ميلاد أمين يشعل وجع الحكايات

غريب ملا زلال 
حين إلتقطت عيناي عملاً فنياً لميلاد أمين ( 1990 -حلب)، عملاً مغايراً للسائد، عملاً فيه من الدهشة و الذهول ما يكفي لإسكات ألسنة الرغبات، و إشعال وجع الحكايات، فيه من الحنكة و الذكاء ما يكفي ليلخص الوجع السوري، بل الوجع الإنساني كله حين إستعان بمشهد بصري يضم رفات 240 كائناً، منتظماً على خمسة خطوط أفقية كل منها تحمل أربعين رفاتاً مكبلاً، بألوان مختلفة تمنح المشهد روحاً جديدة تنبض على دوام الصفعة، من الوهلة الأولى إعتقدت بأن ميلاد أمين يلعب لعبة إرتخاء الألوان و بعثرتها بتجريد مبسط، و لكن بمطاردتي لإنفعالاته أدركت أنه إستهلك كمّاً من الأحاسيس ومشتقاتها وهو يهم بالإستحمام في هذا المشهد المهيب، مشهد لهويات مختلفة بمستويات متجانسة،
 فتفكيره أقرب إلى ما يسمى الشخصية جَمْعية الرؤية، و التي تحتاج في مستوياتها المتعددة إلى مصدر للإلهام أولاً، و إلى التذوق الفني و الإدراك الجمالي لكل عمليات اللاشعور قانيا، و التي يصعب التعلق بها على إمتداد القلق، رغم أن جوانب تحويل الأفكار، و إستدماج الموضوعات لهما تأثيراتهما الإيجابية على كيفية إستثمار التلميحات و التفاعلات في الروابط الإبداعية و في عمليات تركيز الطاقة الذاتية على الخبرة الجمالية، و تساميها في الدقة و الإتقان، مع نشوء نزعات إندفاعية بتعبيرات جديدة تمنحنا إنطباعات متناثرة تتجلى في حالات التناسق بين نقاط الإرتكاز في جوانبها المختلفة، فالمجال البصري عند ميلاد أمين، بتوتراته البطيئة و الهادئة هي التي ستجعل طاقات المتلقي و تساؤلاته تتجه نحو لانهاياته، نحو حقبة من التمازجات التي باتت على ملمس من دوائر الذاكرة و التي يمكن إعتبارها حاملة لملامح مرحلة ما، بعيدة عن تلك الرتابة التي باتت صدى لكثير من الأعمال التي تلد بموجب عملية قيصرية من الفنان ذاته، و إن كان المولود مشوهاً، أو غير مكتملاً، فالأهم هنا أن تكون صرخة المولود مدوية و إن بنبضات غير مؤثرة.
ميلاد أمين من خريجي كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 2007، قسم النحت، و له طقوسه و أدواته الخاصة في تعامله مع الكتلة و الفراغ، طقوس تتسم بالرشاقة و النصوع مع تعزيز الحركة في إتجاه خاص دون تحييدها في الإتجاهات الأخرى و دون أي تعثر في تتبع مسار الإنتقال إلى الشكل الذي يبحث عنه، و أدوات بنمط خاص بها يؤكد ميلاد أمين بأن نقاط المحور للتكوين ما هي إلا تفاعلات متتابعة لمراحل الحركة في الجوهر بهدوئها و قوتها، و بالمؤازرة مع سرعتها المشدودة إلى تلخيص المسافات و جمهرتها في مستويات تركيب العمل الفني متمثلاً بالإفتراض المسبق للعلاقات المناسبة في شبكة تصوراته والتي تتطلب حدساً إدراكياً، و تمكناً تقنياً ينبغي عليهما أن يدفعانه نحو تنظيم تلك الإستجابات الإنفعالية بأسلوب يعطي إنطباعاً بالصلة المباشرة بالمناهج غير التقليدية، لا ينقصها العمق، و لا المهارات التقنية، بأسلوب فيه الكثير من الدقة و الموضوعية، فيه الكثير من الإقتراب من البنى الدينامية المأخوذة من الواقع المحسوس، و على نحو يحافظ على قيمها الفنية الجمالية.
ميلاد أمين لا يحب أن يقيد بصفة تعريفية معينة حسب تعبيره، و إن كان نحاتاً له نمطه المرتبط بمسافات مهمة تخصه هو، مرتبط بالإرتقاء بالعمل الفني، و المعرفي، مرتبط بإكتساب خصائص حسية مع توفر إمكانات تعبيرية، و توفر المهارة في إستخدام الوسائط المختلفة، ربما هذا الجانب من التفكير جعله يدخل الإخراج السينمائي، فيخرج لنا مع صديقه بيرم غيث الفلم التسجيلي القصير “أرض المحشر” و نجح في ذلك و شارك به في مهرجان برلين السينمائي “المنتدى الموسع” و لفت إليه أنظار مهمة، نال إعجاب الكثيرين، الفلم الذي يلخص حالة حصار حلب في أيامه العشرة الأخيرة، يلخص ما تعرض له المدنيون و تحديهم للقصف و الحرب و الجوع، و بذلك يلخص أمين حالة إنسانية عامة لا تختلط فيها الأحكام الأخلاقية، و لا تضيع عندها القيم الإنسانية.


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…