هيثم هورو
-1-
كان يعمل ريناس موظفاً في دائرة رسمية، ومميزاً من بين زملائه لا يتأخر عن دوامه، وهو متعطراً بأرقى العطور، لكن دون أن تعد له زوجته طعام الفطور، ولا تقدم له فنجان من القهوة .
ذات يوم تم تعيين فتاة تدعى ياسمين في تلك الدائرة، حيث تخرجت حديثاً من الجامعة، وخصصت لها طاولة تقابل طاولة ريناس في مكتبه، وبدأت تمارس عملها الوظيفي بإتقان، وكانت آية من الجمال، وتتحلى بصفات الفتاة العصرية، أنيقة، وتفوح منها رائحة العطور الباريسية الذكية، وتزيدها أكثر جمالاً ورونقةً، تشبه بإحدى حوريات الجنة، كيف لا تجذب ريناس نحو مفاتنها كزهرة مائية نضرة ومشعة، وخجولة أحياناً وتحمر وجنتيها كالتفاح الأحمر .
ذات يوم سأل ريناس : ياسمين هل تودين أن تشاركيني في شرب القهوة ؟
أجابته ياسمين بلا تردد بكلمة نعم ثم أردفت قائلة: لكنني سأعد القهوة، وضعت ياسمين فنجان قهوة على طاولة ريناس بأناملها الرقيقة الناعمة كرقة قلب ريناس، شكرها ريناس قائلاً : سلمت يداك زميلتي اللطيفة، ارتشف ريناس رشفةً من القهوة ثم ضيفها سيجارة من علبة سجائره الفاخرة وهي مشكورة على ذلك، وهما يتحدثان عن مجريات العمل تارةً وعن الحياة الاجتماعية والشخصية تارةً أخرى بلطف واحترام متبادل .
-2-
تكررت هذه العادة يومياً إلى أن نشأت بين ريناس وياسمين علاقة غرامية نقية، حيث كانا ملتزمان بدوامهما كثيراً، ثم نالا احترام وود إدارة المؤسسة.
إن هذه العلاقة العشقية بنت في قلب ريناس قصراً من الحب كل لبنة فيه أصبح منقوشاً عليه أعذب الكلمات الغرامية، وذكرى اسعد اللقاءات، وهما يتنزهان بالأحصنة البيضاء في غابة ساحرة بجمالها، وتارةً تحوم الفراشات الجميلة في محيطهما وتارةً أخرى يهدي ريناس وروداً حمراء إلى ياسمين تعبيراً عن ولادة حب رائع على ألحان طيور الوروار والحسون .
عاش ريناس في ذلك الحلم الجميل، حيث وقف حائراً أمام المستقبل، ولا يعرف إن كان ما يملك يكفيه للاستمرار، وتجاوز العادات التقليدية، وهو مدرك تماماً بأنه مصاب بجهلة الأربعين، ويتسائل باستمرار، هل يمكنني الخوض في معركة العشق والوصول إلى بر الأمان .
وبعد أن دامت تلك العلاقة الرومانسية مع ياسمين سنتان، أحاطت ياسمين ريناس علماً بأن شاباً يقيم في ألمانيا يطلب يدها، وهو ينتظر بالأمل المنشود، وهنا ارتبك ريناس ولم يعرف كيف يواجه ياسمين، وبعد أن فكر ملياً فأجابها ان كنت مقتنعة بذلك الشاب، فلا يسعني إلا أن أتمنى لكما حياة ملؤها المحبة والسعادة، هذه الإجابة السريعة التي فارت منها روح الإنسانية غيرت من موقف ياسمين التي شعرت بالإحباط وبخيبة الأمل، ثم أقتنعت تماماً بأن أمام ريناس جداراً عالياً، ولا يستطيع القفز فوقه، وذلك حسب العادات المألوفة والزواج ثانيةً .
-3-
وهنا وافقت ياسمين على الشخص المقيم في ألمانيا مضطرةً، وحققت كل الإجراءات المطلوبة قانونياً ثم أخبرت ريناس عن موعد سفرها ودعها ريناس في مكتبه بحزن وألم شديدين ومتمنياً لها حياة سعيدة
وفي اليوم التالي ذهبت ياسمين إلى مطار حلب الدولي، وجلست في صالة الانتظار ريثما يحين موعد إقلاع الطائرة، وبينما كانت جالسة وتنظر بصمت يملؤه الحزن إلى المغادرين والمودعين، تفاجئت بوجود ريناس وبيده باقة من الورود لتقديمها هدية الوداع إليها، إعترى الفرح قلب ياسمين ونهضت من مكانها وكادت أن تحتضن ريناس من شدة سرورها، قدم ريناس تلك الباقة لها وصافحها بكل حرارة ثم تمنى لها التوفيق، لحظات أذيعت عبر مكبرات الصوت تقول : السادة المسافرين على الخطوط الجوية السورية إلى ألمانيا التوجه حالاً إلى بوابة المغادرين، فحملت ياسمين حقيبتها الصغيرة مودعةً ريناس بألم شديد وذهبت، فظل ريناس يراقبها إلى أن اختفى أثر طيفها، ثم عاد إلى بيته والحزن يخترق قلبه، ولم يبقى معه إلا الذكريات الجميلة مع حبيبته ياسمين .
-4-
مضت خمس سنوات نزح قسم كبير من سكان حلب صوب الريف، وذلك من جراء الحرب الذي دار رحاه مما أدى إلى فرار آلاف المواطنين إلى تركيا ومنها كانت عائلة ريناس إلى مدينة إستنبول ومن ثم إلى جزر اليونان لكن الذي حدث، وهو في عرض البحر كان المهرب كأغلب المهربين غشاشاً حمّل الزورق المطاطي مهاجرون أكثر مما يتحمله، وارتفعت أمواج البحر وكاد أن يغرق الزورق بأكمله إلا أن الحظ حالف الكثير منهم، ولم تغرق إلا زوجة ريناس، فعاد الزورق ثانيةً إلى تركيا من دون زوجة ريناس، التي أصبحت شهيدة السفر والهجرة إلى جنان أوروبا كما يتخيله النازحون .
بالرغم من هذه المأساة اصرّ ريناس مرةً ثانية اجتياز البحر، لكن أختار هذه المرة يختاً بمبلغ باهظ ثم وصل إلى اليونان دون أن يفقد احداً من أطفاله، وهنا اتصل بصديقه المقيم في ألمانيا طالباً منه المساعدة، نفذ صديقه ما يلزم فأوصل ريناس إلى مدينة كولن بمساعدة اصدقائه بطريقة غير مشروعة، ثم حلّ ضيفاً على صديقه في مدينة كولن، وبعد أسبوع تم تسليمه إلى السلطات المحلية .
مرت ستة أشهر من إقامة ريناس في معسكر اللاجئين، وفي أحد الأيام بينما كان يتجول في ساحة واسعة امام كنيسة كبيرة وشاهقة مبعث الرهبة، والتي تتوسط مدينة كولن صادف محبوبته ياسمين، لكن اعترى ياسمين الشك للوهلة الأولى بأنها ترى شخصاً يشبه ريناس، لكن عندما اقتربت منه حينها أكدت ياسمين بأنه ريناس وليس شخصاً آخر، وصافحا بعضهما بحرارة ثم اصرت ياسمين بأن يرافقها ريناس إلى منزلها، وهناك قدمت ياسمين فنجان قهوة إلى ضيفها المحبوب، وهي تتصفح ذكرياتها في القلب، ثم بدأ ريناس التحدث عن رحلته الأولى وعن زوجته الضائعة في البحر، تأثرت ياسمين بذلك المشهد الأليم وبمشقة سفر ريناس إلى يوم وصوله إلى ألمانيا .
ثم بدأت تتحدث من تلقاء ذاتها وقالت: انجبت طفلي هذا وتطلقت من زوجي، فسأله ريناس حالاً عن اسم طفلها أجابت: ياسمين متأخرة ومتلعثمة انه ريناس، حينها خفق قلب ريناس فرحاً وسروراً، ثم بدأ عيناه تدمعان من شدة الفرح لأنه علم بأن اسم الطفل تيمناً بإسم حبيبها.
تجرأ ريناس بأن يعرف سبب طلاقها من زوجها، ولم تتردد ياسمين بالإجابة عن سؤاله حالاً وأردفت قائلة:
ان زوجها مخادعاً جداً، وأنها تعمل الآن في سوبر ماركت، وودع ريناس ياسمين، بعد أن ترك لها عنوانه في الكامب الذي يعيش فيه .
-5-
وفي عطلة نهاية الأسبوع زارت ياسمين حبيبها في الكامب، وثم جلسا في حديقة قريبة منه، وتبادلا الأحاديث بشوق وحرارة، وتكررت مثل هذه الزيارات، وفي أخر زيارتها له سألت ياسمين بجرأة وقالت : هل يا ريناس لا تزال تحبني ؟ فأجابها: ريناس دون تردد بكلمة نعم و مازالت قلعة حبي لك قائمة، وأنت لم تفارقيني مطلقاً، عندئذٍ أجابت: ياسمين اذاً هيا بنا يا أميري لنذهب حالاً، ونمتطي احصنتنا ونتوجه إلى قلعتنا، ونعلن عن افراحنا ونشعل شموع الحب والوصال، ونقضي أجمل العمر ….