قراءة في كتاب «المرض كاستعارة» للكاتبة سوزان سونتاج

 
بسام مرعي  
((المرضُ هو الجانبُ المظلمُ من الحياةِ، إنه مواطَنَةٌ مرهقةٌ وشاقةٌ، فكلُ شخصٍ وُلِدَ مواطناً في مملكةِ الأصحاءِ، وفي الوقتِ نفسه يُولدُ مواطناً أيضاً في مملكةِ المرضى. ومع أننا جميعاً نفضلُ أن نحملَ جوازَ سفرِ مملكةِ العافيةِ، فنحنُ مجبرون آجلاً أم عاجلاً على الأقلِ لفترةٍ من الزمنِ، أن نعدَ أنفسنا مواطنين في مملكةِ المرضِ)) 
– سوزان سونتاج –     
لقد تمَّ توظيفُ المرضِ ومنذُ فترةٍ طويلةٍ في الحياةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ، وحتى في الأدبِ أيضاً ليأخذَ شكلَ استِعارةٍ تحملُ في طياتها الكثيرَ من الأسئلةِ ، ولتخلقَ نوعاً من الوصفِ غيرِ الدقيقِ والمبالغِ فيه، لأنه لايمكنُ لحالةٍ اجتماعيةٍ أن يتمَ التعاملُ معها كمرضٍ عضوي ، وبالتالي التعامل مع مشكلةٍ اجتماعية أو سياسية أو حتى اقتصادية بعقليةِ الطبيبِ  الجراحِ، ليتمَ استئصالُ المشكلةِ كعضوِ مريضٍ ، وهذا مالا يتفقُ مع الحالةِ الأخلاقيةِ في إيجادِ الحلولِ لقضايا مجتمعية أو سياسية٠ 
 مملكةُ المرضِ وكما ذُكِرَ سابقاً مملكةٌ مستقلةٌ بذاتها، والدخولُ إليها يجب أن يأخذَ بُعداً وحجماً طبيعياً لابدْ منه، مستنداً إلى العلم في وصفِ أسبابهِ وطرقِ علاجهِ ، فإذا  اعتبرنا الصحةَ والعافيةَ مملكةً، فالمرضُ أيضاً مملكةٌ مقابلةٌ وهي مشرعةُ الأبوابِ للجميعِ دونَ استثناء، و ربما معادلةٌ كهذهِ تحفظُ التوازنَ فيما بين الحياةِ والموتِ وبين الكثيرِ من الثنائياتِ المتناقضة٠
إنَّ استعمالَ المرضِ كاستعارةٍ للتعبيرِ عن حالةٍ سياسيةٍ أو ايديولوجيةٍ معينةٍ أو تيارٍ سياسيٍ قديمٍ قِدَمَ السياسةِ، وتشبيهِ الحالاتِ المجتمعيةِ كجسدِ  مريضٍ، هو خروجٌ عن المألوفِ وعن طريقةِ تفكيرٍ متوازنةٍ في التعاملِ مع القضايا السياسية والمجتمعية، لأن المجتمعات لايمكن أن تصابَ بأمراضٍ فتاكةٍ ومميتةٍ، ومن هنا يبدو إنَّ عقليةَ الغزوِ في التعاملِ مع المشاكلِ المجتمعيةِ والسياسية، وكأنه جسدُ مريضٍ أو آفةٌ يجبُ استئصالها، تعبرُ عن حالةِ قلقٍ وعنفٍ متطرفة . 
ومن هنا تأتي أهميةُ كتاب ””””سوزان سونتاج”””” الذي يتضمنُ تحقيقات وبحوث في مجالاتٍ عدةٍ لشرحِ هذه الاستعارات وتحريرِ المرضِ منها . 
حيث مازالَ متداولاً وإلى الآن في الأدبياتِ السياسةِ ولغته الخطابيةِ، هذا المنطق في تحليلِ الظواهر السياسية والاجتماعية ، فنجدهُ على لسانِ الكثيرِ من السياسيين في وصمِ معارضيه أو المختلفين عنه في الرأي .
 كان النازيون مثلاً يشبهون الشخصَ الذي تتعددُ أصوله العرقية بمرضِ الزهري، أما اليهود الأوروبيون فلطالما تَمَّ قياسهم بالزهري أو السرطان الذي لابد من استئصاله ٠ 
و كانتْ استعاراتُ المرضِ عنصراً رئيساً في الجدالاتِ البلشفيةِ، فقد استعملها تروتسكي، أحدُ أكثرِ المجادلين الاشتراكيين مهارةً، استعملها بوفرةٍ بالغةٍ وخاصةً بعد نفيهِ من الاتحاد السوفياتي سنة 1929 ٠
أما ””””غرامشي”””” عام 1916 وفي كتابه / الاشتراكية والثقافة/ يقولُ لينحى نفسَ المنحى :  
((إنَّ الاعتقادَ عادةً بأن الثقافة هي معرفةٌ موسوعيةٌ هذا الشكل من الثقافةِ يفيدُ في خلقِ المثقفين الباهتين وبالتالي قليلي التأثيرِعلى المجتمعِ، الشيء الذي أنتجَ بدورهِ حشداً كاملاً من المدَّعين وحالمي اليقظة الذين هم أكثر ضرراً على الحياة الاجتماعية والصحية من السلِ أو من مايكروبات السيفليس على جمال الجسم والصحة )) 
وقال ””””مارينيتي”””” مستنكراً الشيوعية عام 1920 : الشيوعية هي سخطٌ وغضب السرطانِ البيروقراطي الذي دمرَ الانسانيةَ دائماً . 
وتستخدمُ هذه الاستعارات كثيراً الديكتاتوريات الشرق الأوسطية حالياً، كوصفِ رأسِ النظامِ السوري للمعارضين بالجراثيمِ والميكروبات . 
والقذافي لمعارضيه بالجرذانِ التي تجلبُ المرضَ، وحالياً أردوغان للكوردِ في تركيا وفي خارجها، حتى بالنسبةِ للكوردِ أنفسهم فنرى بعض المحسوبين على طرفٍ كورديٍ معين  يصفُ الأخرَ بالسرطانِ المستشري والذي يجبُ استئصاله ٠
وفي ذلك إتباع مقاييس صارمة وقمعية قد تزيدُ من حدةِ الاضطرابِ عوضاً عن إيجادِ حلولٍ مناسبة، و بالتالي مشكلةٌ بسيطةٌ من شأنها أن تتحولَ لكارثةٍ ، لهذا لا يجبُ المبالغةَ في معالجةِ الكيانِ السياسي، حيث لا يحتاجُ كلُ اضطرابٍ إلى إصلاحٍ ٠
 وعلينا محاولةُ فهمِ الشرِ الأصولي والجذري أو الشرِ المطلقِ من خلالِ البحثِ عن استعاراتٍ كافيةٍ ومنطقيةٍ، لأن كل استعاراتِ المرضِ المجازيةِ الحديثةِ ما هي إلا طلقاتٌ رخيصةٌ كالحرب على الذباب ، السرطان ، الطاعون ، السل ، الجرذان ، العلوج . 
في العصرِ الحديث، أصبحَتْ لصورةِ المرضِ في الخطابِ السياسي استعمالاتٌ أكثرَ سوداوية، ويتمُ استخدامها في السياسةِ بوجهٍ أكثرَ حدة ٠
  في أيامنا هذه تشبيهُ تيارٍ أو موقفٍ سياسي بالمرضِ يعني ذلك أن تُلبسَه تهمةً ما، وأن تُحيله لعقابٍ قاسٍ وعنيفٍ ومؤذٍ٠
و هنا من المهمِ جداً فصلُ المرضِ عن الحالةِ السياسيةِ أو الاقتصاديةِ كإستعارةٍ للوصفِ حتى لو كانتْ مجازية، ومن ثم إعطاء المرضِ حقه الطبيعي والتعامل معه بعيداً عن الخرافاتِ والأوهامِ ، وتصحيح المفهومِ المرضي والابتعاد عن استعاراتٍ مرعبةٍ كما في مرضِ السرطان والسل قديماً والأيدز حالياً، و كأنَّها فألٌ مشؤومٌ،  لأنه وبعدَ سنواتٍ من البحثِ في أسبابِ هذه الأمراض، ظهرَ العلاجُ ليزيحَ الستارَ عن أسبابِ وعلاجِ الكثيرِ منها كالسلِ والكوليرا والطاعون، بعد أن كانَ هاجساً طبياً واجتماعياً وحتى أخلاقياً كبيرا . 
كما في مثال ””””كافكا”””” في نيسان1924 من المصحِ الذي توفي فيه بعد شهرين : 
((شفهياً لم أعلمْ عن أي شيءٍ محددٍ أبداً لانه عند الكلامِ عن السلِ تصبحُ لهجةُ المتحدثين خجولةً وفيها مداراة ورغبة في التوقفِ عن الخوضِ في هذا الموضوع )) 
يقول كافكا أيضاً : لااعتقدُ أن هذا المرضَ هو السلُ وعلى الأقلِ ليس سلاً بشكلٍ أولي بل هو إشارة لإفلاسي العام . 
وفي الإلياذة والأوديسا المرضُ يظهرُ كعقابٍ خارقٍ للطبيعةِ كملكيةٍ شيطانيةٍ، ومستحق بسببِ إثم وخطأ شخصي . 
وهناك مفاهيمٌ خاطئةٌ عن السرطانِ أيضاً تندرجُ تحتَ المفاهيمِ العقابيةِ بأنه مرضٌ مُخزٍ ويجلبُ العارَ٠
بالإضافةِ للكثيرِ من الاستعاراتِ المأخوذةِ عن السرطانِ من لغةِ الحربِ، فهي خلايا غازيةٌ ومُستَعمِرة، والعلاجُ يأخذُ نفسَ المنحى العنيفِ والمتطرفِ، والجديرُ بالإشارةِ أن هذه الاستعارات دخلتْ الطبَ في 1880 مع تعريفِ البكتريا  كعوامل مساعدة للمرضِ حيث كانَ يُقالُ إنَّها غازيةٌ ومتسللةٌ٠
إنَّ تشويهَ الناسِ ووصمهم باستعاراتٍ مرضيةٍ، تحملُ في طياتها الكثيرَ من المبالغةِ المحبطةِ، وهذا أمرٌ يدعو إلى التفكيرِ ملياً والوقوفِ ضد هكذا توصيفات حتى تُفهَمَ في سياقها الماضي، والحد إنْ لم نقلْ منعَ استخدامها في لغةِ الخطابِ المعاصرةِ ولغة الحكيِ وفي عالمِ الأدبياتِ حيث تَمَّ توظيفهُا كثيراً
اربيل 26-6-2021

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…