هيفي الملا
ليلتي الأخيرة في هذه المدينةِ البائسةِ طويلةٌ تعاندُ الانتهاء،؟ هل توقفَ الزمنُ فجأةً عند لحظة الحسمِ هذه!!
لحظة إحساسي بوحدتي وسذاجتي ومثاليتي المفرطة!!
من قال : إنَّ السجنَ جدرانٌ وقبضان، هو لحظةُ وحدتك وارتطام رأسكَ المحشوِ بصخرةِ الواقع، لتقفَ آلةُ الزمن فجأةً وبندول ساعةٍ قديمةٍ يتأرجحُ في رأسك ذهاباً وإياباً .
أتلعثمُ بلغةِ الضوءِ وأنجذبُ للهبٍ ينالُ من هشاشةِ أجنحتي ، أُلملمُ جثثَ أغراضي المبعثرة، اتعثرُ بقصاصاتِ الحكايا، برميمِ الوعود المؤقتة، بأطرافٍ مبتورةٍ لأحلامٍ دون هوية وانتماء ، أحملُها صامتةً وكأنني في قداسٍ جنائزي .
سأصمتُ بقيةَ رحلتي تيمناً بمن يحبونَ لغةَ الصمتِ ، بمن يضيقونَ ذرعاً بالسهبِ والتفاصيلِ والحشوِ ، سأصمتُ ولكن بأنهارِ كلامٍ وبطهرانيةِ صدقي السابق .
لن أنسى ملامسةَ أصيصَ الزهرةِ على حافةِ نافذتي، ولن أمنعَ نفسي لأخرِ مرةٍ من لعقِ نقطة الدم إثرَ وخزِ الشوكة التي جاورتْ رقة الزهرةِ، وكأنها تذكرني أبداً بقانون الثنائيات والمتناقضات، ربما لم أكن بطالبةٍ نجيبةٍ لأنني نظرتُ للزهرةِ دون الشوكِ ……
لم أنمْ إذن!! لامشكلة سأغفو لحظات على حقيبتي المهترئة، وأنا انتظرُ القطارَ الذي سيتأخرُ حتماً، لأستعيدَ في ذاكرتي صوراً خيالية عشتها في الكثير من الروايات، حيث كرسي المحطةِ القديمِ وصفيرُ آخر قطارٍ يُنبئُ بنهاياتِ كل الحكايات التي ولدتْ ميتة .
أراقبُ المارةَ بشغفٍ تفصيلي، أرنو إلى كلِ الوجوهِ فأحفظُ عن ظهرِ قلبٍ حكايا كثيرة، امرأةٌ تحملُ مدينتها على ظهرها وتترنحُ بثقلها منتظرةً قطارَ الزمنِ الذي يحررُ من عبوديةِ الانتظار، طفلٌ مثقلُ الجفنين في ملامحه لامبالاة وكأنه تعودَ لغةَ الترحالِ ، طاعنٌ في السنِ يرسمُ خرائطَ عشوائية بعكازهِ. كيفَ نسبتُ أن انظرُ إلى وجهي في المرآةِ هذا الصباح؟
ندوبٌ وتشوهاتٌ أتلمسها على ملامحي؟
دمعةٌ غافلتني لتقطرَ في حصالة دموعي، التي سأروي بها في بلادٍ غريبة وردةً ذابلة، أو ربما أضيفها سائلاً في محلول تغذية لمريض .
يتناهى لسمعي صفيرُ القطار قادماً وأنا أقنعُ نفسي
/إنها رحلتي/ سأجدُ في مكانٍ ما ترياقٌ لندوبِ وتشوهِ ملامحي ، قد ارجعُ جميلةً كما كنت، وقد أبقى بجروحي الغائرة لبوةً تأكلُ وتفتكُ فما أكثر مرضى وضحايا أنفسهم يقتلون كما قُتِلوا!!
خطوتي الأولى نحو القطار ، تنكصُ بي الذاكرةُ ابتسمُ وأنا أحتضنُ كتبي وارسمُ اسمي على ضبابِ النوافذ حتى لا أُنسى ، أشاكسُ الصغارَ واستمعُ لحكمةِ الكبارِ ، ارتشفُ الجمالَ أينما كان، ارقصُ في المآتمِ وأبكي في الأعراسِ، مجنونةً بأثوابي المزركشة وشعري الطليق للريح، وطقوسي التي تشبهني أنا فقط .
خطوتي الثانية، ملعبٌ ومضمارٌ للمشي أزرعهُ أغانٍ وقصائد وأصوات أحبة أدفنها في قوارير كترياق للحنين ، أركضُ لأسابقَ الزمن، ألمسُ ورقِ الشجر أمزقهُ فاعتذر وأمضي …
خطوتي الثالثة، حلقةٌ دائريةٌ مفرغة ارجعُ من حيثُ بداتْ،
و أضحكُ بسذاجة ..
ظهري المتعبُ هاأنا أسندهُ للمقعدِ المرهقِ مثلي، أتلمسُ طياتَ الوجعِ في وجهي، لاشيء حتى ملامحي فقدتُها ربما نذوراً لحياةٍ أخرى سأعيشها بألواني أنا، وإن كانتْ سوداءَ وبيضاءَ ورمادية فقط..!!!