ذكريات فصل الراعي

زهرة أحمد
إنها طفولتي ..!!!!
هكذا كان جوابه على نظرات صديقه الغارقة في اللوحة المعلقة في مكتبه.
أدرك المحامي زارا من ملامح صديقه، ومن استمرار التيه في نظراته، بأن تلك الجملة لم تكن كافية لاستفساره الصامت، لإنقاذ نظراته من غرقها، لذلك بدأ ينسج ما بين ثنايا اللوحة، سارداً قصة لوحة طفولته :
قد تبدو لك لوحة جميلة فحسب، أما بالنسبة لي فهي لوحة الطفولة وإشراقة الحياة.
تفوح بعبق المراعي، أشم رائحة أبي، أمي، إنها عشق الكوردي المتجذر للمراعي العالية “زوزان”.
تمدني بقوة لا حدود لها، تربطني بمهد طفولتي، بتاريخي.
إنه الحنين للمكان، تشرق في روحي ألقاً واستمرارية.
أستحضرُ تلك المرحلة بكل تفاصيلها المفرحة والمحزنة، كما أشيائي الصغيرة وأحلامي الصغيرة أيضاً.
وأشياء أخرى لا تحكى , ولامقدرة لك على رؤيتها، وما أكثرها.
إنها قصص ما وراء الألوان.
وهذه اللوحة، صورة حقيقة لمراعي قريتنا، كان ذلك في ربيع السنة الماضية.
صورتها في آخر زيارة لي لقبري والديّ، وكالعادة أزور المراعي أيضاً.
هنا تكمن طفولتي، هنا كانت علاقتي الأولى بالطبيعة وبكل تفاصيلها.
بدأ المحامي زارا يسرد تفاصيل الحياة في اللوحة لصديقه وهما يرتشفان القهوة الممزوجة بعبق الذكريات:
قريتي، شقيقة الربيع وتوأمة روحي، تبدو كعروس تجر ثوبها المزركش بشقائق النعمان وكل ألوان الأزهار، تتربع في حضن دجلة، تحيط بها تلك التلال الخضراء، فتبدو أنيقة أبداً.
قالها والشوق يلمع في عينيه الغارقتين كما صديقه، في تفاصيل اللوحة:
هنا كنت أقضي كل يومي، وأجمل لحظاتي مع صغار الغنم، كنت الراعي، زارا راعي الحمل.
كنت أحب الحمل كثيراً، وما زلت.
تبدو كنتف الثلج التي بعثرتها الهواء، لتتوزع بين خضرة المراعي في حضن تلك التلال.
ألعب معها ومع نفسي، لم أشعر بالتعب رغم كل التعب، شعرت دوماً بخيوط من الفرح تنسج نبض الفرح.
أستمتع بثغائها وأقلدها، حتى كدت أصدق نفسي بأنني أتقنت أصواتها، بل لغتها كما كنت أقول في نفسي.
نتسكع على سفوح التلال بأحلامنا الصغيرة، أقمت معها صداقات، لا زلت محافظاً عليها.
أحياناً كنت أعتقد بأنها تقرأ حزن ملامحي فتصدر صوتاً لمواساتي أو تدعوني لمسرحية المرح.
لو كنت شاعراً لكتبت مئات القصائد في هذه اللوحة الشعرية :
حمل يتقافز، خضرة تبهج الروح في أبهى صورة، غير مبالية بفصول السقوط.
أحجار مغروسة في مكانها لا تبالي بالمتغيرات مادامت في مملكتها.
سماء تمطر زرقة ممزوجة ببياض الفرح، تمطر كل الندى، تستحم بها تلك الأزهار الصفراء والحمراء.
يلمع الندى على صوف الحمل الناصع كما اللؤلؤ، لم يكن قد التصقت به الأشواك بعد.
أما التلال بالرغم من صمتها، فلا تتوانى عن بوح أسرار جمالها.
إنها المراعي بكل تراتيل الجمال.
كان الظلام لا يزال يوشح أكتاف قريتنا، عندما كنت أجهز نفسي للرعي، لتبدأ الشمس بمداعبة الطبيعة، بعد أن تغسل وجهها بقطرات الندى بعد ليل شتائي غارق في العتمة.
أحمل الصُّرة، صُرتي القماشية، خيطتها أمي من فستانها القديم، مما كان يفرح قلبي أكثر من ما تحوي بداخلها.
أحيانا أضع دفتري وقلمي في صُرتي، أكتب وأرسم أيضا، وعصاي بجانبي، عين على حروفي المكتوبة وأخرى على الحمل.
تتراقص أحلامي مع الحمل وعلى دفتري ثم تزهر في روحي سعادة لا توصف.
تتقافز الحملات الصغيرة في مرح غامر فاقفز معها،
كانت ابتسامتي تحوي كل الحملات.
كثيراً ما كنت أتابع مسير النمل، أتحرك مع سيرها، أزيل الحجارة الصغيرة من طريقها، مع إنها كانت قادرة على اجتياز أصعب الطرق وهي تحمل حبتها على كتفها، تعلمت منها الكثير.
العلكة الوحيدة التي كنت أستمتع بها، كانت تسمى علكة الراعي، تلك العشبة الخضراء، لا زلت أتلذذ بطعمها.
بالرغم من عناوين الجمال وكل المرح، أحياناً كنت أحس أن اللحظات كانت عرجاء الخطا، تمر ببطء، وذلك عندما أشتاق لأمي.
من شدة التعب وقلة النوم كنت أنام قليلاً في المراعي، لأفيق على ثغاء الحملان وقد اجتمعت حولي، ترعى وتركض، كأنها تريدني أن ألعب معها.
كانت تشبهني في أمور كثيرة، فهي مثلي بعيدة عن أماتها، وواثق بأنها أيضاً مشتاقة لها.
يبقى نظري معلقاً في السماء، أنتظر أن تخطو الشمس خطواتها نحو الغروب لألملم صرتي وحملاتي.
وعند الغروب يتبدد كل تعبي وكأنني ألون بعصاي تلك اللوحة الساحرة.
رغم كل الصعاب، كان في عيني طفل قوي، أو رجل بهيئة طفل لا يعرف اليأس.
هذا ما تعلمته من الطبيعة..!!!!
حذائي القديم الذي صارعت به كل الطين في قريتنا وفي المراعي، كانت خطواتي به كبيرة .يخفي بداخل فردتيه أصابعي الصغيرة، كان الحذاء لأبي، وهذا ما كان يسند خطواتي، يمدني بكل تلك القوة التي صارعت به طرقاً متعرجة، مزروعة بالحصى والأشواك.
كثيراً ما كنت أمشي حافياً وخاصة في الصيف.
فيغير الغبار لون قدمي.
كبيرة كانت فرحتي عندما اشترت لي أمي حذاءً جديداً يناسب مقاس قدمي، كانت قد باعت البيض لمدة أسبوع وجمعت بثمنه ما يلزم لشراء الحذاء، لتبدأ رحلة التحدي والتباهي.
كنت أرتديه فقط في المدرسة، أقنعت أمي أن ألبسه مرة واحدة فقط في المراعي، كانت هناك رغبة بداخلي أن ترى الحملان حذائي الجميل.
نادراً ما كنت ألبس ملابس جديدة، ملابس ابن خالي الذي كان يكبرني بسنتين، تضيقها لي أمي بفرح، لألبسها في المدرسة، أما ملابس الرعي، فلا تزال تعبق برائحة المكان، برائحة الطبيعة في كل فصولها.
فيما كانت العتمة تفك آخر خيوط الضوء، معلنة عن ليل غارق في السواد، كانت أمي تعد لي العشاء، وتنتظرني في الخارج.
تحكي حكايات كل ليلة.
تغزل الكلمات على شفتيها خيوط الفرح، لتفرش به خطواتي.
امرأة من سمات الخريف، سقط ربيع عمرها لتزهر كل الفصول ربيعاً في حياتي.
تورق مواسم الفرح في مهب ابتسامتها.
هكذا كانت إمرأة شامخة، إنها أمي.
أسندت وقوفي حتى تخلصت قدماي الوحلتان من السقوط، علمتني كيف أهجي حروف الثبات، فأتقنت أبجدية النجاح.
لأجلها أحببت ليال الشتاء، لم أشعر بالبرد وحضنها يدفئ روحي.
كل ليلة، قبل أن أنام كانت تلقنني كما أبي حب الوطن، وطني المجزأ، الملحق عنوة بخرائط الآخرين، وعن شعبي المظلوم، وتلك الحكايات اللامنتهية، لا أزال أحتفظ بنبضها في ذاكرتي.
ولا تزال سماؤها تهطل في روحي أمطاراً أبدية من الحب لوطني، للحرية، للسلام.
أبي، مثلي الأعلى، كل عناويني لتحدي الصعاب، وعنوان مشرق للعيش بكرامة.
كنت أجهل سبب اعتقاله المتكرر بعد اجتماعه مع رفاقه في بداية كل شهر في بيتنا أو في بيوت رفاقه. لكنني كنت أرى فيه تحد جميل، وتلك الإرادة التي لازلت أستمد منها خطواتي.
كان يكرر دائماً لرفاقه، عندما يكبر زارا سيصبح محامي، سيدافع عنا وعن حقوقنا. هذا ما دفعني للنجاح.
رحيله المبكر أنهك روحي، التعذيب القاسي الذي تلقاه في السجن في المرة الرابعة لاعتقاله، كان سبباً لمرضه الصامت الذي غير مسار حياتنا. ليرحل هكذا مبكراً.
بالرغم من صغر سني، كنت أدرك كم كان أبي مناضلاً.
كم أنا فخوربه.
بعد وفاة أبي، بقينا وحيدين، لتختصر أمي كل العالم في شخصيتها، إنها الأم الكوردية.
كانت تعمل في الأرض، تحصد العدس وتجني القطن، لم نعد نملك أرضاً، القوانين الاستثنائية حرمتنا من أرضنا كما جنسيتنا.
لترحل هي أيضا بعد أن أكملت رسالتها.
بمساعدة خالي تمكنت من اكمال دراستي ونفذت وصية والدي، لا زلت أكمل رسالته.
لا زلت أحتفظ بعصا الرعي، لا أزال أراني ذاك الطفل الراعي.
قالها وعبق الابتسامة يملأ سماء روحه، ليختم بها فصلاً واحداً من فصول راعي الحملان.
لا يزال يزور قريته، قبر والديه والمراعي، ما تبقى من نبض الروح.
لا يزال يقضي أجمل أوقاته وهو يراقب الأغنام فوق تلل التلة المشرفة على المراعي، يستمع لموسيقا تنبش الفرح في روحه، يجمع وثائقه الطفولية في عالم ينبض بالنقاء.
لا يزال يستمد منها اكسير حياته.
………………………………….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…