بسام مرعي
(( الكلمات جروح معارك خالدة أما البشر فهم جروح معارك عابرة ))
ريدي مشو
حبوكر : عنوانٌ ملغزٌ يثيرُ شهوة القراءة لخوضِ غمارها، ولا تلبث تنفكُ الأحجيةُ شيئاً فشيئاً بعد بداية مبعثرة، تحاولُ لملمتها كحباتِ قمحِ رمو المرشوشةِ من يديهِ والحاضرة أبداً في جيبهِ ، وكأن المؤلف بها يبذرُ ويزرعُ على أرضيةِ المتن الروائي لينتجَ حبكةً ونسيجاً روائياً تتلقفُ أحداثه، وما ينفكُ ينقشعُ الضبابُ عن العنوانِ المتواري ليكون دالاً على أحداثِ الروايةِ وتفاصيلها .
لا بد َإنّ الفضاءَ الروائي في هذه العملِ هو العلامةُ الأخرى المميزة، لما تحمله هذه البقعة المكانية أي القامشلي من دلالاتٍ على مختلفِ الأصعدة،ولمايحمله المكانُ من غنى إثني وايديولوجي فهو بؤرةٌ تجتمع فيها شبكةٌ من العلاقاتِ التي تجمعُ بين عناصر الروايةِ المختلفةِ من خلالِ حقبةٍ زمنيةٍ محددةٍ توسم الأشخاص بسمات المرحلة النفسية والأيديولوجية، فالمكان بهذا المعنى في رواية حبوكر ليس فقط الخلفيةُ التي تُبنى عليها الأحداث فقط، ولكنهُ فضاءٌ متكاملٌ ومتفاعلٌ مع الأحداث والأشخاص، كما في شخصية آرنينا ذاتِ التوجه اليساري الشيوعي والمتمردة على المجتمعِ وتجلى ذلك في علاقتها مع محيطها الذكوري، والذي يتظاهر بعكسِ ذلك المنطق منطلقاً من النزوعِ للفكرِ ِالماركسي .
أو المنخرطين مع قوات الحماية الشعبية الكوردية في سياقٍ سياسي وايديولوجي ، ومايحمله هذا التيار من طقوسٍ يتبناها للتعبيرِعن حالته الايديولوجية ، وحتى في شخصية رمو النمطية المنفعلة والمتأثرة بما حولها .
طبوغرافية المدينةِ في هذه الرواية أي القامشلي مدروسةٌ بعنايةٍ بحاراتها وناسها ، و الراوي يتناولُ قاع المكانِ حيث حضيض المجتمعِ ولكنه الاكثرُ تميزاً، وهناك تلازمٌ واضحٌ في العلاقة بين المكان والأحداث مما منحَ الرواية تماسكها وانسجامها، بل وتحددَ مسارُ البوصلةِ والاتجاه الذي تسلكه الحكاية من خلال تصاعد الأحداث شيئاً فشيئاً وصولاً للخاتمة.
((الطرفيون هم جوهرُ التغيير حيث لاشيء يقود إلى التغيير بقدر تلك القضايا التي تحدث أمامك ولا تعنيك بشكل مباشر حيث تمتلك فسحة للتحرك فيها ومعاينتها من أوجه عدة بعكس المنخرطين فيها ممن لا يرونها إلا من زاوية واحدة))
مالفت انتباهي أيضاً أن الكاتب في الرواية شخصٌ طرفي لا منتمي و تفصيلي غير مؤدلج وشاهدٌ حيٌ على أحداث الروايةِ، وحذر من الوقوع في خانةِ الانحياز، ليكون النصُ صورةً حيةً وواقعيةً في الزمكان ، ففي المكانِ تبرز ُهويةُ شخصياتهِ ببعدها الاجتماعي والثقافي والنفسي وحتى الجسدي خلال فترة زمنية محددة تبدأ من 2009 وخلال سنوات الحرب السورية ومن خلال التغيرات في تلك الحقبة تتمظهر شخصيات الرواية والأشياء، وهي متبلسة بالأحداث تبعاً لعوامل عدة سياسية واجتماعية وايديولوجية ذات صلة بالرؤية الفلسفية وبمدى حساسية الكاتب وتفاعله،وهذا يضع الروائي نفسه أمام اختبار بناء الشخصيات والأحداث في زمن الحرب وهذا الامتحان الفني والحياتي يتطلب جملة شروط أبرزها توفر العدالة الأدبية والأخلاقية في الكتابة .
((المنتميون لاأصل لهم لأنهم يتحولون بين الحروب والانتماءات بصورة فجة يخلقون الحروب كي يبقوا على إيمانهم ))
شيءٌ من القدسيةِ أو دعوةٌ للخلود أوهو الإمساكُ بتلابيبِ الزمن، يضيفه الراوي من خلالِ فعلِ تحنيطِ الحيوانات الذي يمارسه جكو والبدايةُ بطائرِ السنون، وكأني به يحاولُ أن يقول : الحياة ليستْ طارئة ولاتتأثر بأحوالها وقضاياها الآنية .
يتماهى الراوي مع شخصياته، وينغمسُ في تفاصيلها النفسية بأسلوبٍ تحليلي لا يخلو من حس فلسفي وخيال جامح قادر على رسم فضاءات جميلة من التعابيرِ، حيث كل شخصية تشكلُ لوحةً خاصة بألوانها وتجلياتها ضمن اللوحة العامة الكبيرة، فهي شخصياتٌ حالمةٌ ومليئةٌ بتناقضات الزمان والمكان الذي تنتمي إليه٠
لسنا من صلب أبوينا وحدهما بل من صلب كل الخيالات التي راودتهما أثناء الجماع ((
)) تشابهُ الأخوة لدرجةٍ كبيرةٍ يدلُ على سذاجةِ أبويهما وعجز خياليهما
وفي حوار أخر بين ملك القماش وابنه جكو :
من يشاهدُ عري الجسدِ ويعيش معه قبل أن يستمتع بالنظر إليه وهو مغطى بالاقمشة والألوان سيحيا قلقا أبداً .
رمو وهو يتبنى دلو :
((دلو أنا سأعتني بك من الآن وإلى آخر حبة قمح على وجه الأرض )) لتبرزَ علاقةُ رمو مع حبات القمح والحنطة، وتتجلى في مواقف كثيرة فهي جزء منه ومن تفاصيله المبعثرة التي يعيشها مع طيوره، و حتى في أكثرِ اللحظاتِ حميمية حيث وجود حبة القمح على العانة أثناء الممارسة الجنسية))
يبدأُ الكاتبُ بطائر سنونو محنط، ويختتمُ بطائرِ الغراب الذي يمزقُ الفجر بنعيقهِ ليكون طليقاً في مسعاه القدري الأسود المنوط به أساساً، وكأن النهايةَ محتومةٌ موزونةٌ على صدى أصواتِ قذائف الهاون .