قراءة في صكوك الماء للشاعر علاء شقير

كمال جمال بك
عن دارِ البلدِ للطّباعةِ والنَّشرِ والتوزيعِ في السُّويداء – سوريا صَدرتْ المجموعةُ الشعريَّةُ الأُولى للشَّاعر علاء شفيق شقير، مُتضمّنةً سبعةً وثلاثين نصّاً تنتمي كلُّها إلى أُسلوبِ القصيدةِ العربيَّةِ الحديثةِ بشقّها النثري. وعلى مدى مئةٍ وصفحتين من القطعِ المتوسّط يفردُ الشَّاعرُ مختاراتِهِ المنتقاةَ بين عامي 2008 و2019.  وتتنوَّعُ المضامينُ في المجموعةِ، كما تتلوَّنُ الأنماطُ بين قصائدَ طويلةٍ وأُخرى قصيرةٍ، مع قواسمَ مشتركةٍ بينهما هي التكثيفُ والاختزالُ، والمراوحةُ بين اللغةِ المُبسَّطةِ والتركيبِ الرَّمزي، ومداورةِ الصُّور بين ضفَّتي الحِسّيّ والمُجرَّد:
“لا سَماءَ فوق .. لا سَماءَ تحت
وأنا … نشيدي الحرُّ المدفونُ بي
هازئٌ منْ جثّةِ القَدرِ مطهوَّةً بماءِ خيبته
هائمٌ في تصاريفِ الممكنِ وعطشِ جنوني باللَّون
مسافرٌ بحقيبةِ المُكتَسَبِ 
 لأجلِ صفقةٍ
بما يلزمُ من المُحدّدِ والمعلومِ
لمقايضةِ الموت.” (97).
بهذا المقطعِ من قصيدةِ “تسليم” والتي فيها سطورٌ من مقايضاتِ صكوك الماء، اختتمَ الشَّاعرُ مجموعتَهُ، في حين بَدأها بعدَ الإهداء بمقطعٍ للشَّاعر سليم بركات، ولعلَّهُ أَرادَ من هذا المدخلِ أنْ يكونَ شِبْهَ مقدّمةٍ بما تحمِلُهُ من دلالاتٍ فنيَّةٍ وفكريّة:
“.. البارحةُ خطأٌ مقصودٌ من أخطاءِ  هذا اليومِ …
الغدُ خطأٌ، سَهواً، منْ أخطاءِ الغدِ الذي  يليهِ،
الزَّمنُ  بِرمّتهِ  خطأٌ في حسابٍ لنْ يَتمَ تصحيحهُ إلا بالنِّسيان ..” (7).  
في المتن ِ هناكَ علاماتٌ فارقةٌ يمكنُ للقارىء أنْ يتلمَّسها، في مقدّمتِها حضورُ الأَنا مُفردةً تارةً، ومُتعشّقةً مع الذَّاتِ الجَمْعيَّةِ تارةً أُخرى، ومن دونِ أنْ يذهبَ الشَّاعرُ بنصّهِ للتوثيقِ المباشرِ  ترتسمُ ملامحُ الكارثةِ السوريَّةِ وآثارُها عبْر مستوياتٍ متعدّدة،  فمفرداتُ الموتِ والضّياعِ والوحْدة والكفَنِ والمدْيةِ والخذلانِ  والخوفِ والهاويةِ والانكسارِ  والمنفى ومثيلاتها تَطْغَى على مساحاتٍ واسعةٍ من سجَّادةِ الكلامِ والعناوين، حتَّى لا يكادُ يبينُ منها سوى “كسْرَةِ أَمَل”، بلْ إِنَّ انسحابَ الذَّاتِ أَحياناً في مثلِ هذهِ الظروفِ وانغلاقَها  على نفْسِها هو جزءٌ من انعكاساتِ هذهِ الفَاجِعَة: 
“يوما ما 
سأبكي
الحياة والحلم والموت
السماء والضوء والوقت
ووطنا لم يعلمني
سوى البحث عن منفى” (74)
في  الفَاجِعَةِ أَهلٌ، وأَصدقاءٌ  أُخوةٌ، وأَحبَّاءٌ، وبيوتٌ ، وفي البيوتِ أَلوانٌ يفتحُ فيها السُّؤالُ فَمَهُ: “أينَ افترقَ المُمكِنُ عن سبيلهِ في حصَّة الرَّسم الأولى ..و كنّا أصغرَ من قلقِ الخرائطِ؟”:
” اجتمعتْ دفاترُ رَسمِنا على أمانِ اللَّون ودفءِ الحياة
ببيوتٍ لها نوافذ
تزيّنها زقزقةُ الفرحِ  وبساطةُ الخربشات
لا أذكرُ متى صَارَ معي مِفتاح
لقلبي، لمفكِّرتي، للقلقْ
وصارَ لديَّ أقفال
انقلبتْ كؤوسُ النَّبيذِ
مملوءةً بأَصحابِها
وقدْ تعاهَدوا على الحربِ
تطايرتْ الصَّفحات
تغيّرتِ الأَلوان” (78)
عنْدَ الأهوالِ تحضرُ (يَا سَنَدِيْ)  تِلك َالكلمةُ المُشْبَعَةُ بالمحبّةِ والمَسْؤوليَّةِ، ولأنَّها ليستْ لَغْواً  تنسَكبُ في مقاماتٍ شَجيَّةٍ، في المقامِ الأَولِ حيثُ الإِهداء:
” كنتُ غَضّاً حين غدرَ بهِ الموتُ، إِذ خذلتْهُ الحياةُ..
ولمْ يقلْ:  وداعاً.. أبي “(5)
وأَيْضاً في مَقَامِ القَصيدةِ ” أَبيْ ألا تعودُ يوماً؟” :
“تعالَ .. اسْنِدني 
أو خُذني إليك
فما زالَ تقويمُنا يكرِّرُ التَّقويمَ المكْسُور
والذِّكرياتِ المحطَّمة 
وأنا المُنفردُ بأَحبِّةٍ رحلوا
آثروا اختبارَ غيابِهمْ
وأَوصدوا أَبوابَ العودةِ.(53).
وفي ثَنايَا مقاماتِ النُّصوصِ وهيَ تدفقُ من منْبعِ القلْبِ إِلى مَصبّ الكلمات، وفي رحيلِ الأَب وغيابِهِ يصيرُ حضورُهُ ثَريّاً في التَّفاصيلِ، ومُعمّقاً بالذكرياتِ، ومُنيراً بالاشاراتِ، مَنجاةً من عَثَراتِ الحَياة.
في السّيرة الذاتيّةِ نشَرَ الشَّاعرُ علاء شقير  عَدداً من قصائدِهِ وقصصِهِ في الصُّحفِ والمجلاتِ العربيّة، وشاركَ في الأُمسياتِ الشّعريَّةِ والمهرجانات.  ولهُ مشاركاتٌ في القصَّة القصيرةِ جدَّا في كتبٍ ورقيَّةٍ وألكترونيَّةٍ مع كتّاب من الوطنِ العربي. نالَ جائزة ملتقى الشارقة للشعراء الشباب في دمشق شباط عام  2011 .  وفازتْ قصَّتُهُ ” ضفدع” مؤخراً بالمركزِ الأَوَّلِ  عن مجموعةِ جوائزِ لُغَةِ الضَّاد. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…