حكمت داؤود و مدنه التي تحولت إلى أكفان لأبنائها

غريب ملا زلال 

صحيح أن حكمت داؤود ( القامشلي 1965 ) عرف كمصمم أزياء للدراما السورية، بل و أهمهم، و يكفي أن نسرد أسماء بعض المسلسلات التي عمل فيها حتى نعرف أحقيته في المساحة التي يشغلها في هذا الجانب، ( باب الحارة بأجزائها، أسعد الوراق، ضيعة ضايعة، البحر أيوب، قاع المدينة، قريش، أعقل المجانين، ليالي الصالحية، حوش المصاطب، ….. إلخ )، حتى أنه في عام 2007 حصل على جائزة الإبداع الذهبية لأحسن ملابس من مهرجان القاهرة للإعلام العربي، أقول صحيح أن هذا الجانب أكل الكثير من عمر و جهد حكمت داؤود و طغى على الأغصان الأخرى إلا أنه لم يهدأ و لم يستكن بل بقي مغرداً عليها و لو من حين لحين، أو بين فواصل المسافات مقتنصاً منها ثماراً أنهكتها النضوج، فكتب الشعر و مارس التمثيل و التصوير الفوتوغرافي، و حمل الريشة و الألوان، و كان له أعمال تستحق الوقوف عندها، بل أقول أن هذا الجانب و أقصد الفن التشكيلي ظلم فيه، و ربما نجاحه الكبير في تصميم الأزياء جعلت قناديله في جوانب إبداعاته الأخرى خافتة، و على نحو أكثر في الفن التشكيلي، رغم إتقانه للغته (لغة اللون) أكثر اللغات الإنسانية تداولاً مع لغة الموسيقا،
 فهو فنان يميل إلى المحافظة عليها، و ممارستها عند اللزوم (بالنسبة له) رغم يقيننا أنها الأكثر لزوماً على إمتداد الحياة، و في الزمن الراهن بجرعة أكبر، لغة التعبير عن الإنفعالات و التنفيس عنها، و التعبير عن الأفكار و تجسيدها، لغة التواصل و التخاطب في أرجاء المعمورة كافة مهما كان إنتماؤك و لون بشرتك و الأرض الذي تنتمي إليه، لكل ذلك و لغيرها أيضاً نقول بأن حكمت داؤود كان يجب أن تكون هذه اللغة الركن الأهم و الأساس لإبداعاته الأخرى، و لهذا قلنا إنه ظلم نفسه أقصد ظلم ريشته، و هو المتمكن من إيقاعاتها القوية و اليقظ حسياً عند الخوض فيها، و القادر على مموسقتها باللعب الرمزي معها و الوثيق الصِّلة للمسافات الفاصلة و البارزة بين جوانبها الكثيرة الحضور، فيركض داؤود بأصابع حافية حتى تبدو النتائج متسقة فيما بينها، بل يركض بروح له كل العلاقة مع تفضيلاته التي تتغير وفقاً لبنية مخططاته المعرفية، و بقلب له كل الخبرة الإنفعالية ذات المسافة الخاصة علّها ترتقي بمهاراته وفق معايير خاصة، فداؤود ينظر إلى الجمال بوصفها جوهر الواقع، و يدرك بأن الشعور به و كشفه هو توافق بارع مع الذات، حينها قد تبدأ مشروعاته المستمدة من ذلك الجوهر بالتوالد على نحو خاص، فينطلق في المقام الأول مما هو كائن، و يبدأ بتحديد هذا الأمر و إيجاد ما هو ممكن، مع التعمق في لبها كظاهرة جمالية لها جذورها العديدة التي تخبرك بالمراحل التي وصلت إليها إستجاباتها المختلفة في ظل أحكامها الجمالية بمعاييرها الخاصة و التي تتلاءم غالباً مع عمليات تشكيله بتفضيلاته المعرفية منها و اللاهثة نحو العلاقات التفاعلية من جهة أخرى، فهو يشعر من ناحية ما بأن وجوده الحقيقي هنا في هذا الجانب، في مزاجة ألوانه، و إن كان هناك (مع التصميم) يرسم على الجسد كما قالها مرة، و هو كذلك، ولكن هنا الأسئلة تستمر في البحث عن أجوبتها، متجسدة من خلال الصورة و الضوء و اللون و التعبير و الحركة، و متمثلة بتداخل الأزمنة مع الحيرة و النهايات المفتوحة، مستخلصاً مشاهده في أكثر من إتجاه مع المحافظة على أحاسيسه و دون أن يحدث أي إرباك لمتلقيه، معتمداً على إلتقاط الحركة المطلوبة و التمكين منها حتى تبقى متوازنة مع العناصر الأخرى في إكمال اللقطة / المشهد، و هو على إدراك تام للقوى الفعلية للحياة و التي من شأنها أن تقوده نحو تصوير صادق يحدد هويته بتجسيد عناصر تعي أهميتها في ذاتها، و تستوعب السبل المؤدية إلى مرحلة ما من الإنتاج، مهما كانت سمات تجسيدها، و مهما كانت حدة طغيان إهتماماته عليها، تلك الإهتمامات التي تحوم في مجال الجماليات و أفكارها التي تكون في غاية الأهمية، و هي التي تسوقه نحو المكونات الجمالية بتوازناتها و تناسباتها، بطاقاتها و نشاطاتها، هي التي تسوقه و تسعى به نحو الأشكال الإنسانية و أمكنتها معززاً الإندماج الذاتي بالمتعة الجمالية، فهو يميل بدرجة ما إلى إشباع رؤيته بإطلاق الخيال و قواها ، العاطفة و تجلياتها من قيودها، و لهذا تأثير في إبراز خبرته في تفسير الظواهر الجمالية، و يسمو إلى لحظات تعلو الرغبة و قيودها، و كأنه يجسد مقولة هيغل في الجمال بأنه إتحاد الفكرة بمظهرها الحسي، أو مقولة شوبنهور بأنه محرر العقل، فهذا التوافق البارع مع مفاهيم مازالت تفعل فعلها سيجعله من تحقيق الشكل في ذاته، أو من خلال خصائصه المميزة كاللون كرؤية مستقلة بها يحاول جاهداً أن يحافظ على مواده الحسية لعمله الفني.
حكمت داؤود يظهر الخراب الذي لحق بالإنسان و بالبلاد و بنزعة تجريبية تدفعه إلى التعاطف مع المنحى العام للإعتراضات الواضحة و الصريحة، و الشديدة الرهافة، و الكامنة في الحياة اليومية و في لغته التي تنبغي أن تقوم في جوهرها على أساس من المثيرات التي تتسم بمواجهة مخاوف خاصة، فالمدينة التي تحولت إلى كفن لأبنائها تشحن النفوس بإثارات إنفعالية مخيفة هي أكبر و أقوى من أي شعور آخر، فالإهتمام بتفاصيل الوجع و بإيقاعات شعرية هو تراجيديا تشكيلية يتقن داؤود كتابتها، عازفاً على عمليات تقريب المشاعر العنيفة و الإنفعالات القلقة / القاتمة، فهو يميل إلى عدم التفكير في الأبعاد ، بل يميل إلى الخيال و الإستمتاع به، إلى البحث عن المغامرة بكل إثاراتها و بكل خطورتها فالأهم عنده إستكشاف بيئات جديدة بكل آهاتها و أوجاعها، و بكل قصصها التراجيدية التي لم تنته بعد. 


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عصمت شاهين الدوسكي

 

ربما هناك ما یرھب الشاعر عندما یكون شعره تحت مجھر الناقد وھذا لیس بالأمر الحقیقي ، فالشاعر یكتب القصیدة وينتهي منھا لیتحول إلى تجربة جدیدة ،حتى لو تصدى لھ ناقد وبرز لھ الایجابیات وأشار إلى السلبیات إن وجدت ، فلیس هناك غرابة ، فالتحلیل والتأویل یصب في أساس الواقع الشعري ،وكلما كتب الشاعر…

فيان دلي

 

أرحْتُ رأسي عندَ عُنقِ السماءْ،

أصغيْتُ لأنفاسِ المساءْ،

بحثْتُ فيها عن عُودٍ ثقاب،

عن فتيلٍ يُشعلُ جمرةَ فؤادي،

ناري الحبيسةَ خلفَ جدرانِ الجليد.

 

* * *

 

فوجدْتُه،

وجدْتُه يوقظُ ركودَ النظرةِ،

ويفكّكُ حيرةَ الفكرةِ.

وجدْتُه في سحابةٍ ملتهبةٍ،

متوهّجةٍ بغضبٍ قديم،

أحيَتْ غمامةَ فكري،

تلك التي أثقلَتْ كاهلَ الباطنِ،

وأغرقَتْ سماءَ مسائي

بعبءِ المعنى.

 

* * *

 

مساءٌ وسماء:

شراعٌ يترنّحُ،

بينَ ميمٍ وسين.

ميمُ المرسى، عشبٌ للتأمّلِ وبابٌ للخيال

سينُ السموّ، بذرةٌ للوحي…

ربحـان رمضان

بسعادة لاتوصف استلمت هدية رائعة أرسلها إلي الكاتب سمكو عمر العلي من كردستان العراق مع صديقي الدكتور صبري آميدي أسماه ” حلم الأمل ” .

قراته فتداخلت في نفسي ذكريات الاعتقال في غياهب معتقلات النظام البائد الذي كان يحكمه المقبور حافظ أسد .. نظام القمع والارهاب والعنصرية البغيضة حيث أنه كتب عن مجريات اعتقاله في…

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…