الطفل التائه والجِراء .. قصة من قريتي

هيثم هورو 

-1-
كانت أمي تعيش حياة الفقر المدقع، وكل ما تمتلكه هو أنا؛ وأنا طفل صغير لم أتجاوز ثلاثة ربيعاً، حسب تقدير والدتي، التي كانت دائماً مشغولةً بالأعمال المنزلية كعادتها اليومية، أسوةً بجميع النساء في قريتي .
خرجتُ من الغرفة خلسةً، خشيةً من والدتي التي كانتْ ترفض غيابي بتاتاً من دائرة تلك الغرفة الوحيدة الصغيرة، والمبنية من الطين، وذات سقف من الأعمدة الخشبية المهترئة، حتى لم تكن محمية بجدار حطبي، حيث مضت دقائق معدودة من غيابي أمام أعين والدتي، بدأ يساورها القلق الشديد، ثم تركتْ كل أعمالها، وبدأتْ تفتش عني، وتصرخ عالياً، لكنني إلى ذلك الحين لقد أصبحتُ بعيداً عن غرفتنا،
 ولم أرد عليها، وهنا ارتبكتْ والدتي أكثر فأكثر، ثم اخترقتْ قلبها الذعر والهلع، كادت أن تفقد أعصابها، وهي تبحث عني بين المنازل والأزقة الضيقة، وبعد جهدٍ جهيد، أشارت إليها أحدٌ من جيرانها، ثم قال لها: هناك يلعب ولدك مع بعض الجِراء، فأسرعتْ حالاً نحوي مهرولةً وعلامات الحزن والخوف كانت لاتزال تغطي محياها، ويديها ترتجفان، ولاسيما إنها شاهدتني بمشهد لم تراه سابقاً، وأنا أحمل ثلاث من جِراء الكلبة، في كل يدٍ واحدةً منها، وأما الثالث احملها بأسناني الناعمة، اقتربتْ والدتي نحوي أكثر فأكثر،  لكن الكلبة تكشرتْ عن أنيابها غاضبةً خشيةً على سلامتي وحمايتي من والدتي، وهي لا تستطيع أن تشتم بأنها والدتي العفيفة المسكينة تبحث عن طفلها التائه .
-2-
أرادتْ الكلبة أن تكون وفيةً كعادتها المألوفة، أن ترافقني إلى منزلي حفاظاً على سلامتي، ولاسيما أنا أحمل صغارها الثلاثة؛ أما والدتي وقعتْ في حيرةٍ تامة، ارتبكتْ بشدة، أصبحتْ لا تعرف حسن التصرف والأداء، حينها صرختْ أمي غاضبةً وطلبت مني برمي هذه الجِراء، وهي لا تدري ولا تشعر بأنني متشبثاً بالجِراء بشغف وحنان، وأريد جلبها معي إلى غرفتنا لألعب معهنّ، وكنت أقول في قرارة نفسي لا أريد فقط أن ألعب مع الجِراء فحسب، بل أنني مستعد أن ألعب حتى مع صغار الأفاعي! وذلك إشباعاً لغريزتي في حب اللعب ،
لكن أحسستُ جداً في نهاية المطاف بأن والدتي تريدني، وهنا لبيتُ خطابها لي حالاً، ووضعتُ الجروين بلطف وحنان على الأرض وأما الجروة الثالث، التي كنت أحملها بأسناني وضعتها على الأرض برفق وودعتها يائساً، ثم توجهتُ حالاً إلى أمي وارتميتُ في حضنها، عندئذٍ أيقنتْ الكلبة بأن تلك المرأة كانتْ هي أمي حينها التزمتْ الصمتْ، ثم راحت تشتم صغارها وتداعبها، وهنا عادت أمي أدراجها إلى غرفتنا ثانيةً وهي تحملني بين أحضانها، والبسمة والسرور لم تفارقها لأنها عثرت على فلذة كبدها. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…