«مقطع مِن رواية» الأوسلندر للروائي خالد إبراهيم

أشكالٌ وألوانٌ في هذا الكامب العارم في الفضيحةِ الأولى والقتلُ الأخير، يمرّون بي، وكأنهم جثثٌ، بل رفاتٍ مليئة بالجيف، روائحهم كريهة جداً،  فقدوا طعم الماء والصابون تيهاً وضياعاً من على أجسادهم منذ زمن، استفرغُ بمعدةٍ خاليةٍ من الطعام، أصيبُ بصداعٍ في قحف جمجمتي، لا شيء سوى روائح الحشيش، و البيرة المتخثرة العفنة.
حين نزِلُّ في وحل الخطايا، نحتاج من يرفعنا بحنوٍّ دون أن يُذكّرنا بجميله علينا بين الحين والأخر، نحتاجُ شخصاً نمتنُّ لوجودهِ في حياتنا دون أن يستمر في المَنّ علينا بفضلهِ لِخنقنا بهِ، نحتاجه شخصاً يستر عيوبنا إن حدثت، شخصاً دون غيره، يكون طيباً لأجلنا، و يجعلنا نندم أننا حاولنا خذلانه ذات يوم، يجعلنا نندم بطيب ردود أفعاله، يحتضننا كأطفالٍ.
هكذا تحدث إليَّ صباح هذا اليوم صديقي الأفغاني:
ظِلال الأسى انعكست على الحائط رفقة ظِلال الأشياء المُنكسرة التي تصدرها الشمعة الوحيدة بالغرفة المُظلمة، لولا نورها النّارنجي الممتد من لهيبها، استرقتُ نظرةً إلى وجهيَّ المُتعب في المرآة الهائلة الحجم أمامي، ومسحتُ عليه الحزن، إلا أنني فقدتُ جزءاً من فتوني وجمالي.
بدأتُ ابتسمُ له، أشعلتُ سيجارة في مكانٍ ممنوعٌ بهِ التدخين، قُل ما عندكَ أيها الصديق التائه، فأنا أسمعكُ جيدا، إلا أنني لن أبادلكَ هجوم الحديث ولا الردع في الاجابة، فأنني مُرهق حتى الموت.
مدَّ يده السمراء نحو كتفي، وهزَّ رأسه الذي غزاه الشّيبُ، حسناً حسناً، ردَّ عليّ
يا صديقي السوري، قد تبكي السماء ألماً وحزناً على أهل الأرض حين تُغرقهم المعاصي في آبار الضياع، وربما يخترقُ الغُمام صفحتها متجهّماً في أشّدِ أيامها حرّا، أين تأبى الشمس مغادرتها قبل أن تطبع عليها وصمةً حمراء تعزف بحنينٍ على الأفق القرمزي قبل الغروب، لِيُعَسعِس الليل بظلامه سكناً لقلوب أضناها الألم، قد يكون الظلام ملاذاً لأرواحنا تسكن بين هنيهاته نبضاتنا، وقد يكون بداية رُعبنا حين يُطاردنا السهاد من كل حدب وصوب، وحين تنهشنا الظنون، كل شيء في هذا العالم أجلٌ محتوم، حتى الشمس تأفل، والقمر بسلطتهِ على النجوم لن يدوم، وزرقة السماء تتجهّم، و تطلُّ الغيوم باكيةً تُرثي موتى تحملهم الأرض على سطحها، أولئكَ الذين يمتلكون حياةً تتساوى مع الموت إيها السوري الصديق، واهيةً لا يدركون كنهها، هم أجدر بالبكاء على أطلال أرواحهم من الموتى الذين واراهم التراب، لأنهم وُلِدوا موتى، وعاشوا موتى، وحين نفضت الحياة أيديهم عن جثثهم، تذكروا أنهم طوال حياتهم، نسوا أن يعيشوا!!
ألقيتُ سيجارتي قبل انتهائها وعلى عجل، نظرتُ إليه وكأنني أراه لأول مرة، تابع، تابع، تابع، إيها الأفغانيُّ اللعين 
نعم يا صديقي، لن ننفكَ نبحثُ عن ومضة نور حتى تنحلّ عن أرواحنا قيود الخوف، والشّك، والبغض، والكراهية، وربما الألم من الفراق، أو بقايا حبٍ يتركُ ثقوباً في أرواحنا حتى يبرق نور الله فينا حين ننكسر، ونتوب، ونتضرّع بين يديهِ برجاءٍ بعد أن خذلنا أقرب الناس.
في جسر حياتنا الممتدّ إلى حيوات الأخرين، نحتاج منهم من يمنحنا حباً صادقاً دون مقابل يطلبه مِنا، دون شروط، نحتاج من يتقبلنا على طبيعتنا بجوانب أرواحنا المضيئة الطيبة، والمتعة أيضاً، وحين ينفضُّ هؤلاء البشر مِن حولنا، نزهد في الحياة، ونعتبرها موتاً مؤقناً، هو نفق ممتدّ إلى موتةً أزلية.
خيّم الصمت بيننا فجأة، لم يتابع الحديث، وانا لم أحثه على المُضي في هذا البرزخ الجارف لروحينا المتعبتان، وقفتُ على طول قامتي ومشيتُ داخلاً غرفتي القريبة، تمعنتُ الجدران، استويتُ ألماً وقهراً، بعدما أن حطمتُ كلِّ ما بالغرفة مِن أثاثٍ متهالكٍ، سريرٌ حديديٌّ هشّ خفيف، أغطية ووسادة وخزانة مِن الحديد التنك الرقيق الذي لا يستوعب ربع ما في حقائبي من حزنٍ وألم، وبراد صغير لشخصٍ عاجزٍ عن الطعام والشراب، وكرسي خشبي بارد، ودّتُ لو ابتلعتني الأرض وهوت بي في فجٍ عميق، لو أنني أفقدُ هذه الأنفاس البائسة التي تخترقُ فتحات أنفي، لن يُحدِثَ ذلك فرقاً، لقد دفنتُ أحلامي من قبل، تحت تربة اليأس منذُ اتخاذ قراري باللجوء إلى هذا الكامب، لذلك، أريدُ أن أنتقم من نفسي أولاً، وممن حولي من أهلٍ و أصدقاءٍ ومن أحلامٍ، فارتكبتُ الخطيئة ثأراً زائفاً لتلكَ الكرامة المهدورة، لا أظنُ أنهم سيشعرون بألمٍ طويلٍ لفراقي، لأنهم قالوها في مضى، أيامٌ و سننساكَ، لذلكَ هناكَ من يصبر، ويصابر، ويرابط، حين يفقد الأمل في شيء تمنّاه، ربما حلمٌ، ربما شعورٌ يريد من شخصٍ أخر أن يبادله معه، ربما شخصٌ عزيزٌ، فيدرك يقيناً أنّما فقده لحكمةٍ إلهية، ولطفٍ خفيّ من الله، ويسعى لتعويض ذاك الألم بنفحاتٍ من الأمل، ويبدّل الحروف، ليحوز بالانتصار الزائف، وهناك من يقنط ويصيبه اليأس، فَتُظلمُ روحهُ، ويمضي هائماً لِملء ثغورها بالخطايا لكنها لن تمتلئ أبداً، سيغوص حتى تموت نفسهُ غريقةً في العتمة.
لن أنسى كيف كانت تشككُ بكل كلمة تخرجُ من فمي، وبكلِّ عملٍ يصدر!!
لن أنسى كيف كانت تمنحني ثقةً زائفةً محفوفةً بالشّكِ والترقُّب!!
 قد نظنُّ إننا نمنحُ حياةً مثاليةً لِمن نحب، ولكننا نؤذيهم بظنوننا السيئة، وحرصنا الشديد على تتبُع كل شاردةٍ  وواردةٍ تبدرعنهم، وقد نجعلهم يشعرون بالخزي دون أن نتركَ لخطأ يرتكبونه أو زلة ذنبٍ، وربما يفقدون الأمل في أنفسهم، حينها سيغوصون في الرزيلة دفاعاً خاطئاً عن حقهم في الحياة

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…