خالد إبراهيم
للمرة الأخيرة، أنظرُ إلى هذه المدينة، أتفحص حجارة أرصفتها رصيفاً رصيفاً، والمقاهي، وبائعي المثلجات، وألعاب الأطفال، وبيديَّ هاتين أمسحُ جدران المنازل التي تطل إلى عمق الشوارع الاسفلتية، أراقب سكك الحديد، وإشارات المرور في مداخل المدينة ومخارجها، بعينٍ مكسورةٍ وحائرةٍ أحلق في كل باركٍ وكل سيارة، أبحث عن يقيناً بارداً يرفع عني حرارة هذا الصيف وعطشه وجوعه.
شهر تموز المتوحش مثل قساوة ديسمبر، لا يحمل في أوصاله أي رحمة، اليوم والمصادف في 2/7/2021 وعند الساعة الثانية عشر والنصف ظهراً، رأى شفان نفسه طريداً، مشرداً، بلا ماء يقيه عطش تموز وجنونه، ولا طعامٍ يُسكت به غرغرة أمعائه، ولا نقوداً ليدخل به أحدى المطاعم والصيدليات، ولا رجولة ليرشو به هذا الزمن.
” في كلِّ يومٍ اتنفس به بعيداً عنكِ، سأكتبُ لكِ الكثير الكثير، إلا أنني سأموت ببطء “
هكذا كان يردد هذه الكلمات طوال مدة سيره على الأقدام والتي دامت لأكثر من خمس ساعاتٍ مصقولة بالجوع والعطش والتعب، والعتب، كان يتوقف كثيراً، يتأمل كل شيء، كان ينخر أثار أقدامه، ويرتجف عندما يتذكر من أين أتى، كيف؟ ولماذا؟
وفي إحدى استراحاته، تمدد تحت ظل شجرةٍ لأخذ قسطاً من التنفس والراحة، وقد رمى أطرافه الأربعة دون تنسيقٍ أو أن يتنبه لأي شيء من حوله، كان منهكاً، بل مهترئ المفاصل واليباس المتجذر بين عروق جسده، كانا كفيلان لتفكيك جسده إلى قطعٍ غير متساوية أو متكافئة، كان يشعر أن ثيابه قذرة، وأن جواربة التصقت بقدميه، فجأة تذكر( جورج أورويل) وروايته العالمية ” متشرداً في لندن وباريس، ورغم تعبه الشديد بدأ يبتسم:
تباً أنا في ألمانيا، قالها في صوتٍ خافت
( أنتَ لا تحصل على شيء مقابل لا شيء، إنهم لا يعطونكَ حتى كوب شاي بدون أن تركع)
تذكر شفان هذا المقطع من رواية الكاتب جورج، عندما بدأ يشتهي كأسا من الشاي وهو تحت فيء تلكَ الشجرة، بينما أصوات هدير محركات السيارات تتسابق أمامه مثل طائرات الحرب العالمية الثانية.
هل تريد كأساً من الشاي، جورج أورويل
وهل يحق للمشردين أن يتمنون الأشياء البعيدة المنال، رد عليه شفان
ولما لا يا عزيزي، طالما نملكُ حق التمني، والاشتهاء، قال جورج أورويل
من أين جئت يا سيدي، سأله شفان
جئت عبر أنّاتكَ، وخرير دماء العالم السفلي، عبر تعبكَ، وقهركَ
ومنذ متى وأنتَ هنا
منذ أن مشيتَ أول خطوة سيراً على الأقدام، لقد كنتُ أعلمُ تماما أن مشوارك طويلٌ جداً، لذا أحببتُ أن أرافقك
ولكنني مشيتُ لأكثر من ساعتين، ولم أنتبه لكَ
لأنكَ شارد العقل والقلب والكيان، كنتَ تردد أسم طفلتكَ كثيراً، هل اشتريتَ دواءك؟ سأله جورج أورويل
نسيته تماماً، رد عليه شفان مبتسماً
أنتَ لا تملك ثمنه يا عزيزي، أمثالنا لا ينسون الأشياء الثمينة، ومثل هذه الظروف، أعتقد أن تذاكر القطارات تنفع أكثر
أشعر بالشلل يا سيدي، نصفي مبلل، والأخر مضمحلٌ تماماً
منذ متى لم تستحم
منذ أربعة أيام على ما أذكر
جميلٌ أنكَ ما زالت قادرا على حصار الذاكرة، الكثير مننا يفقدون حتى ذاكرتهم يا عزيزي
صدقت، لا أتذكر شيئاً، جميع الأبواب مكبلة، والشبابيك مطلية بالإسمنت، لا زوجة، ولا اطفال، ولا أصدقاء، ولا نسبٌ ولا مِلّة
لا شيء دون الدراهم يا عزيزي، المال سيد المواقف، مثلا الجوع يحط من المرء حتى يغدو بلا حول ولا عقل، كأن الإنسان تحوّل إلى إحدى الرخويات.
أنا أحتمل كل شيء يا سيدي، إلا السجائر والشاي والقهوة، والطعام أخر ما افكر به، لأنني نزق، حريص كل الحرص إلا أتناول إي شيء إلا ويكون فوق العادة، هكذا علمتني أمي.
آآآآآآآه كم كانت تتحمل انفعالاتي، وكم كانت تحاول أن تجعلني سعيداً على مائدتها، وأنتهى بي المطاف هكذا، ما بين امتصاص غضبي وأمعائي وهي خاوية، رد عليه شفان
ثيابكَ متسخة، رائحتكَ نتنة بعض الشيء، شعركَ بات طويلاً، ومشوارك يحتاج لساعتين إضافيتين، قال له جورج
لقد نسيت ثيابي منذ أخر مرةٍ، عندما كنتُ أرسلها للمصبغة، ورائحتي ليست نتنة يا عزيزي، بل يجب أن أرميها في أقرب حاوية قمامة، وبالنسبة لشعري سأتركه ليغطي وجهي المائل للصفار والعدم، سأرتكه ليغطي انكساراتي وغضبي من هذا العالم المسموم من حولي، ومشواري سيطول إلى نهاية أخر قطرة دمٍ في كبدي، رد عليه شفان
لو كنتَ تشعر باشمئزاز من مذاق الطعام الرديء، والجوارب الملتصقة والثياب القذرة، فلا بد أنكَ تمتلكُ فكرة عما هو جيد، رد عليه جورج
في هذه الأثناء وخلال هذا الحوار بينه وبين جورج أورويل، لاحظ شفان أنه قد شرب خمسة سجائر، ونظر إلى علبة السجائر و وجدها فارغة.
كيف لي أتمام مشواري هذا، فالسجائر هي التي تشعرني برطوبة هذا الصيف اللعين، تمتم شفان بصوتٍ منخفض
نظر من حوله، رأى نفسه وحيداً، أين أختفى السيد جورج
لا بد أنه مات، نعم لقد مات وبقيت كلامته عارمة في وجه العواصف والتاريخ