يحدث لنا ولانتعظ؟

رقية حاجي

العلاقات الإنسانية مؤقتة، تضمحل مع الوقت، وقد تتلاشى مهما كانت متينة في يوم من الأيام، حيث نحتفظ بالقليل منها لبقية حياتنا، ويسقط أكثرها من الذاكرة، تاركاً صدى صوت أو طيف ابتسامة أو رائحة تبرد مع الوقت..
هل تذكر أول فتاة أحببتها؟
إنها ترسم الابتسامة على شفتيك الآن رغم أنك ظننت بأنك ستموت إن” لم تكن من نصيبك” ،
وأنت اليوم هنا تتذكر و تضحك.. أين هي الآن!
لا هي قد بقيت، ولا بقي الزمان ولا المكان، لقد جربت بعدها الحب، المرة تلو المرة، وفي كل مرة كان الحب الجديد أقوى..
الطبيب الذي عالج أول جراحك، وأمطرته أمك بالدعوات، لقد تعلّقت به تعلّق الغريق بقشة، وهو يشير على أمك بأن تعتني بك أكثر من إخوتك،
هل تذكره؟
الجار الذي استعرت منه كمشة ملح أو قبضة زعتر، واسترقت النظر عبر شق بابه المفتوح لتراقب الحياة في بيت آخر غير بيتك، تلفازه المفتوح على محطة غير التي يسمح لك والدك بمتابعة برامجها، الإضاءة الخافتة، وصوت ضحك مكتوم من زاوية لا يصل نظرك إليها..
المعلم الذي رسم لك أول نجمة على جبينك، وصفق لك مع بقية التلاميذ، كيف شعرت بأنك تمتطي صهوة النجاح في تلك اللحظة، وأنه لا غالب لك، أين الأستاذ؟ بل أين الطلاب..؟
وحتى الذين كرهتهم، لم يعد في قلبك متسعاً لتلك الكراهية..
لا للأولاد الذين هزؤوا بك، ولا الذين نافسوك بشراسة، ولا الذين أخبروا والديك عن مغامراتك الجامحة، عن السيجارة الأولى والحصة التي هربت منها..
كيف تبدو علاقتك بأمك وأبيك؟
وكيف حالك مع أخيك؟
إنها علاقات متينة ولاشك، تبدو للوهلة الأولى بأنها ستدوم إلى الأبد..
الأبد، ما هو الأبد، هل هناك أبد وأعمارنا محدودة؟
عندما يرحل الذين نحبهم ندرك كم كانت علاقتنا بهم مؤقتة، وبأن القليل من الذكريات والكثير من الندم كل ما بقي منها، الندم على أوقات بددناها بغيرهم، وأمكنة سبرناها بعيدا ً عنهم.
أخوك مشغول أيضاً، لديك ولديه ما يكفيكما ويزيد، هل تراه مرة، مرتين، أو ثلاث مرات كل شهر؟
هل تذكر كيف كنتما تتدثران بلحاف واحد وتكتمان الضحكات تحته، تأكلان من طبق واحد، وتتنازعان على اللقمة الأخيرة، كنتما تظنان بأن علاقة الأخوة تقهر الزمن، هل صدقت الآن بأن الأشياء لاتدوم؟
وبأن الناس لا يملكون البقاء معاً لفترات طويلة بحجم أعمارهم؛ لا لأنهم لا يريدون ذلك، ولكن لأن الوقت يركض مهرولاً، فتتلاشى العلاقات مثلما تتلاشى الأزمنة والأماكن..
لا تكن سبباً في جرح أحد،
ولا تؤمل الناس بقول (إلى الأبد)..
ولا تستند بظهرك على شخص ما، وأنت تعرف بأنه مُكبل مثلك بالوقت والمكان..
كلهم يرحلون، كما سترحل يوماً، ومثلما سقطت ذكراهم من رأسك عند رحيلهم، ستسقط ذكراك من رؤوسهم، ولن يبقى لك عندهم سوى طيف ابتسامة تتلاشى مع الوقت..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “كُرات الذكريات” للكاتبة السورية نادين باخص، وهو نصّ يستند إلى الذاكرة كأرض أولى للكتابة، ويحوّل لحظات الحياة ومفارقاتها إلى كرات صغيرة تتدحرج في زوايا القلب والوعي.

تكتب نادين باخص نصوصها بوعي حادّ بأن ما يتساقط من التجارب قد يندثر إن لم يُسجَّل، فتجعل من الكتاب صندوقاً مفتوحاً يحوي…

غريب ملا زلال

ألوان ملهمة للمزيد من الإبداع
تحظر الأوطان في أغلب أعمال الفنانين التشكيليين، حتى وإن كان حضورها باهتا ونادرا، لكن الوطن بالنسبة إلى بعضهم هو الملهم الأول والأخير، تسحرهم طبيعته وتفاصيله، فينذرون أعمارهم وموهبتهم لإعادة تصويرها في لوحات تخلد ذكراه وتنقل جمالياته نحو الآخر الذي يعيد اكتشاف البلدان في عيون أبنائها.

يرتبط الإنسان بالمكان الذي جُبِل…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يُعْتَبَرُ الكاتبُ الرُّوسِيُّ أنطون تشيخوف ( 1860 _ 1904 ) أعظمَ كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ . كَتَبَ المِئات مِنَ القصص القصيرة التي اعْتُبِرَ الكثير منها إبداعات فَنِّية كلاسيكيَّة ، كَمَا أنَّ مَسْرحياته كانَ لها تأثير عظيم على دراما القَرْنِ العِشرين ، وَتَعَلَّمَ مِنها الكثيرُ مِنْ كُتَّابِ المَسْرحيات المُعاصِرين .

فراس حج محمد| فلسطين

يختزن الذكاء الاصطناعي معلومات ذات قيمة دلالية في التعريف بالأشياء أو الأفكار التي يريد المستخدم البحث عنها، وفي تطوّر إيجابي فإن أول النتائج التي تقفز أمام المستخدم/ الباحث تَصوّر الذكاء الاصطناعي عن هذا الأمر المبحوث عنه، فيقدّم خلاصة نافعة مع مجموعة من الروابط التي تحيل إلى المصدر.

لم أنشر من كتاب “الإنقاص البلاغي-…