المثقف والأمة

  د.سربست نبي

بالعودة إلى التاريخ الحديث والمعاصر لهذه الأمة, لايبدو بروز نخبها المثقفة حادثاً منعزلاً عن حركة هذا التاريخ. لكن بالمقابل تتضح أمامنا مسارات خاصة به, تتسم بنوع من الفرادة وحتى الغرائبية, التي تبعث على الحيرة والدهشة. ومن هذا القبيل ينشأ السؤال التالي: كيف نفسّر, وفي وقت واحد، انسلاخ معظم المثقفين والمفكرين والمبدعين والأعلام، أمثال الزهاوي وقاسم أمين والزركلي، محمدعبدو،الكواكبي، محمد كرد علي – الذي كان له الفضل في أنه كان أول من بشّر ودعا إلى تعريب المناطق الكوردية في الجزيرة وعفرين- محمد تيمور، أحمد شوقي، بلند الحيدري- الأخير الذي ردّ على مراسل (الثورة الثقافية) في السبعينات من القرن المنصرم حين سأله عن أصوله الكوردية، ولمَ لا يكتب بالكردية؟ مستعيناً بكلام البيروني حين قال: إن العربية هي لغة المديح والثناء والفارسية هي لغة السبّ والقدح والذمّ–
وكذلك الأمر بشأن معاصرينا الكفتارو والبوطي- الشيخ الذي وضع نسبه الكوردي تحت قدمه كما أعلن عن ذلك- والبكداش الشيوعي الذي لم يجد حرجاً من الاعتراف بأنه من العرب المستعربة، وكان من أوائل ممن رفعوا شعار(سورية العربية) في قبة البرلمان وتمسك به حتى أنفاسه الأخيرة, ومع ذلك لم تمنع عنه الأحوال تهمة (الكردي المارق) من قبل خصومه كلما اقتضى الأمر ذلك. هذا الراحل العظيم المستعرب كان يتذكر كورديته فقط عندما يكون ثملاً، فيشرع بالنواح والغناء معاً بالكردية!!!!؟ 
تشكّلت لدي قناعة مؤخراً, نتيجة جولاتي وزياراتي الأكاديمية في معظم أجزاء كوردستان, واحتكاكي المباشر بالنخب المثقفة في الشرق والشمال والجنوب ونقاشاتي معهم. خلاصة ذلك أن أكبر خيانة ارتكبت بحق هذه الأمة لم تأت من جانب الساسة إنما من طرف المثقفين ذوي الأصول الكوردية. وبخاصة في بدايات القرن العشرين, لقد تصرف هؤلاء بحقارة ودناءة نفس نحو أمتهم وبإذلال و دونية تجاه الـ ( غير). ففي الوقت الذي كانت هذه الأمة تتعرض للتقسيم والحرق والدمار والمجازر, أدار هؤلاء ظهورهم لشعبهم وانصرفوا صوب طهران واستنبول وبغداد ودمشق وأخذوا يتسولون على عتبات جلادي شعبهم, راحوا يتطبعون بالمجالين الاجتماعي والآيديولوجي للطبقات المتسلطة, ويفكرون ضمن أفق وأطر الخطاب السائد لدى الأمم الأخرى, وبوسعنا أن نسرد عشرات الأسماء في هذا السياق من نخب تلك الأمم المجاور ممن برز وتماهى في البنية الأيديولوجية للأمة المسيطرة. في هذا الوقت الحرج من التاريخ الكوردي لا نجد مثقفاً حقيقياً, إلا فيما ندر, حسم خياره الثقافي والسياسي في الانتماء إلى مشروع الأمة الكوردية والعمل لأجل, ولهذا, ربما, نحن نفتقر حتى الآن إلى خطاب ثقافي في الأمة والقومية, ونفتقر إلى نخبة مثقفة قومية حتى الآن, تدافع قولاً وفعلاً عن مشروع الأمة, وتنتج الأدوات النظرية والمفاهيم للازمة. سيبقى أحمدي خاني الأول واليتيم برغم من أنه سبق أوانه, ولسوء الحظ, بزمن طويل.

كيف نفسر في قولٍ واحد، هذا الانسلاخ عن الذات القومية والثقافية والتنكر لها ومن ثم التماه في هوية الآخر؟ كيف نعلل هذا النزوع إلى التخلي عن الهوية والاندماج، بالمقابل، في هوية الآخر، الذي غالباً ما أظهرت ثقافته القومية ميلاً اقصائياً وإنكاراً نحو الثقافة الكوردية والهوية القومية للكورد؟ كيف لنا أن نفهم طبيعة هذا المصير التاريخي الفاجع لدى مثقفي هذه الأمة ونخبها كي نتخطاه؟ … إن انشغالنا بهذا السؤال، نعني بفكرة غربة المثقف الكوردي ومصيره، أي بما يجب أن يكون عليه هذا المثقف مستقبلاً، حتى لا تظل هذه الأمة فاقدة لنخبها، لا ينفصل لحظة ما عن تناول مشكلات التاريخ والمجتمع والتقدم لدى الكورد ودور الفرد فيه. وفي المحصلة هو سؤال لم يزل وثيق الصلة في وجهه الآخر بهاجس هو: ما يجب أن يكون عليه عالمنا القومي مستقبلاً؟ ولعل إعادة النظر النقدي في الطبيعة التاريخية للمشروع القومي وفي طبيعة خطابه وآلياته يأتيان في مقدمة ذلك .
 
عن صفحة الكاتب

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…