إبراهيم اليوسف
تعود معرفتي بالشاعر والأديب الكردي هادي بهلوي إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي، عندما كنت لما أزل في بدايات عملي في سلك التعليم، وكان الشاعر إلى جانب أصدقاء ومدرسين مجايلين لي أو سابقين علي يعمل في المجال ذاته، ولعل ما عزز معرفتي به هو أننا التقينا على صعيد التعليم والشعر، في آن واحد، إلى جانب وجود من هم أصدقاء مشتركون، وأذكر من مدرسيَّ المقربين إليه: أستاذنا الراحل إسماعيل عمر ومن أصدقائي عبداللطيف عبدالله والذي كان شاعراً جد مهم إلا إن غوايات مهنة التعليم نالت من موهبته- وإن من خلال ما حال بينهما من فاصل زمني على امتداد عقود- بالإضافة إلى بعض أصدقائي المقربين من ذويه باعتباره كان ابن شخصية معروفة: أحد المليين الشيخموسين، أو الشيخموسين المليين، بل أو أحد الملالي الثلاثة الشيخموسيين: جكرخوين- والقرقاتي والشاغري،
وكان بيننا احترام تمت المحافظة عليه إلى هذه اللحظة، من قبلنا، رغم رسمية لقاءاتنا على هامش ندوة منتدياتية ثلاثائية، باعتباره ينتمي إلى جيل: معلمينا، أو من خلال مهرجان أدبي سنوي، أو مناسباتي، وكان أحد قلة من شعرائنا الكرد الذين يبهرني إلقاؤهم لقصائدهم المكتوبة بالعربية كما: عبدالرحمن آلوجي- عبداللطيف عبدالله وآخرين لئلا أظلمهم، رغم أن أولهما غرق في عالم السياسة وثانيهما غرق في عالم التعليم- كما أسلفت-و أشير إلى هذين الاسمين، قبل أن تظهرأسماء أخرى تكتب على نحو جاد- أيضاً- في مرحلتي ما بعد منتصف الثمانينات والتسعينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة- وأقصد من كانوا يكتبون بالعربية- ومن دون أن أنسى البتة من اشتهرت أسماؤهم في تلك المرحلة في مدينتنا من أسماء: يعقوب ملكي- جورج سعدو، وكان الشاعر المبدع محمد معشوق حمزة أحد شعرائنا الكرد المقيمين في الحسكة والذي يخيل إلي أنه لولا غربته وعمله في مجال التعليم في إحدى الدول الخليجية لكان قد أنتج أضعاف ما قدمه من إبداع!
لنعد إلى الصديق أ. هادي بهلوي الذي كان من دواعي إعجابي بإبداعه الشعري- أيضاً- أنه كان يكتب بالكردية إلى جانب العربية، وإن كان في كلتا قصيدتيه بهاتين اللغتين قد اختار البناء التقليدي، متأثراً بأسماء هنا أو هناك لايفتأ يذكرها، ولا أشير إليها هنا، وهي من مهمة أي عمل نقدي متعمق لتجربته- بعكس هذه الإضاءة الاحتفائية- بالإضافة إلى ماذكره في بعض السرديات- هنا وهناك- أومن لقاءات أو مداخلات ولو في حدها الشفاهي الذي لابد من توثيقه، إلا إن النقد الأدبي ظل مقصراً في الاهتمام بهذه التجربة التي ظلم صاحبها ذاته، باعتباره تأخرفي طباعة بواكير قصائده التي كتبها في ستينيات القرن الماضي باللغتين: العربية أولاً في النصف الأول من ذلك العقد والكردية في النصف الثاني منه، وهو حال عديدين من شعرائنا الذين توقفوا عن إصدار مخطوطاتهم ونتاجاتهم، أو لم يطبعوها أصلاً، إلا في تسعينيات القرن الماضي بعد ظهور مجلتي” زانين Zan î n – آسو Aso” اللتين تبنتا طباعة بعض الإصدارات، وكانت كرزك كول Gurzek gul قد سبقتهما زمنياً، في الظهور وإن بنسخ توثيقية محدودة تكاد تسجل حضورها الصوري فحسب، وهو ما كان الصديق كوني رش أحد مصدري المجلة- إلى جانب عبدالباقي حسيني- لايفتأ يرددها!
مغامرة الإصدار الأول!
صدرت للشاعرهادي بهلوي ثلاثة دواوين حتى الآن، ألا وهي” sibe w ê b ê و ji dil و
ristek ji jan ê n hunay î
، وهو في حدود ماصدر له شاعر مقل- نشراً- وله من المخطوطات ما لم يطبع بعد- وإن كانت قصائده التي كتبها في موضوعات متعددة- شأن القصيدة الكلاسيكية- كانت سجلاً لتاملاته، وموقفه من قضايا إنسانه، إذ نكاد نجده حاضراً في هاتيك المناسبات التي شغلت أنداده من المبدعين، لاسيما فيما يتعلق بالقضايا الكبرى والمصيرية، وحين أتحدث عن قلة أعداد مانشرله من أعمال- حتى الآن قياساً لتجربته الطويلة و موهبته وإمكاناته باللغتين الأم والعربية- فإنني أقارن نتاجه بمن كانوا من أجيال تلاميذ تلاميذه ونشرت لهم أعمال كثيرة، في مجالات شتى، وإن كنت أدري أنه في العقد الأخير الذي يعيشه، بات في مواجهة فقد البصرليكون- معري الكرد- أو معري قامشلي- وهوما يشير الشاعردحام عبدالفتاح بأنه يشاركه المأساة، ولكن، ضمن حدود معاناة أقل مع نعمة البصر، من دون أن يمنعه ما هوعليه- أي الشاعربهلوي- من مواصلة احتراقه في محراب الشعر، إذ راح يصوغ قصيدته في مخيلته إلى درجة انحفارها على جدرانها.
وإذا كان لنا-هنا- من أن نقول كلمة بصدد تأخر طباعة نتاج الشاعربهلوي فإن ذلك- بحسب تقديرنا- بسبب شراسة الرقيب الذي طالما كان مجرد ضبط كاسيت موسيقي كردي في حوزة أي كردي مدعاة اعتقال وتعذيب واعتبار هذا الإنسان مهدداً لأركان الدولة، وهكذا حتى بالنسبة إلى مجرد ضبط قصيدة غزلية، إذ طالما رفضت- دائرة الرقابة- طباعة أعمال إبداعية كردية، ولم يكن طباعة ماهو مكتوب-أصلاً- باللغة الأم، في عداد ماهو مسموح به، ولهذا فقد كانت طباعة أكثرالكتب الكردية تتم على نحو تقني رديء، بسبب حالة القمع السلطوي، أو يتم استغلالها من قبل: أصحاب بعض المطابع الذين طالما فرضوا تكاليف مضاعفة على تبني طباعة هذه الكتب!
مقدمتان لديوان واحد:
يفاجأ قارىء ديوان” من القلب” للشاعر هادي بهلوي أنه أمام مقدمتين لقصائده. إحداهما مكتوبة باللغة الكردية الأم كتبها خليل محمد علي- ساسوني- والذي يمضي بالقارىء منذ أول سطور مقدمته إلى ما يصفه بالحديقة الخاقانية الملأى بالزهور والفواكه وكأنها قطعة من الفردوس. إنه التقديم للشعربالشعر وإن بلغة النثر، إذ يخاطب الله تعالى قائلاً: يا الله، أهو “إرم ذات العماد؟” أم جنة غناء!، بينما الشاعر والأديب اللغوي دحام عبدالفتاح الذي يقول: لست معنياً بتقويم النصوص وترجمتها فنياً وليس لي الحق في خوض ما يثير القيل والقال. فإن مدحت قيل صديق يجامل صديقه, وان نقدت قيل مدعٍ يتحامل بغير حق. ولولا هذا المناخ المزعج وتلك الصداقة الحميمة ربما قلنا في هذا المقام قولاً آخر. من هذا المنطلق ساترك لكل قارئ حقه في أن يرى من المجموعة ما يرى, وان يتذوق منها وفق ذائقته الشعرية ما يتذوق. ثم ليقل بعد ذلك ما تراءى له وما تذوق! وعن طريقة الشاعر في الترجمة يقول: وحول تباعد المعاني في الترجمة أحياناً عن الأصل قال: إنني ترجمت نصوصي بتصرف.
أصدقاء الشاعر:
ثمة وفاء كبير في ديوان” من القلب ” تجاه ذوي الحضور الراسخ في الوجدان الجمعي،: و أصحاب القامات العالية في خريطة الشعرالكردي ومن هؤلاء: البارزاني وجكرخوين والشهيد محمد معشوق خزنوي ..، على سبيل المثال، لتكون قصيدة الشاعر انعكاساً لضميره وحياته اليومية، وتفاصيلها، ناهيك عن أن في استحضار أسماء بعض مقربيه، أو استذكارهم إنما يأتي كترجمة للحضورالروحي لهؤلاء في عالمه، في الوقت الذي نجد أن بعضنا بات يتنكر لمن حوله- وأقصد من يعيشون بين ظهرانينا وليس الراحلين فحسب- لاسيما هؤلاء الذين كان لهم حضور يومي في حيواتهم، أو من احتضنوا مواهبهم، وهذا نتاج عقدة معروفة: عقدة قتل الآخر، نتيجة إحساس ذي مواصفات محددة، لا أريد الاسترسال والخوض في تفاصيله!
اعترافات
ولقد أشاد صديقه الكاتب والشاعر دلاور زنكي الذي غدا أمين وحارس مدونته في هذه المرحلة الأكثرصعوبة في حياته، وهو لايملك غير محض لسان، وهو طريح الفراش يؤنسه في محنته الأكثرصعوبة رفيقة دربه ونجله عمر، كما أشاد بدورهما في أكثر من اتصال هاتفي بيننا!
في مجموعته-من القلب- يوجه كلمة شكر إلى ثلاثة أسماء: خليل ساسوني الذي جمع شتات القصائد الكردية منها وترجماتها العربية، وقام بالاشتغال على مسودتها، وهكذا بالنسبة إلى دحام عبدالفتاح الذي كتب مقدمة المجموعة وراح يذكر أهمية أن يكون الشاعرمترجم قصائده لاسيما إن له تجربة في هذا المجال، ولقد أبدى حياديته تجاه القصائد لأكثرمن اعتباره أولها ثقته بها بأنها قادرة على أن تقدم ذاتها إلى قارئها. إنها شهادة شاعر وأديب ولغوي، ومن دون أن ينسى توجيه الشكر إلى صديقه دلاور زنكي الذي اشتغل على النسخة الأخيرة للديوان والتي سبقه إلى الاشتغال عليها الراحل ساسوني!
فضاءات شعرية:
تشكل ملامح ديوان الشاعرهادي بهلوي قصائد تنتمي إلى موضوعات مختلفة منها ماهو وجداني أو رثائي أو وطني أو قومي، فهو يفتتح الديوان بقصيدة” لاتقولي ” يعتمد خلالها على الموسيقا الخارجية التي يمكن دراستها ضمن البنية الإيقاعية للديوان- وإن لأول وهلة- إذ إنه رغم اعترافه كما أشار إلى ذلك دحام عبدالفتاح- وهو الناقد- إلى أنه اعترف له بأنه ترجم قصائده بتصرف، إلا إننا لنجد بأن للترجمة سطوتها على النص، رغم محاولته التحررمن الكثيرمن القيود، باعتبارالشاعر/ المترجم هو الأكثر- جرأة- عادة، على مواجهة روح النص الأصلي. يقول:
فيا حباً تسلل خفية فينا
وألهب بالجوى يوماً مآقينا
ترفق بالمحبينا
وحاذر ان تكون السيف يشهر بين أذرعنا
ويغزو بين أضلعنا
ويصلت فوق اعناق لوت قهرا
تعاني الحزن والكمدا
فحاذر مرةً أخرى….بأن تصبح لنا ذكرى
أريدك للصدى قطرة
وللسارين نجماً لامعاً وقدا
يضيء السفر والسفرا
أريدك ألف أغنية
ترددها شفاه الناس لحناً عانق الوترا
فحاذر مرة أخرى….بأن تغدو لنا فكرة
وأن تمسي لنا ذكرى
وفي قصيدة” نجوى” على سبيل المثال يمضي الشاعر في إهاب عالم الحب، حيث نراه يلجأ إلى عالم الحب، في حضرة أنثاه، راسماً للحظة وصال، غائراً في بعض التفاصيل، وإن بلغة الشاعرالكلاسيكي: لغة وصوراً مباشرة ولغة قبل كل ذلك، يقول:
واعبثي بالأنامل البيض شعري مثل طفل بين اليدين احمليــني
وهبيني من الشفاه رحيقـــاً ترتوي منه غلتي ومجونـــي
لا تبالي مما تقول العــذارى فلقد فزت دونها بالفطـــــين
رددي الصوت وارسليه بعيداً حينما تشمت العواذل” فيـنـــي”
إنه الحب والوداد لقلبــــي حلل الحب والهوى كل ديـــن
وإذا ما لمحت مني مجونــاً فبخصلات ليلك كبليــــــني
فإذا ما قضيت مني وطــراً اقذفيني في لجة وذرينـــــي
واسلميني إلى الممات فإنــي لم تعد لي لبانة تزدهيـنــــي
واذرفي الدر فوق نعشي المسجى وبعذب الدموع ثم اغسلينــي
واطبعي فوق خدي الغض لثماً وبأطراف جفنيك كفنينـــــي
وادفنيني بين الرموش وقولـي ليت شعري كم كان يهوى عيوني؟!
واجعلي الهدب شاهدات لقبري فوقها طرزي بيت شعر رصـين
إنه شاء أن يموت شهـــيداً فمضى دون مركب وسفيـــن
القصيدة الثانية في الديوان رثائية الغرض، ولعلي كنت الشاهد عليها، إذ إنه قالها في أربعين الشهيد محمد معشوق الخزنوي الذي هز نبأ اغتياله في العام 2005 ضميرشعبه، باعتباره كان ضحية رأيه، وموقفه. يقول الشاعر في قصيدة له عنونها ب” تحية إلى شيخ الفداء:
ما جئت أذرف أدمعاً لرثاء كي لا أهين كرامة الشهداء
إن الشهادة قيمة أوصى بها في محكم القرآن رب سماء
فلقد يجود المرء من مال له لكن أسمى الجود بذل دماء
لكنني أقبلت بعنصر الأسى قلبي المكبد كومة الأرزاء
وقدمت هذا اليوم أقبس جمرة من جرح معشوق تضيء فضائي
وألم من دمه حروف قصيدة عصماء من ألف لها للباء
وأصوغها ناراً لتحرق مجرما وتضيء للأجيال درب فداء
وزأقولها فوق المنابر هادراً في صرخة مقرونة بدعاء
شلت يمين مخطط ومنفذ غدراً لهذه الفعلة الشنعاء
كفت الجريمة خزيهم بل عارهم فهم كطاعون وريح وباء
وإذا نسيج الجرم مهتئ السداة وهنت خيوطهم لدى الرفاء
قتلوك يا معشوق ولكن ما دروا أن أقعدوك بهامة الجوزاء
ما استهدفو جسداً لديك وإنما راموا اغتيال الفكر والآراء
آمنت بالإسـلام دين محبـــة ومـــودة وتعايـــش وإخــاء
ما اخترت إسلاماً سهى عن أمة مكلومة مقسومة الأجزاء
وطرحت في كل المحافل قائلاً لا أبتغي ديناً على الإقصاء
وجعلت هذا الدين والكردايتي من أولويات الغد الوضاء
وسلكت درب السابقين من الألى وهبوا فكانو النور في الظلماء
سطرت يا معشوق سفر قضية بدم أريق بهمة وسخاء
معشوق إن دماً وهبت رسالة ً ووصية الآباء للأبناء
وفي قصيدة” شهداء هولير التي كتبها الشاعرفي مناسبة الأول من شباط 2004 التي استشهد فيها كوكبة من الشهداء في أحد جوامع أربيل/ هولير وهم يؤدون صلاة عيد الأضحى، إذ إنها تعتبر من القصائد الأكثر تأثيراً في متلقيها شأن قصيدته التي أهداها إلى الشيخ الشهيد، وفي هذا ما يبين بجلاء اكتمال أدوات المرثية- وفق شروطها المعتادة- وفي مطلعها التفاعل مع المناسبة في مثل هذا النوع من القصائد التي يغدو خلالها الشاعر وجهاً لوجه أمام حالة درامية كما الملايين من أبناء شعبه، في أجزاء كردستان قاطبة:
على الأوجاع أغزل أغنيـــاتي بلون الدم ترسلها لـــهاتي
أهدهد ثورتي حينــاً وحينــاً يغالبني الأسى رغــم الأناة
ففي هولير فاجعـة وخطـــب علت فوق الخطوب المفجعات
عصابة مجرم جاءت إليهـــا بأول يوم عيد الأضحيــات
من الإسلام قد اتخذوا ستــاراً أرادوا الشر بالكرد الكــماة
بأيديهــم قنابل حارقــــات مدرعة الجسوم بناسفـــات
ففي أرض القداسة كان جرحـي وأبطال لقوا حتف الممــات
وأنت أيا صلاح الدين انظـــر تجد أهليك في غدر الجنــاة
حشدت لراية الإسلام جنـــداً ويممت الوجوه إلى الـسراة
فوحدت الشآم ومصر حبـــاً وما أخبرت: ليسوا من لـداتي
فهل في الدين من فتوى لقــتل بنيك الكرد من غاد وآتـــ
وهــل إلا جميل رجعـــوه إليك صلاح في الوقت المواتي
أعرفكم بنفســي إن أردتــم وأحكيكم فصولاً من حياتـــي
أنا المولود من آلاف عـــام وتاريخي هنا يشهد لذاتـــي
أنا سفر من الثورات هبـــت وسجل حافل بالتضحيــــات
حلبجة,ديرسم,أنفال,زيــــوا وقاضي جارجرا شيخ القضـاة
جكرخوين أنا نالي هــــزار جلادت بك أنا خاني وباتــي
أنا روح الشهيد تطير دومــاً وتسمو فوق هام السابحــات
وأصوات الثكالى واليتامـــى أنا وجع الأنين لأمهــــات
قوافل أكرم الغادرين مـــرت على طول الدهور السابــقات
رجال قضوا في السوح ليسـوا سوى ثمن لنيل الأمنيـــات
أناروا للنضال لنا طريقــــاً معبقة بفوح التضحيــــات
فكونوا يا بني قومي جميعـــاً على الإرهاب في ست الجهات
فحتام الإرادة في تـــناء ؟ فبئس الدار دار مفرقــــات
فرصوا الصف والتحموا كياناً يرفرف فوقه علم النجـــاة
وتهدأ روح بارزاني وصحبه من الأبرار والنفر الأبـــاة
فقد باتوا لنا إرثاً ونهجـــاً علواً في الحياة وفي الممــات!
ويخص الشاعر هادي بهلوي مجزرة نوروز 2008 التي استشهد خلالها المحمدون الثلاثة برصاص الأمن السوري، وأصيب آخرون بجراح متفاوتة، بقصيدة جد مؤثرة. يمهد لها بنص نثري . يقول:
لجأت للشعر من غيظي ومن كربي إذ بي أراه كبركان من الغضب
فهب من فوره واستدعى قافية حروفها كشواظ النار في اللهب
لتحرق الظلم في أرضي وتكنسه يفوح منها عبيرالنصر والغلب
وأختط من صور الأحزان أوضحها عرس الشهيد بترصيع من الذهب
فقلت أحسنت فيما اخترت من صور لكن أريدك مطواعاً إلى طلبي
إدع القوافي وأركان القصيد هنا ليعقدوا حلقات الرقص والطرب
ويخبط الأرض ترتج تحت أرجلهم يسمع صداها على بعد وعن كثب
عرس المحمدين اليوم نشهده تاج الفخار لهام المجد والأدب
فمنطق الكون والتاريخ علمنا أن الولادة بعد العرس في الكتب
وفي قصيدته “مرثية البارزاني” التي كتبها في رحيل الملا مصطفى البارزاني يلجأ إلى مشاركة الطبيعة، وما فيها من كائنات وأطيار أحزانه، وهي قصيدة طويلة لربما تصنف في إطارملحمي- عبرنسختها الكردية- التي تشد بدورها المتلقي، لما فيها من تصاعد درامي ضمن إطارعلاقته بأدوات مختبره الشعري:
ما لكردستان لفت بالسواد سوحها أجبالها حتى الوهاد
زمجر الرعد ودوى باعثاً من سنا برق منيراً من كل واد
وهمت عين السما مدرارة أدمعاً حرى وهمت في ازدياد
فرت الأطيار من أوكارها ثورة الكون تنامت باضطراد
وصباحات الجبال افتقدت صيحة الأحجال أو ترنيم شاد
أسفي ما مات برزاني في ثورات خاضها ضد الأعادي
إنما الأقدار شاءت خطفه فهوى النسر على أرض بعاد
** ** ** ** **
وتلاقى الكرد في أمصارهم في جماعات ومثنى وفراد
وعلا الحزن على وجناتهم لونت حمرتها صفرة جاد
بين شك ويقين سألوا أصحصح قضى الشيخ المفادي؟
أصحيح أن برزاني رحل؟ ثورة الكرد ستبقى في اتقاد
وفتاة الكرد شقت جيبها جزعاً منها على رمز البلاد
سلمت أفرع ليل داكن بمقص أو بشد بالأيادي
** ** ** ** **
شاعريترك النوافذ مفتوحة:
ورغم أن أكثر قصائد الشاعر كانت صدى لمناسبات حزينة من بينها ذكرى رحيل والده الشخصية المعروفة ملا شيخموس قرقاتي- مرثية البارزاني- الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي-مجزرة هولير- شهداء نوروز 2008، إلا إننا لنجد الشاعر لايغلق نوافذ التفاؤل، بل يفتحها على مصراعاتها، من خلال توظيفه للربيع / المعادل النوروزي كرمز للخلاص، يقول في قصيدة” الربيع قادم”
سيأتينا الربيع غداً يـــزور وتفتح في مرابعنا الزهـور
ونوروز يطل بكل زهـــو فتنشر فوق ساحاتها العطور
ومثل براءة الأطفال سيـأتي وفي ديباج ليس له نظيــر
وفوق ذرى الجبال الشم بندى أريج الحب يأتلق الـسرور
ويرفل في اخضرار النبت واد تحلق فوق مغناها الزهـور
فتسمع نغمة القمري تعلــو يناغم شدوها حمل صغـير
وتخضر الأماني زاهــرات بمقدمه ويخضر الحــبور
وتنساب الجداول صافيــات مرقرقة وقد عذب الخـرير
تهامس حولنا الجبناء ســراً وقالوا لن تقوم لهم أمـور
أرادوا بث روح اليأس فينـا فخالط قولهم لغو كثــير
وما علموا بأن الشعب دومـاً دوائره على الباغي تـدور
فإن عاد الربيع إلى بــلادي ستلقيه وتشكوه الطـــيور
بأن قنابل النابــــالم أودت بأعشاش لهن ولا مجــير
سيأتينا ربيع لا يحــــاوى على الأفنان والخير الوفـير
فتغتسل الهضاب بفيض طيب ويغمر أرضنا ألق ونــور
وينفخ في الروابي السمر بوق وتلفظ ما بداخلها القـــبور
أمامك أيها العاتي – حساب – لما اقترفت يد الجاني عسير
ويحيا دونما ظلم وجـــور بها الأطفال والشيخ الكبـير
وتكتحل العيون بما تبــدي لنوروز وقد حمل البشــير
كلمة أخيرة:
عبرهذه الوقفة لم أحاول إلا تقديم مجرد عرض أول لعوالم قصائد أحد دواوين الشاعرهادي بهلوي- بمثابة محض تحية إليه وهو رهين المحبسين الكردي- أجل، كمجرد تحية، فحسب، لأن يستحق منا تناوله نقدياً، آملاً أن أستطيع- بدوري- عما قريب، تقديم قراءة نقدية لإحدى قصائده التي استوقفتني- كثيراً- والتي استقرأت فيها سيرة وموقفاً حياتياً، وخلاصة رؤى، فيما يتعلق بالمثقف، وإن كانت هي الأخرى تندرج ضمن إطار ماهو” غرضي” في عالم الشعر، له حدوده، حتى وإن كثرت نوافذه وإطلالاته التي يظهرملامحها واضحة من دون أن تتداخل كما يمكن للنص الحداثي أن يفعله!
إن الاحتفاء بهادي بهلوي: مربياً، وإنساناً، وشاعراً، منحازاً لأهله يحزن لأحزانهم، ويفرح لأفراحهم، مهمة ملقاة على عواتقنا كغيارى على الشعر والشعراء وأصحاب الكلمة: اتفقنا معهم أم اختلفنا، وذلك بعيداً عن المعاييرالسياسية الدقيقة، باعتبار أن الشاعرمن اكثر الذين يتأثرون بما حولهم، ولعل تجربة الشاعربهلوي بمالها وماعليها: رؤى وتقانة، إنما هي تنم عن موهبة إبداعية ذات حضور يومي في تفاصيل خريطة إنسانه، وهو في مهب عواصف حرب إمحاء وجوده، ما دفعه أن يترك أثره في هذه المواجهة كضمير إبداعي، ضمن حدود امتلاكه لمقومات الجمال!