سلام نعمان
ما كنت أتصور أن مقالة علمية نشرتها لي إحدى الدوريات التي توُزّع وتقُرأ في أوساط ضيقة ومحدودة بطابعها العلمي والمهني… أقول ما كنت أتصور أن المقالة ستخلق لي كل هذه المتاعب التي لم تخطر قط على بالي ولم أكن أتوقعها بأي شكل من الأشكال.
والذي لم أتوقعه على الإطلاق ولم يكن في ذهني أبداً هو أنها ستثير من الضجة في المدينة ما لم تحدثه أية مقالة من قبل، وأخيراً وهو ما كان يمثلّ آخر شيء كنت أريده لنفسي هو هذا الوجع في الرأس الذي طالما جهدت لتجنبه وفراري من المدينة ومن البلد واختيار مكان إقامة مجهولة للعامة وتغيير اسمي خوفاً من الملاحقة بحثاً عن ملجأ آمن من الذين حلفوا بأغلظ الأيمان أن ينتقموا مني وجعل أمي تندم على إنجابي.
والحقيقة هي إن ما أثار استغرابي هو وصول هذه المقالة إلى أيدي كل هؤلاء الذين احتجوا عليها وشتموني وهددوني… لا بل إن بعض المقربين مني أيضاً اعتبروا القضية تمسهم بشكل أو بآخر وراحوا يعاتبونني والبعض منهم اختار الابتعاد عني بينما راح البعض الآخر يناقشني ويحاول دحض ما أكدته لا بل وتسفيه ما توصلت إليه…
وما توصلت إليه استندت فيه إلى الحكمة الشعبية التي أردت أن أضع لها قاعدة علمية ترتكز إلى البحث والمعاينة والاستقراء والاستنتاج… ووضعت نصب عيني مشروعاً ضخماً أتناول فيه الأمثال الشعبية بالتحليل في ضوء هذه الفكرة التي سحرتني وبخاصة ما اكتشفته وحققته في المثل الأول الذي تناولته أو بتعبير أدق تناولت نصفه الثاني والذي ينص على أن ” … وكل طويل لا يخلو من الهبل”. واقتنعت في قرارة نفسي اقتناعاً راسخاً بأن هذا المثل لا يتطرق إلى حكمه الشك وعممته حتى أنني لم أدع فيه مجالاً للاستثناء… وذهبت بعيداً إلى حد الادّعاء بأن لكل قاعدة استثناء باستثناء هذه القاعدة …
والذي ولدّ لدي هذا الانطباع ورسّخ هذه القناعة هو أن كل الأشخاص الذين كانت معرفتي بهم وثيقة أو الذين تناقل الأصدقاء
الحكايات عنهم أو الذين تابعتهم ولاحقتهم وطلبت معلومات عنهم في كل مكان في المدينة… كانوا كلهم من طوال القامة وقد شكلوا المادة الدسمة لإنجازي الضخم …
وإليكم بعض المعلومات عن الأشخاص الذين كانوا “فئران” مختبري والذين لم أشر إليهم بالأسماء أو بأي تلميح يمكن الاستدلال عليهم في المقال كذكر مهنهم على سبيل المثال لحرصي الشديد على عدم المساس بسلامة شخصياتهم وإنما عوضاً عن ذلك قدّمت في البحث كمية هائلة من أصناف السلوك وأنماط التفكير لديهم…
كان شاعراً في الثلاثينات من عمره… أقام العديد من الأمسيات الشعرية ونشر في الكثير من المجلات الرسمية وغير الرسمية… كان يدخن كثيراً حتى أن السيجارة أصبحت جزءاً لا ينفصل عن ملامح وجهه. روى عنه بعض زملائه حين كان طالباً في المدرسة الثانوية أنه قاطع مرة مدرس اللغة العربية الذي كان يتحدث بحماس عن الشعر وكان معروفاً بدفاعه عن الشعر الكلاسيكي وتهجمه على الحداثة وشعرها… قاطعه بقوله إنه هو أيضاً يكتب الشعر الكلاسيكي، وبالرغم من الدهشة الكبيرة التي اعترت الأستاذ وارتسام الحيرة على محياه إلا أنه وهو المعروف بوقاره الفائق الحد تمالك نفسه وطلب من صاحبنا أن يسمعه بعض ما يكتبه من الشعر…
فقام ذاك واتخذ وقفة الخطيب وبدأ يقرأ قصيدة بدأها بـ “حملت فأسي… على رأسي” وأنهاها بـ “أنا الفلاحّ يا سلمى… فماذا ينفع العلما” والحق يقال أن شعر صاحبنا في مرحلة نضجه الشعري وإن تجاوز مثل هذه التعابير الركيكة والساذجة ـ إذا ما أجزت لنفسي حق استخدام مفاهيم نقاّد الأدب ـ إلاّ أنه لم يخرج عن نمطها.
وآخر وكان مديراً للسجن… كان يبدو من مظهره هادئاً ورزيناً لا يمكن أن يسيء لذبابة ،إلاّ أن السجناء رووا عنه حكايات تقشعر لها الأبدان، وأكد الكثيرون ليس على قسوته فحسب وإنما حمقه أيضاً… حكى لي أحد الأصدقاء وهو معلم في إحدى المدارس الابتدائية في المدينة… حكى إن صاحبنا جاء مرة إلى المدرسة ليسأل عن وضع ابنه وسلوكه فأعطاه المدير والمعلمون صورة عنه لا تسر أي أب… فمن الكسل وإهمال الوظائف المدرسية والشغب إلى الهرب من الدوام المدرسي وحدّث ولا حرج… فما كان منه إلا أن طلب منهم استدعاء ابنه فاستجابوا لطلبه دون أن يدركوا هدفه من ذلك وحين جاء الابن إلى الغرفة لم يمهل الأب أحداً من الموجودين لحظة وهرع إلى الابن ليشبعه ضرباً أمام الحضور الذين لدهشتهم لم يعرفوا كيف سيتصرفون وإنما لاذوا بالصمت وانتظروا انتهاء المشهد الذي اختتم بتوجه صاحبنا إلى المدير والمعلمين قائلاً “إنه لكم… خذوا لحمه وابقوا لي عظمه “.
الثالث كان ولا يزال سياسياً مخضرماً من المعارضة السياسية الإيجابية… وبداية دعوني أصارحكم القول بأني وقفت أمام اسمه محتاراً بين ضمه للقائمة أو اعتباره من الاستثناء فقد كان هذا الشخص معروف عنه بتأقلمه دائماً مع الأوضاع الجديدة… التقلب الذي أفاده كثيراً وأطال عمره السياسي الذي كان مهدداً غير مرة… وهذه الصفة لا يمكن أن تكون إلا في الناس الثاقبي النظر الذين يستقرؤون الوقائع والمعطيات بشكل بارع بيد أن ما شجعني على ضمه هو أنه قدّر لي أن أتعرف عليه من قرب ، الأمر الذي أكد لي تفاهته وحمقه بالإضافة إلى جهله وعدم فهمه لأمور كثيرة يطرحها حزبه ويدعي جهاراً ومتفاخراً بأنه ساهم شخصياً في صياغتها…
ويروي بعض الثقاة عنه أنه مرة كان مع أخيه الكبير وقد أخذا لبن العائلة ليبيعاه في المدينة وبعد أن فرغا من مهمة البيع تشاورا حول شراء طعام ليأكلاه فقر رأي صاحبنا على شراء بعض الخبز واللبن ووافقه أخوه على الاقتراح. ويجدر بالذكر هنا أن أخاه كان أطول منه. ومن طريف عبارات صاحبنا السياسي كان تعبير المؤخرة بدلاً من النهاية فيقول على سبيل المثال “من البداية إلى المؤخرة” …
وإليكم ردود الفعل التي صدرت عن هؤلاء… وكان أولها من مدير السجن الذي أرسل لي مبعوثاً راح يهددني حيناً ويلاطفني أحياناً ويطلب مني أن أشطب على المقالة بواحدة أخرى أدحض فيها كل ما طرحته في الأولى بيد أني لم أتردد لحظة واحدة في إبلاغه إن لكل قاعدة استثناء فلماذا لا يعتبر سيده استثناءً وقلت له كذلك إني على استعداد لأن أنقل لسيادته ذلك ولعلمه إني أفعل ذلك دونما خوف أو تملق… ويبدو أن كلامي قد فعل فعله وأرضى حضرة المبعوث الذي لعلمكم لم يكن أقصر من سيده… وتركني وهو في غاية الانشراح.
حدث الأمر نفسه مع الشاعر ولكن مع فارق بسيط وهو أنه حدث وجهاً لوجه في مطعم عرف رواده بأنهم من أوساط الثقافة والأدب والفن… وقد جاء صاحبنا وجلس مباشرة إلى مائدتي دون أن يستأذنني في ذلك… وراح يراوغ ويناور ويحاول أن يوحي لي بأنه غير مهتم على الإطلاق بالنفاية (هكذا نعت مقالتي) التي نشرتها والتي لن تستطيع أن تنال من مكانته الأدبية وألمح في ثنايا حديثه إلى هجاء مرّ عليّ توقعه في قصيدة له آتية لا ريب فيها ولن تقوم لي قائمة بعدها… وبينما راحت ثورة غضبه الكامنة في أعماقه والتي حاول جاهداً ألاّ يظهرها تهمد شيئاً فشيئاً بدأت أنا بالتلميح إلى مسألة القاعدة والاستثناء وأكدت له بأنه بناءً عليها فإنه غير مشمول بهذه القاعدة ورحت شيئاً فشيئاً أنفخ في جذوة الغرور في نفسه إلى أن هدأت الثورة وخمدت تماماً… وعندما أنهيت عشائي وذهبت لأسدد الحساب فوجئت بأنه مدفوع ولم أحتج لإجهاد نفسي كي أسأل النادل لمعرفة من الذي فعل ذلك وبدلاً من ذلك طلبت منه أن يشكره عني وانصرفت.
الطامة الكبرى كانت في رد فعل السياسي أو بالأحرى رد فعل الأصدقاء الذين عرّفوني به… فقد غسلوني بوابل من الشتائم وبكل أصناف التوبيخ والتقريع ونعتوني بناكر الجميل والبعض منهم أبلغني عن طريق آخرين بأن عليّ أن أدرك حجمي وأعرف حدودي وقدر نفسي… الأمر الذي فهمت أنه تهديد مبطن وجعلني ألجأ متوسلاً إلى حجتي عن الاستثناء والقاعدة بيد أن معظمهم لم يرض بها وحتى أن الكثير منهم رفض الاصغاء إليها كلياً… والحقيقة هي أني استغربت مواقفهم وتصرفاتهم التي ضاهت في قوتها وحرارتها مواقف وتصرفات المحامين تجاه موكليهم. .. ولكنهم في الوقت نفسه أثاروا في نفسي الشك بأن صاحبهم لم يقرأ المقالة أصلاً وإصرارهم وعنادهم في موقفهم قوّيا شكوكي، بيد أني والحق يقال خفت كثيراً وتوجست شراً حين انصرفوا عني غاضبين وتغلغل الخوف إلى أعماقي وبخاصة حين استحضرت من الماضي صورة رجل الدين الذي ضربه أصحاب هذا السياسي بأمر منه لأنه تهجّم في إحدى المناسبات على حزبهم… وكانوا يتباهون بما قاموا به واعتبروه درساً لكل من تسول له نفسه أن يفعل ما قام الرجل به وكثيراً ما كانوا يتفاخرون بأنهم جعلوا عمامته تتدحرج على الرصيف.
وحمل لي الهاتف ذات يوم مفاجأة مثيرة قلبت الكثير من المفاهيم في فكري… صوت بدا لي غريباً تماماً ولم يسبق لي أن سمعته من قبل ولم يعرّف صاحبه على نفسه وإنما قال لي دون تحية أو مقدمات بنبرة ملؤها السخرية: أنسيت أيها الغبي أنك تعُدَّ من طوال القامة. ولم ينتظر اللعين جواباً مني وإنما وضع سماعة الهاتف التي كانت تردد صدى قهقهته المجنونة.
مرّ وقت ليس بالقصير لأستيقظ من ذهولي ودهشتي وأسترد أنفاسي المنقطعة من المفاجأة التي حملها لي بكلامه الساخر… ورحت أتساءل في أعماقي عن شخصية الرجل ولماذا رفض أن يكشف عن نفسه ولم ينتظر جواباً مني وما علاقته بالموضوع… ولكن أكثر ما شغل بالي كان السؤال المخيف الذي طرحه والذي رحت بدوري أطرحه على نفسي… ترى هل ما قاله عن طولي صحيح… وإذا افترضنا إنه كذلك أفلا يمكنني أن أعتبر نفسي استثناءً من القاعدة.
ولكن المفاجأة المرعبة والتي هان كل ما حدث لي مما سبق وذكرته بالمقارنة بها هي ما حمله لي صديقي مدرس المواد العلمية (الرياضيات والفيزياء والكيمياء) والذي كان يدرّس أبناء رئيس عصابة هي الأبرز والأقوى من بين كل عصابات البلد. لقد بين لي صديقي عمق الورطة التي ورّطت نفسي بها بنشري تلك المقالة الملعونة… أجل الملعونة فليس من وصف آخر يليق بها. لقد تبين أنه تناهى إلى مسامع الأب أن ثمة مقالة في مجلة ما تتعرض بالسخرية له ولابنين من أبنائه كان أحدهما طويلاً والآخر قصيراً والأب نفسه كان يعتبر من طوال القامة. وتبين لي أن من نقلوا للأب خبر المقالة استبقوني فيما يتعلق بسوق الأمثلة حين ألمحوا له أن ابنه البكر كان مقصوداً بالشق الأول من المثل الشعبي” كل قصير فتنة” … والذي لم أكن قد تناولته بعد في المقالة المذكورة وإنما كان موضوع الدراسة القادمة. هذا الابن كان يتهيأ ويُدرّب لتولي رئاسة العصابة بعد والده الذي أنهكته الأمراض والجراح المتخلفة من محاولات القتل التي قادها خصومه من العصابات المنافسة مراراً والتي كان ينجو منها بأعجوبة. وبالطبع حكوا للأب أن ابنه الآخر والذي كان طويلاً مقصود بالشق الثاني من المثل. صديقي المدرس لم يحذرني وإنما رسم لي الهول الذي ينتظرني وألمح لي بعدم رغبته في رؤيتي ثانية.
وشيئاً فشيئاً بدأت أفكر بهدوء وأخذت استعيد توازني وهدوئي. وقبل كل شيء بدأت أخطط للاختفاء والهرب من البلد وأعملت فكري في البحث عن الأشخاص الذين يمكنهم أن يساعدوني على تنفيذ ذلك… وطبعاً لن يخفى عليكم أني نجحت في ذلك وإلا لما استطعت أن أكتب عما حدث لي ولمشروعي. وبالمناسبة فأنا لا أعتقد أنه سيصعب عليكم الاستنتاج بأني طردت من ذهني كل ما فكرت به من تحقيق مشروعي حول تحليل الأمثال الشعبية وفق فكرتي السابقة فلقد اكتشفت أن كل ما يقال عن حكمة الشعب ما هو إلاّ ضرب من الوهم.
القامشلي 1989