ديوان للحب وأكثر: عن شيلان دوسكي قليلاً

إبراهيم محمود
لا أدري أي صلة قربى بين شيلان دوسكي  Şîlan Doskî ، الناثرة الكردية، الشاعرة الكردية المأخوذة بهوى الورد وجمع الورد في أصنافه وأعرافه بلغتها الكردية، كما هو حال قاموسها ذي الطبعة الكردية ” قاموس الورد ” الذي عرَّفت به قليلاً قليلاً بالعربية قبل حين من الدهر في موقع ” ولاتى مه ” وهي ابنة دهوك الكردية ، من مواليدها الكردية ” لعام 1974 ” وهي التي تجمع إليها ألفة لغات ثلاث: نطقاً وكتابة: الكردية لغتها، والفارسية والألمانية في إثرها، حيث تقيم الآن في ألمانيا. سوى أن الذي يمكنني قوله، وأنا أتنقل بين صفحات ديوانها المعزَّز بالكردية، بأكثر من معنى” جمر الحب Helara evînê ” والصادرة في طبعتها الأولى عن دار نشر Ajans  ” آمد ” لعام 2021، تقاسمت في نصوصها الشعرية التي تنتمي إلى العنوان المذكور ألوانها المختلفة من حب وخلافه، من توق وخلافه،ومن مكابدة غربة وخلافها، كما هي وضعية أي إنساني يعيش أوجاعاً شتى: جغرافية، تاريخية، كما هي حالة الكردي في التعريف بنفسه المنقسمة قهراً جغرافياً وتاريخياً، وما يترتب عليهما من خصوصية للأوجاع تلك، جرّاء الانقسام ذاك..

هذه اللاأدرية القائمة، المعلقة في هواء السؤال الفضولي بعائده الشعري هنا، ومكنونه الجمالي شعراً هنا، مطروحة في الفضاء الوجداني والمعرفي لبنية المثار طي ” جمر الحب ” إلى حين، على خلفية من قراءة ” جمر الحب ” وتحرّي انتماءات المسطور بين دفَّتيّ ” جمر الحب “، فثمة ما يعرَض للتسمية، ثمة ما يكشف عن حقيقة العلاقة/ القرابة هذه، ثمة ما ينكشف جواباً ما، أو أصْل جواب ما، على وقْع هذه القراءة المتنقلة بين صفحة وأخرى، حيث تتجاور الكردية بطريقتي كتابتها: بالحرف اللاتيني وتالياً في الصفحة عينها: بالحرف العربي، كما هو المتداول في إقليم كردستان إجمالاً، وهي ميزة غير مألوفة، كما لو أن إجراء كهذا إشهار ببنية الذائقة بالكردية هنا وهناك، ونوع من الاستجابة للقراءة المجازة في الحالتين والتعليم ضمناً كذلك .
في وضعية شيلان دوسكي الشاعرة هنا، وانطلاقاً من المثار أو القابل للقراءة المباشرة عبر عنوان مجموعتها الشعرية ” جمر الحب ” لم أشك البتة في أنها جمعت في كتابة نصوصها هنا بين أن تكون فراشة تارة، ونحلة تارة أخرى، وثمة احتراق في الحالتين. هل تعيش شيلان دوسكي داخلَها بين نسَب زرادشتي، المتمحور على النار، لاستخلاص الزبدة: النور، ومسلك في العلاقة مع الكتابة عموماً، والشعرية منها خصوصاً، بوصفها وضعية احتراق على مدار الساعة، ودون هذه النقلة القائمة، هذا الإيمان باليقين الناري، لا إمكان لولادة الشعري؟
ماالذي يصلها بكل من الفراشة والنحلة، يا تُرى ؟
هناك أكثر من محفّز لتكون شيلان مركّبة  شعرها انتساباً إلى كل من الفراشة والنحلة. في الفراشة ما يصلها بالنار الكثير الكثير،  لعلها في بنيتها شاعرة، وهي بخفة طيرانها، بهسيس جناحيها في الهواء،وهي تبث الزهر والورد وما صنعته الطبيعة من أخضر نبات وسواه، ما يجعلها محل ترحيب، وربما كانت في حقيقة أمرها وردة أو زهرة، لكنها تطير، أو تتنقل طائرة على ارتفاع منخفض، لتحسن قراءة المنتشر في الطبيعة، وكانت الوردة في أصل تكوينها فراشة وهي بخفة وزنها وروعة تكوينها، لكنها مستقرة في مكان محدد، وفي كل منهما ما هو ناري، ما يلفت النظر، حيث تحترق الفراشة لتصبح لامرئية، وتخرج الوردة من ثنيات أفواها من صنعه تكوينها رائحة أو عطراً أو جمالاً يؤخَذ به تأملاً  وإعجاباً، وهي المستحمة في الشمس.
في صنع النحلة ما يجعلها محل اعتبار، وهي الحرفية خلقة في معرفة الزهور- الورود، في معايشة أسرار الطليق رائحة أو عصارة كل طائفة من الورود أو الزهور، أو أي منها، لتحيل المأخوذ إلى عسل مصفى، بديع الطعم، أثير الهضم، كما لو أنها تحترق بطبيعتها، ليكون في العسل مأثرة نور، خلاصة تفان في عمل النحلة..
هل ابتعدت عن شيلان دوسكي و” جمر الحب “؟
في متابعة نصوصها ” الجمرية ” يتواجد هذا الجمع الغفير من الصور والنقلات النحلية- الفراشية، هذا الانفتاح الطوعي على النار إيماناً بالمترتب عليه، لضمان ولادة النور.
والشعر مفهوم ناري. وفي النار ذاكرة فضائية، وأنساب خلائق في التكوين، ولكل خليقة ما يناسبها من أسلوب تعامل مع النار تبعاً لفضيلة معرفية معززة نارياً، وما في المحصلة من حصاد ناري: من يحترق قبل الأوان، ومن يحترق بتؤدة، ومن يحترق سريعاً، ومن ينتعش بما هو ناري، وهو يعيش شغف الآتي نوراً. وربما من هذا المنطلق ثمة الشعر : الرماد، وثمة الشعر، المتفحم، وثمة الشعر الشحيح بنوره، وثمة الشعر المتحول ألسنة لهب أو نوراً…الخ.
أين يقيم جسد شيلان دوسكي الشعري؟
ليس لدي تصنيف قطعي في ذلك، إنما ما يترجم قراءتي الموجزة لـ” جمر الحب ” والممكن تبينه في أصل العنوان وما يليه، حيث الجمر يشي بمسيرته التي قطعها ليتجمر، ويفي بالكثير مما يشرّع لمحتواه، وهو يضاف حباً. والحب عائد ناري، وفي الجمري منه قطع أشواط.
دون ذلك هل كان هذا المبثوث في صفحات ” جمر الحب ” ؟
في البوح الكثير، وفي الصريح في بعض منه، واللماح في بعض منه، والخفي في بعض منه، ما يستشرف الديوان المفتوح بعالمه المتعدد المسارات والانشغالات .
كما في في شرفة نوروزية ” هدية نوروز “:
يومي الجديد، يومي وهذا الموطن
آذار النضِر، آذاري وهذه الحال
مزهريتي دون ورد ودون نرجس
دونك بقيت خاوية لمقام النار . ص17 
هذا الاشتغال بالمميّز لحقيقة انتمائها ككردية، ما يقرّب صورة المكان ووضعيته الحياتية .
يأخذ التلوين البصري مشروعيته من داخل هذا التوحد بالمكان وهو محمول بين جنبيها.
وهذا التلوين البصري المتعدد الأنجاد ينفتح على المتخيل وتداعياته الذوقية.
ربما في ” احتضان الأحاسيس ” ما يناسب ذلك كثيراً:
من أجل لقاء احتضان أصابعك
يرقص القلم بين أصابعي..ص35.
وما يصل هذا الانفتاح بسواه صراحة موجعة، في ” أيام الحياة “:
أيام الحياة كافة
كأيامك يا وطن
ذكرات مؤلمة .ص50
وربما كتأكيد على هذا الألم بنوعيته الخاصة، ومؤتاه الشعري، ما تستشفه من دهوكيتها، أعني من مسقط رأسها ” دهوك ” وكيف تراءت لها في هيئة شجرة، وما أدراك ما شجرة دهوك، حيث يومض تاريخ أوجاع، وصور طغاة وجلادين عصفوا بها كثيراً:
أسفل غصونها
بأحلام يومية
أصبحت لاجئة ..ص53 
أو في المثال الأقرب لما تعيشه تجاه الآخر شغفاً، بمفهوم ناري. كما في ” التهليل “، حيث تعبّر عن حال نفسية لها، بلسان نظيرة لها، أو من تعيشه حباً، بتسميات حية:
الشوق إلى كلمات أصابعك
تنمّي نار صدري…ص103 
لعله من المؤكد أن هذا التنويع في التسميات، وفي التعابير، وفي الموضوعات، ترجمان الحالة المركَّبة للكاتبة الشاعرة، أو الشاعرة الكاتبة، بوصفها عوالمها المعاشة، ولها منها وفيها ما يمنحها مشروعية الاستمرار في الحياة، والإقامة في الشعر.
وبغية التعرف إلى بعض من هذا التنوع والمعايشة الشعريين، أورد أمثلة مترجمة من ” جمر حبـ:ـها “، ربما كان في ذلك ما ينير القول الشعري وانبثاقات معانيه أكثر:
طيران
التحسُّر على رؤيتك
مثل مشهد حبّ
عندما أنظر إليه
مثل أفق ضائع
أنّات قلبي
ماتت طيّ قلبي
لن تبلغ أحياء قلبك
ليتني أنا كذلك
كنت نشيطة كطائر كركي
أحلّق
من خريف قلبي
إلى ربيع قلبك . ص11
عاشقة نوروز
بإرادتي وروحي
أشعِل نار نوروز لأجل عاشقي
لسَنتا الكُردية
على جبلي آكِري وجودي
أصبح سراج ليل نورزياً
تأجج من النار، عشق مبارك
ختاماً يا فتاي قُل:
صحبة كل آذار
تجدُّد كل سنة
اشتعال نار قلبي
نبْش جروحي. ص 14 
شحّاذ
لتعبير إرادتك
عينان باكيتان
يدان خاليتان
إرادتي قلَم
في الكتاب الفارغ للقلب
وحيدة وحيدة
شحاذة أنا
شحاذة طريق القصائد. ص 15 
نداء المرأة
أنا كنتُ المذنبة 
في ليالي الحب
كنت سراج الليالي المعتمة
في حضن إرادة خبيئة
كنت فريسة نسْج الحياة
البريء بدوره كان الشرف
قتلة المروءة
كان الأب، الأخ والزوج
ألا ليتهم لم يكونوا كُرداً. ص26 
 
أيام الحياة
 كل أيام الحياة
مثل أيامك يا وطن
ذكريات معنّاة
من سحابة حبي
تمطر شعاعات الدموع
قوس جُمل متنهدة
في سماء قصيدتي
تبحث عن نقطة أخيرة…ص50 
نَــمْ
نَم وجعَ القلب، نم
هموم القلب التعِبة
نصبت خيمتها مجدداً
على صدر بحر القصيدة
بحُلْم دون مأوى
في حضن أمواج شاردة
بموسيقا حروف حبك
أوقِظ هموم القلب للرقص . ص54 
ضيف
تحت خيمة الأنفاس
مازلت أشعل فانوس الاشتياقات
بحضن حس أصابعك
أسدل ضفائر مجدولة على سيماءات
الليل الضائع
دمعات،
تسكِر جفون العيون
كل ليلة
تصيّرك ضيف حلْمي. ص 75 
حصار
حاصرتني  الهموم  والتأوهات..
الآمال في مغارس اليأس نبضتْ
روحتك
من ملذات حياتي …ص78 
أنفال
ملاك في مقبرة جماعية
دون لسان،
دون وطن،
أمام قصة باسم ” أنفال “
دون ” كان يا ما كان “
دون أنت يغمض لها جفن
ووريت الثرى
ملاك ، هذا اليوم أيضاً
تصرخ من القبر نفسه:
خذوا عظامي
لترقد في أرجوحة التراب الطاهر لكردستان..
تُرى من مشهد شبشبي 
متى يجفل قانون الإنسانية؟ ص 89 
دعها
دعها،
دعها في عش عِلّاتي
حمَام الحياة كنت أنتَ..
في حقول الحياة الأربعة 
جذور شجرة حبّي كنت أنت
دعها أسفل الثلج والمطر
سماء صحوي كنت أنت 
دعها أحاسيس دفئي
تتندى
في حضن ليلتك …ص90 
هذا اليوم
هذا اليوم
إزاء صمت قلبك
أثار برْق سحابة الأحاسيس
أمطرَ دمع
 من سماء دون لون
 على حقول حبنا
” عروس المطر “
خطفت
حلْم اللقاءات
من عينينا كلينا . ص 91 
فانوس
الليلة التي
واجهت سفينة أحاسيسي
وسْط أمواج قلب البحر
شاطىء حبك
من الليلة تلك
إلى الليلة هذه
لا زالت عيناي ثملتين
من فانوس عينيك
وقصيدتي كذلك
لا زالت من دفء 
عذوبة شفتيك..ص93 
الرغبة
كان الحب حساً رحالاً
لا أنا ولا أنت أراد
الحيلولة دون اشتعاله !
إذا كان قد حرَّم عيناً ما من النظر
أخرس لساناً عن الكلام
أطرش أذناً عن السمع
أقصى يداً عن الاحتضان
فإن الطبيعة قد خلقتهما لبعضهما بعضاً
وأن عواصف إلهية
لم تشأ رجرجة ولو لحظة من رغبتنا . ص106 
=======

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…