هيفي الملا
وقف أمام مرآته كعادته كل صباح امتعض لبعض شعيرات بيضاء باتت تغزو رأسه ، سرح شعره تعطر تهندم حمل حقيبة أوراقه ومضى للعملِ بفعلٍ آليٍ يمارسه بشكل روتيني كل يوم، ابتسم لجاره الذي صادفه على الدرج مخاطباً إياه بفمٍ فاغر، اشتقنا إليك جار لنسهر معاً ذات أمسية، ومثل كل مرة يتملقُ فيها نكزه الجني الرابض تحت ثيابه، هامساً له : أنت لاتشتاق إلى أمك يارجل لِمَ الكذب؟
يصل لمكتبه، يبتسم لزميلته ويثني على أناقتها الخاصة، وتناسق ألوان ماتلبسه، يلكزه الجني مرة أخرى لاتكذب يارجل، فزميلتك هي نفسها بروتينها اليومي وجمالها الباهت وعيونها المنطفئة .
يُحادثُ زميله المجاور، أمضينا سهرتنا العائلية ليلة أمس، ونحن نقرأ معاً بكتابٍ رائع استفدنا منه جميعأ، بعد أن أنهى الصغار واجباتهم المدرسية، يلكزه الجني لاتكذب يارجل، فالأطفال دفنوا رؤوسهم في التابلت حتى ناموا، وتململتْ زوجتك من شخيرك والشمس لم تغبْ بعد .
يدخل وهو يحملُ ملفاً لمديره، أوه ما أشدَ أناقتك اليوم!! كم أقتدي بك شكلاً وحيويةً وسمو مكانة، يلكزه الجني مجدداً، كنتَ تغاتبه مع زميلك البارحة، بأنه جشعٌ ولايشبع من مص دماء الموظفين، كفاك تملقاً يارجل .
يرجعُ لمنزله ومسحة التعب والتردد تعلو سحنته، يخاطبُ زوجته ما أذكى نكهة طعامك! لا أحبذ الأكل إلّا من يديك، يلكزه الجني مجدداً، لاتكذب يارجل، ألم تخبر زميلتك البارحة أن طبخ زوجتك عديم النكهة كما هيئتها؟
يتابعُ برنامجاً في التلفاز ، تدمعُ عيناه لمنظرِ عائلة مرتحلةٍ موغلةٍ في الطين والذل والحزن، يلكزه الجني، منافقٌ وكاذبٌ أنت يارجل، ألمْ تكن تشرب قهوتك اليوم صباحاً على أخبار القتل والمجازر والزلازل، وكتفك تتراقص وكأنك تسمعُ أغنيةً هابطة .
يمضي النهار بطولهِ، يكذبُ صاحبنا بمعدلِ عشرين كذبة وخمسين مجاملة وثلاثين مقولة تملقٍ، ليكملَ يومه ككائنٍ لا أدري إن كان موجوداً أم لا، وبعد أن يؤدي كل واجباته البيولوجية والوظيفية، وإثرَ يومٍ طويلٍ جاهد فيه لينحتَ قواعد أخلاقية تتناغم وسلوكه الإنساني المقرر ، ليجدَ تبريرات يكمل بها دورة حياته اليومية.
يتسللُ على رؤوسِ أصابعه إلى المطبخ يعدُ قهوته الخاصة، يجلسُ متكوراً على المقعدِ متأملاً ظلال الليل على نافذته، يفتحُ صدره ذات تصالح لأصواته الداخلية، لبنات أفكارهِ يتصارعن يتقاتلن، يفكهن حيناً ويتأملهن حيناً آخر، يتجولُ في سراديب فكره وأقبية خيالاته المنتحرة بين فلسفة كانط وتوصيفه للحالة الطبيعية للإنسان، بأنه مطبوعٌ على شر جذري، يسترسل عائداً إلى تاريخ أول الجرائم عندما قتل قابيل هابيل، وعندما رُمي يوسف في البئر من قِبَلِ إخوتهِ،
يراجعُ الكثيرَ من الحكم المندثرة والأناشيد المخنوقة والشعارات المغلفة بالزيف ومناهج مؤدلجة وابتسامات مترددة، و تناقضات كثيرة ترمم الجدار المتآكل مابين الحياة والموت مابين الانتماء واللاانتماء .
يشعرُ لوهلة بأنه يعيشُ على حواف الأشياء لا في روحها، يتأملُ صمت كل المنازل والقناديل المطفأة، وحكايات لفها الفراغ والصمت .
يمدُ يديهِ لبرودةٍ خارج النافذة، يتأكدُ من أن أحساسيسه مازالت متيقظة وحواسه عاملة، يرتشف قهوته بعمقٍ وأسى، يقلبُ فنجانه كما كل ليلة، لترتسمَ بقايا القهوةِ دوائرَ تمهدُ ليومهِ المقبل وخطوط متداخلة وفراغات متشعبة وأفكار كما المتاهة .
يمدُ أذرعه الخفية في لحظة صدق وحيدة، بعد انطفاء الحلم ونوم أناه الحقيقية، ليسكتَ صخب أجراسهِ و الذئاب التي تعوي بداخله ليسدُ فم الحقيقة والرغبات بالقطن والطين .
ينزعُ الموظفُ المطيعُ قشرته السمكية، يمددها جانبه على السرير، ويشخرُ باستهزاءٍ أو ربما بحقدٍ عميق، ليلبسها في الصباح مجدداً، ويمضي عابراً جحيم وجوده المتملق ليس مرة واحدة بل مراراً وتكراراً .