فراس حج محمد/ فلسطين
لعلّ أجمل ما يهدى في هذا العالم ديوان شعر جيد، فديوان شعر معبّأ بالقصائد الجميلة لهو أكسير يجعل الحياة أكثر احتمالاً، على الرغم من رعبها الممزوج بالتفاهة، لتنقذك هذه القصائد من الرعب والتفاهة مرة واحدة، لتعيش اللحظة بكامل إنسانيتك مجردا عن كل ما يعوق تواصلك الخلاق مع اللغة الشعرية. هكذا يحسّن الشعر من مزاجنا ومزاجيتنا، أو على الأقل يعدّل من مزاج شاعر آخر ليشعر بالنشوة، وهو يقرأ شعرا يتسلل إلى نفسه بعذوبة وصدق خالصين، بهذه النفسية المرتاحة خرجت بعد أن قرأت ديوان الشاعر نمر سعدي “نساء يرتبن فوضى النهار”*.
يطلّ الديوان على عالم الشعر والنساء والعزلة والافتراضية، ولا ينسى كورونا وما أحدثته في البشر، وخاصة الشعراء الذين ازادوا انكفاء على ذواتهم وتأملا لمشهد حياتهم وحياة الآخرين. من هذه الأجواء خرجت قصائد هذا الديوان التي تشير ملحوظة للشاعر تقول: (كتبت قصائد هذا الديوان ما بين الأعوام 2018 و2020)، وبدا عالَم الشاعر في الديوان مشحوناً بنساء كثيرات، يفصح الشاعر في مواطن متعددة أنهن “افتراضيات”، و”عشيقات” متوهجات في الفيسبوك، أو على الأقل بعض منهنّ.
يضع الشاعر- منذ المدخل- قارئه في المواجهة العارية مع الرغبة والشهوة، من حيث هي رغبة تدل على غريزة الإنسان الحيوية، في اشتعالها ونشوتها الحارقة أو ألمها اللذيذ، إنها في المجمل قصائد حسية تتلفع بالكناية والمجاز لتعبر عما تريده.
إن تمحور الديوان حول الشهوة والرغبة لا ينفي بالضرورة المتعة الروحية في هذه الشهوة وممارستها، إنما هو معنيّ دون كثير من الإرباك بأن يضيء اللحظة الأخيرة في تلك العلاقة وتجليها الرغبوي الإنساني. ولذلك ربما على ضوء من ذلك تأتي النقولات الثلاثة التي بدأ فيها الشاعر ديوانه، ولعل أوضحها في الدلالة على ما يود الشاعر قوله هو ما اقتبسه من الشاعر الصيني مانغ كي: “إذا تحوّل جسدك تراباً/ فأنا مستعدّ لأن أتخلى عن هيئتي وأصير ماءً/ أتوق لمن يشربني بكليتي/ أروي جسدك كله”.
تحيلني هذه النقطة إلى أكثر من مسألة وأكثر من مصدر، ولعل أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ تلك القصائد قول الشاعر علي محمود طه الذي أشار في قصيدة حوارية إلى هذا الحضور النسائي في حياته، هذا الحضور الذي يعترف به الشاعر نفسه، وتعلمه النساء جميعا في شاعرهنّ “المفضل”:
تُسائلني: وهل أحببتَ مثلي؟
وكم معشوقةٍ لكَ أو خليلَهْ؟
فقلتُ لها وقد هَمَّتْ بكأسي
إلى شَفَتَيَّ رَاحتها النحيلةْ:
نسيتُ، وما أرى أحببتُ يومًا
كحبِّكِ، لا، ولم أعرفْ مثيلَهْ
فقلتُ: أجَلْ، عرفتُ هوى الغواني
لكلٍّ غايةٌ، ولها وسيلَهْ
فثمة نساء كثيرات دون ملامح في هذا الديوان، كلهن توحدن في شيء واحد هو الشهوة والرغبة، بل لا يوجد لهن صوت أو فكر أو حتى جسد مميز أو أعضاء مميزة، بل كلهن ذات سمت واحد، كأن النساء تحت هذا الظرف تختفي بينهن الفوارق أو المميزات، خاصة إن كانت تلك النساء “افتراضيات”، عاشقات ليل وقصيدة، ويرغبن فقط في قتل الملل والوحدة، فلا شيء أجمل إذاَ من مسامرة شاعر، والتسلي بالرغبة والنشوة العابرة معه.
ثمة تواطؤ متفق عليه مع تلك النسوة، هذا العالم الذي خبرتُه جيدا في كتابي “نسوة في المدينة”، فبعض تلك القصص التي سردتها في الكتاب تجد لها رجعاً هنا بصورة أو بأخرى، ما يعني أن ثمة تقاطعا في التجربة بيننا نحن أتباع الفيسبوك، بيننا وبين نسائنا المفترضات الافتراضيات. إضافة إلى مسألة أخرى لا بد من نبشها وهو تهافت النساء على الشعراء، فنادرا ما يسلم شاعر من كوكبة من النساء الجميلات اللواتي يقتحمن عالمه بالصور والحديث والشهوة، وما إلى ذلك من أبجديات تلك العلاقات التي يتيحها هذا العالم.
هؤلاء النساء اللواتي يقول الشاعر أنهن “يرتبن فوضى النهار”، هن من يبعثرنه في القصيدة ليلاً ليكتب عنهن، ويلتقط الأفكار عن أجسادهن فكرة وراء فكرة لصناعة القصيدة، ثمة علاقة إذاً ما بين النساء والشعر، أبعد من علاقة عاطفية أو حبّ، بل إن الحب ليس واردا في قصائد هذا الديوان إلا كموضوع شعري عابر للجسد والنشوة العابرة، فالمعوّل عليه هو تلك اللحظة التي يوجد فيها الشاعر والمرأة والقصيدة على خط واحد في تلك اللحظة ذاتها، لتومئ هذه المسألة إلى قضيّة تخلّق الشعر وظروفه الطارئة أو المستجدة، فثمة مفهوم آخر لقصيدة الفيسبوك أو القصيدة الإلكترونية، تُبنى على الحب الإلكتروني والناس الإلكترونيين والعلاقات الضوئية الإلكترونية. لذلك ربما كانت هؤلاء النساء أو إحداهن على الأقل لا ترى في الشعر أنه يصلح أن يكون موضوعا للحياة، فالشعر موضوع للتسلية وتزجية وقت الفراغ، ولا يحمل أيّ جدية في التعامل بين طرفي العلاقة، هذه مسألة طارئة في النظر إلى الشعر، ساهمت في ولادتها وترسيخها الظروف المستجدة لنشأة القصيدة الإلكترونية. يقول الشاعر على لسان إحداهنّ معبّرة عن (براغماتية) النظرة إلى الشعر:
وأنتِ تقولين لي: ماذا أفعل بقصائد حبّكَ
في هذا الشتاء؟
هل أتدفّأ عليها؟
أم أسدد بها فاتورة البيت والكهرباء.
هكذا بكل بساطة يصبح الشعر لا قيمة حقيقيّة له، فما الفائدة العملية له؟ فألف من القصائد لن تسد جوع الجائع، ولا تدفئه في الشتاء، ولا تسدد فواتيره وديونه. هذه هي قناعة المرأة بالشعر عموما، ما فائدة الشاعر إن لم يكن قادرا على تأمين متطلبات الحياة؟ فالشعر لا يطعم الخبز، إنه إذاً فائض عن حاجة الحياة. يحيلني هذا المقطع مرة أخرى إلى المدونة الشعرية القديمة، وإلى ما قاله الشاعر علقمة الفحل:
فإنْ تَسألوني بالنِّساء فإنَّني
بصيرٌ بأدواءِ النِّساء طبيبُ
إذا شاب رأسُ المَرْءِ أو قَلَّ مالهُ
فليس له من وُدِّهِنَّ نصيبُ
فالمرأة- إجمالا- لا ترى في الرجل إلا مصدرا لإشباع حاجتيها: أولا الجنسية التي عبر عنها علقمة بالكناية في قوله “إذا شاب رأس المرء”، بمعنى ضعف عن إتيان النساء، وثانيا تأمين متطلبات الحياة الأخرى، ولعل المرأة تصبر على فقر الرجل إن كان “فحلاً”، فإذا ما التقى فيه العيبان الفقر والعجز الجنسي فلم يعد له حاجة. هكذا بكل بساطة تترك كثير من النساء أزواجهن أو عشاقهنّ إذا أصبحوا عاجزين فقراء، أو عاجزين فقط، أو فقراء فقط.
هذا المعنى الواقعي الذي توصل إليه نمر سعدي في ديوانه، له شواهد في الأمثال الشعبية، وفي قصص العرب التراثية، وصادفته، كما صادفه الشاعر، في واحدة من نسوة في المدينة، في تلك المرأة التي كانت تبحث عن رجل عاشق يمولها ويشبع رغبتيها، وعندما يئست من تحقيق الرغبتين معي، ذهبت إلى غير رجعة**.
يعزز ديوان نمر سعدي “نساء يرتبن فوضى النهار” النظرة الحقيقية الواقعية لكل من المرأة والرجل في النظر إلى الحياة، وما يحمل أحدهما عن الآخر من أفكار دون مواربة أو تجميل أو التمنطق بأفكار مثالية، إن في الديوان قدرا كبيرا من الصدق والواقعية، لكنها الواقعية التي لم تقع في براثن المباشرة والسطحية، بل إن الديوان على قدر كبير من الشاعرية واللغة المجازية والتصوير والصور البلاغية، والإيقاع الموسيقي الهادئ الذي ينم عن نفس فيها شيء من الحزن الدفين أو الانكسار الإنساني نتيجة ما في هذه الحياة من عنف وتفاهة معاً.
تنبغي الإشارة إلى أمرين مهمين في هذا الديوان، أولا المعجم الشعري الذي بنى منه الشاعر قصائده، حيث الانسجام بين المفردات التي جعلتها في وحدة معنوية واحدة، ولذلك يجد القارئ تكرارا لمفردات متعددة، وهذا ملمح إيجابي في الديوان؛ لما يشير إليه من تجربة إنسانية محددة تفرض هذا المعجم، وضّحت جوانبها سابقاً، فقصائد الديوان بدت كأنها وحدة واحدة شعورية وفكرية، اتسمت بالوضوح، فابتعدت اللغة عن الإيغال في الرمزية والغموض وتحميل النصوص أبعاداً معرفية تحدّ من تلقائيتها خلا تلك الإحالات اللطيفة لشعراء أو كتاب، يغلب عليها أنها جاءت عفواً، ليست بقصد التباهي المعرفي والتثاقف الزائف، حضور بالتداعي الحر، يفرضه النص ويعمق فكرته.
كل هذه الفنية الخاصة انعكست على الأمر الثاني وهو وحدة الإيقاع الموسيقي في الديوان، فالهدوء بادٍ على الإيقاع بقصائده كافة، سواء في ذلك القصائد الكلاسيكية (ذات الشطرين) أو قصائد الشعر الحر، فجاءت سلسلة، وتحدث في النفس أثرا إيجابيا، بعيدا عن آفاق القتامة والوحدة القاسية والأجواء المعتمة الضبابية، على الرغم مما فيها من حزن نبيل وشفيف، إذ لا شك في أن ضبابية اللغة والفكرة، تترك أثرها بالقدر نفسه في نفسية القارئ وتلقيه لتلك النصوص.
وأخيرا أود أن ألفت نظر الشاعر نمر سعدي إلى أنه لا يحتاج كشاعر، وقد صدرت له عشر مجموعات شعرية، عدا حضوره الدائم في المشهد الشعري العربي والفلسطيني، إلى أن يبحث له عن شرعية ما، يكرسها له شعراء ونقاد آخرون، لتثقل الديوان بمقدمات ومؤخرات ليس لها داعٍ، وإن كتبها شعراء ونقاد كبار، فالنص لا يحمله سواه، ولا أحد يستطيع أن يمنحه شرعية إلا إذا كان جيداً، لذلك فإنني أرى أنه ليس من المنطقيّ إثقال الديوان بهذه النصوص المحيطة التي تعوق القراءة والتلقي المباشر، إنها-كما قلت سابقاً، وأقولها مرة أخرى- عتبات تبعد النص عن المتلقي، وتوجهه إلى أفق محدد، فليترك النص وقارئه مفتوح الآفاق على الفهم والتأويل دون أي ضغوطات للتوجيه، أو وضعه في زاويةٍ، هي ضيقة مهما اتسعت؛ لأنها أصبحت مؤطرة في مقدمة، فليس أمرا مهما أن يقدّمك شاعر كبير بعد كل هذه الإنجازات التي تحفل بها مدونتك الشعرية الثرية والمتعددة.