرض عضال، طيلة عشر سنوات صرف عليها كثيراً من المال دون جدوى، وأخيراً انتقلت إلى يوم الآخرة، أما ابنه البكر انحرف وشذّ عن المزايا الأخلاقية الحسنة، وبدأ يقامر ويسكر يومياً .
ومن جانب آخر، توفي ابنه الأصغر على أثر حادث جرى معه أثناء فلاحة الأرض المستولى عليها من سعيد المهاجر .
وأخيراً ايقن جلال جيداً بأن لعنة الأرض ستظل تلاحقه مدى الحياة، انتقاماً من أفعاله الشريرة والخبيثة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فيان دلي

 

أرحْتُ رأسي عندَ عُنقِ السماءْ،

أصغيْتُ لأنفاسِ المساءْ،

بحثْتُ فيها عن عُودٍ ثقاب،

عن فتيلٍ يُشعلُ جمرةَ فؤادي،

ناري الحبيسةَ خلفَ جدرانِ الجليد.

 

* * *

 

فوجدْتُه،

وجدْتُه يوقظُ ركودَ النظرةِ،

ويفكّكُ حيرةَ الفكرةِ.

وجدْتُه في سحابةٍ ملتهبةٍ،

متوهّجةٍ بغضبٍ قديم،

أحيَتْ غمامةَ فكري،

تلك التي أثقلَتْ كاهلَ الباطنِ،

وأغرقَتْ سماءَ مسائي

بعبءِ المعنى.

 

* * *

 

مساءٌ وسماء:

شراعٌ يترنّحُ،

بينَ ميمٍ وسين.

ميمُ المرسى، عشبٌ للتأمّلِ وبابٌ للخيال

سينُ السموّ، بذرةٌ للوحي…

ربحـان رمضان

بسعادة لاتوصف استلمت هدية رائعة أرسلها إلي الكاتب سمكو عمر العلي من كردستان العراق مع صديقي الدكتور صبري آميدي أسماه ” حلم الأمل ” .

قراته فتداخلت في نفسي ذكريات الاعتقال في غياهب معتقلات النظام البائد الذي كان يحكمه المقبور حافظ أسد .. نظام القمع والارهاب والعنصرية البغيضة حيث أنه كتب عن مجريات اعتقاله في…

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…