الولادة الثانية

منى عبدي 
كنت منذ صغري أهوى القراءة وخاصة قراءة الخواطر والشعر والقصص القصيرة. منزلنا الكبير الذي كان يسميه أهل القرية “بالقصر” كانت هناك غرفة صغيرة من هذا المنزل تجمعني بأخواتي الثلاث. نحن البنات الأربع كنا ننام معا ونسهر أمام شاشة التلفاز الصغيرة وطاولتها الكبيرة ذات اللون البني المحروق ومن الأسفل كان لها ثلاثة دروج. واحد منها كنت أضع فيه كتبي المدرسية وبعضا من أوراقي الخاصة التي تحتضن بعضا من الشعر والنثر والقليل من القصص القصيرة. كنت أهوى القراءة بشكل غريب وأعشق الشعر واخبئ كل شيء جميل من الأدب. والدتي  كانت دائما تتشاجر معي وتقول لو اهتممت ِ بدروسك كما تهتمين بهذه الأوراق لكنتٍ من الأوائل في صفك المدرسي. وهذا الأمر كان يزعجني جداً وأرد عليها ويبدأ الشجار وتبدأ المشاكل بيننا، علما أنني كنت أرتب أوراقي وكتبي ولا أعرف لماذا كانت تنزعج من هذا الأمر ؟!!!
استمر هذا الأمر إلى أن دخلتُ في سن السابعة عشر من عمري وتزوجت من ابن عمي الذي طلب يدي لأكون شريكة لحياته، وكان يسكن في قرية قريبة من قريتنا. قبل أن أتزوج ببضعة أيام وضعت كل الأوراق التي جمعتها طوال هذه السنوات والتي كانت عزيزة على قلبي ووضعتها في كيس أسود وخبأته في مكان آمن إلى أن أستقر. 
تزوجت وكل تفكيري بتلك الأوراق وأشيائي الخاصة التي تعني لي الكثير وربما هي لا شيء بالنسبة لاخواتي و والدتي. 
في يوم من الأيام وبعد أن استقررت في منزل زوجي وبزيارة إلى منزل والدي أخذت تلك الأوراق معي، لأحافظ عليها من جديد. 
كان زوجي يعمل في الليل وقد أوصيته أن يشتري لي دفترا من مئة صفحة وبعضا من أقلام الرصاص وقد جلبها لي دون أن يسأل لماذا أو ما حاجتك إلى الدفتر!! أصبحت أكتب في الليل عند غياب زوجي. عندها لم يكن هناك الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي والموبايلات، ففي كل ليلة أكتب نصا صغيرا وهكذا مرت الليالي. أكتب وأنا على يقين تام بأنه كانت لدي الكثير من الأخطاء في الكتابة والتعبير، لكني استمررت إلى أن ملأت دفتري بكامله، وراجعت كل نص صغير وطويل و أجريت التعديلات على ماكتبت، بقدر استطاعتي لأحتفظ بدفتري. 
بدأت أكتب في جريدة “الموقف الرياضي” باسم ابنتي. كنت من عشاق المباريات المحلية ومن مشجعي نادي الجهاد آنذاك، خوفا من المجتمع الذي كان يعتبر كتابة المرأة أمرا معيبا. 
ذات يوم كان لدينا ضيفان شابان من النخبة المثقفة. هكذا كانا يعتبران نفسيهما أو كنت أعتبرهما هكذا، تحدثنا في كثير من المواضيع وبحضور زوجي وتبادلنا الحديث الذي كان ممتعا  لدرجة أنني قلت لهم لدي دفتر أريد أن أعرف رأيكما بمافيه من كتابات، فوافقا وأحضرت الدفتر بفرح وسعادة على أمل  تشجيعهما لي، عندما قرأا بعضا من تلك النصوص. قال الكبير منهما
 إنها كتابات جميلة من أين لك كل هذه النصوص؟ لم أجب عن سؤاله، فسألت الأصغر منه مارأيك أنت ؟!! قال جميل جدا ولكن من كتب كل هذا ؟!! قلت بكل ثقة أنا 
نظرا إلي بتعجب وضحكا ضحكة فيها مايكفي من السخرية 
وقال أحدهما هل سرقت هذه النصوص، والآن تقولين:
 إنك من كتبت كل هذا ؟؟!!! هنا أتت الضربة الصاعقة على قلبي وأسود كل شيء في عيني. انزعجت لدرجة أنه كان بودي أن تنشق الأرض وتبتعلني . سحبت الدفتر من بين يدي الشاب الأصغر، وقلت له لم أسرق من أحد.. 
خرجت من الغرفة والدمعة محبوسة في عيني . انتظرت أن انتهت زيارتهما وغادرا منزلنا، فقمت بحرق دفتري، وكل ما دونته فيما قبل، وقررت ألا أكتب أبدا، وايقنت بأن مجتمعنا يحطم أحلامنا وآمالنا.
مرت أيام وليال وسنوات ولم اجرؤ على أن أكتب أي شيء، لكن ماينبت في دواخلنا لا نستطيع أن نكبحه أو نلجمه أو نقتله، عبر ممارسة أي نوع من أنواع العنف. بدأت من جديد  أكتب نصوصا صغيرة كما فعلت ذلك في الماضي، ولكن هذه المرة، قررت أن أكون قوية، ولا أهتم بكلام أحد، مادمت مقتنعة بنفسي، حتى لو لم يكن ما أكتبه  كتابة جميلة أو مقبولة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد ابراهيم

أنتم يا أيها العالم

الذين تقرؤونني الآن

والذين ستشمتون لاحقًا

<p dir="RTL"...

عبود سعدي

تتساقط الأيام من يدي كأوراق الخريف،
كل ورقة تحمل حكاية، همسة، أو ندبة لا تُرى.
أمضي في الطرقات، أبحث عن ظلّي،
فأجده ممزوجًا بأحلامي القديمة،
تلك التي خبأتها تحت وسادتي،
وظننت أن الفجر سيعيدها حيّة.

العمر يسير كقطار مسرع،
محطات تمر، وجوه تتغير،
وأنا وحدي أرتق ثقوب الذكريات،
أحاول أن ألملم نفسي من شظايا الأمس،
وأغرس خطاي في أرض لم تخذلني بعد.

الحياة ليست ساحة…

إلى أنيس حنا مديواية، ذي المئة سنة، صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة
إبراهيم اليوسف

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا، بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفًا، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلًا وجوديًا، حاسمًا، مزلزلًا. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته،…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…