جمعة أحمد جمعة
عندما انتهيت من قراءة مجموعة القصة القصيرة في الجزيرة السورية التي قام بجمعها الأستاذ رضوان محمد وهي بادرة جميلة منه، نازعتني عدة مشاعر هي مشاعر الحزن والفرح بآن واحد، الحزن لأني ابتعدت عن كل الإبداعات الجز راوية التي ظهرت خلال الخمس وعشرين سنة الماضية، والفرح لأني فوجئت بالمستوى الراقي الذي وصلت إليه هذه القصص، من معالجة فنية عالية المستوى، ومن لغة عباراتها تتراوح بين الرشاقة والبساطة من جهة، وبين التعقيد والعمق من جهة أخرى، تفوح منها رائحة البيئة الأصيلة، ومفردات شديدة الصلة بالمنطقة. مستخدمة التقنيات الحديثة في القص، كل ذلك دون أن تهمل الحدث ، فالحدث يبرز حاداً ومأساوياً أحياناً، وطريفاً ساخراً أحياناً، وغائماً ضبابياً أحياناً أخرى، كل ذلك بفنية عالية يدل على أن كتابها مالكين لأدواتهم بشكل أصيل، ويستخدمونها بتقنية فريدة.
لاشك أن القصة القصيرة لم تعد تقف عند حدود القصة الكلاسيكية القديمة بداية ووسط ونهاية ولم تعد لها ذروة وحبكة، ولم يعد لها نظام، وأصبح القارئ مطالباً باليقظة التامة ووحدة الوعي ومحاولة ايجاد نظام من خلال فوضى الأفكار وتبعثرها .
إن هذا الاتجاه الجديد في القصة الذي تجاوز الواقع لأنه لا يحاول تسجيله، بل يحاول أن يبعث الحياة فيه من جديد، يرفض نمطية التفكير والأداء، ويسخر من السرد والحكاية، ويستعرض الخروج على المألوف ليحدث هزة عقلية في الفكر، وينسحب من الواقع إلى داخل النفس ليرصد كل خطواتها وأفكارها التي تجري بلا نظام، والتي تتبعثر دون أن تفقد الخيط الذي يربطها وهو الإنسان، وقد ارتبط الاتجاه الجديد في القصة بمعطيات التحليل النفسي، وبالمذهب الرمزي ارتباطاً وثيقاً، فأصبحت القصة الحديثة تعبر عن تداعيات الأفكار العابرة، وتصور عالم التخيل الباطني الزاخر بكل أنواع التجارب الحية، والأحاسيس الانفعالية، وأحلام اليقظة . ولاشك أن نظرية فرويد في الأحلام قد حطمت ذلك الحاجز الوهمي الذي يفصل بين اليقظة والحلم، ولهذا نجد القصة الحديثة تستخدم الصور والرموز في استحضار التجربة طبقاً لما يؤمن به كتاب القصة الحديثة. ومن هنا أصبحت لهم لغة خاصة، أو دلالات جديدة للغة، مع تركيب أسلوبي جديد يعبر عما في الذهن بصورة تجريدية.
و في ذلك يقول ادمون ولسون « يتباين كل شعور إحساس بعضه عن بعض , و كذلك تتباين كل لحظة من لحظات الوعي , تبعا لهذا فإن من المستحيل ان نستطيع التعبير عن أحاسيسينا كما نمر بها تماما إذا حاولنا أن نصفها باللغة التقليدية الشائعة العادية , و إن لكل كاتب شخصيته الفريدة , و إن كل لحظة من لحظاته تتميز بواقع خاص و تركيب عضوي مميز , من واجب الكاتب أن يوجد اللغة الخصة القادرة على التعبير عن شخصيته وأحاسيسه » .
ونحن في مقالنا هذا نحاول أن نقرأ هذه النصوص قراءة متأنية ومتبصرة، علنا نستكشف عما وراء السطور. نستنطقها، ونحاورها، نتعرف عليها ونتعرف على أنفسنا من خلالها.
ولنبدأ بالقصة الأولى (ترجمة حرفية) لكاتبها خورشيد أحمد، لشد ما أثارت إعجابي هذه القصة لأسلوبها البسيط والرشيق، ولطرافتها وجدتها، عندما تقرأها تشعر أنك أمام قاص متمكن من أدواته، تنساب القصة على يديه كالجدول الرقراق عبر مشاهد جميلة ومثيرة لتنتهي نهاية طريفة لا تملك إلا أن تبتسم ابتسامة الإعجاب.
شاب مهندس يستضيف في بيته ضيفة فرنسية، تعرف عليها عندما كان في باريس في مهمة لعمله، ونشأت بينهما علاقة غرامية عنيفة آنذاك. لكنه الآن وهو المتزوج من امرأة شرقية محافظة لا تستطيع تقبل امرأة غربية في بيتها، خاصة وأنها تتصرف على سجيتها تتنطنط وتقبل زوجها أمامها وتلبس بنطال جينز(مقصوص من وسطه كاشفاً عن الفخذ والركبة والساق في بهاء أبيض يشتهيه كل ابن آدم).
هاهو كاتبنا مثله مثل توفيق الحكيم في عصفور من الشرق، والطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال، وغيرهم ممن كتبوا عن علاقة الشرق بالغرب. يقف عاجزاً أمام ضيفته الفرنسية التي (تهبط عليه ملكة من نور ونار، لتجرده من كل الأوراق التي تستر عورته، فهو الشرقي المنسي والمرمي في هذه الزاوية المنسية من شرقنا القصي، والتي يتلجلج التاريخ والجغرافيا معاً في تحديدها).
هنا يستوقفنا الأمر، عن أي عورة يتحدث كاتبنا، وعن أي شرق منسي ومرمي في زاوية منسية يتحدث، حتى التاريخ والجغرافيا يتلجلجان في تحديدها. واللجلجة في اللغة هي ثقل اللسان والتردد في الكلام، ولماذا يتردد التاريخ والجغرافيا في تحديد الشرق الذي ينتمي إليه الكاتب.
حتى الأوابد التاريخية، تدمر، قلعة حلب، أفاميا، قلعة الحصن، والجامع الأموي… لا تطاولها رغبته المتأججة في أن يعرف صديقته الفرنسية بها . لماذا؟.. كلمة استفهامية نطرحها على الكاتب لماذا؟.. ليست له رغبة في أن يعرف صديقته بهذه الشواهق الحضارية وهي من بلده كما يقول، والسؤال برسم الإجابة، رغم أن النص يشي بأكثر من إجابة، والنص مفتوح على أكثر من احتمال.
وهو ينتمي إلى مدينة القامشلي، ولعل القامشلي هي الزاوية المنسية من شرقه القصي. علماً أن هذه المدينة حديثة التكوين، لا يعود بناءها إلى أكثر من ثمانين عاماً هذا أذا أستثنينا التصاقها بمدينة نصيبين التاريخية . فهي بلا تاريخ، وجغرافياً تقع في الأقصى الشمال الشرقي من سورية، ومن هنا قد يتلجلج التاريخ والجغرافية في تحديدها.
ويحتار كاتبنا أي المعالم يمكن له أن يعرف ضيفته بها. الحديقة العامة، شارع العشاق، محطة تل زيوان، حاووظ الماء الذي يقف خازوقاً إسمنتياً في الهلالية. كلها خيارات سخيفة وهو يبحث عن مخرج للمأزق الذي وضعته فيه زيارة صديقته المفاجئة .
إنه يبحث عن معالم في مدينته الصغيرة والمنسية تضاهي معالم مدينة باريس ولا يجد . إنها عقدة النقص التي يعانيها الشرقي اتجاه الغرب، فهو يشعر بالدونية اتجاه صديقته ويحاول أن يتلافى عقدته باللجوء إلى الكذب، عندما كان يترجم كلمات الأغاني السخيفة في مطعم غرين لاند الذي دعاها إليه ليتخلص من مأزقه، فهو يترجم جملة غناها مطرب رخيص. تقول الجملة (تحنجلي وتمرجلي يا أم الخدود السفرجلي) ويترجمها بطل القصة مستعيناً بيبيت من الشعر لجرير :
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وتطلق صديقته الفرنسية صيحة متخمة بالنشوة : أوه..! يا لخيال الشرق الساحر..!
وتتتالى الأغاني السخيفة ويتابع كذبه بترجماته عندما تستحضر ذاكرته لقصائد عظيمة لشعراء كبار . لكنهما في النهاية عندما يرجعان إلى البيت تخرج دفتراً من حقيبتها وتطلب منه أن يسجل كلمات الأغاني . يمسك بالدفتر ويكتب وحين يفرغ من الكتابة يذيلها بالعبارة التالية:
عزيزتي سوزان.. الكلمات الحلوة التي سمعتها في المطعم كانت ترجمتها رديئة بفعل السكر. أما هذه الترجمة فهي مع خالص حبي. ” ترجمة حرفية “.
هذه القصة على بساطتها، وحبكتها المقدمة بطريقة شفافة وجميلة، تثير الكثير من الأسئلة ومن هنا تأتي أهميتها . إذ أن الأدب الجيد هو الأدب الذي يثير الأسئلة أكثر من طرحه الأجوبة.
أما القصة الثانية للقاص بسام الطعان بعنوان / نهر الدم / فقد أدهشتني أيما دهشة، إذ تعتمد على حدث مأساوي لكاتب يتلقى رسالة تهديد. تقول الرسالة: (السيد عزيز ستسقط في دوائر الدم) وعندما يبلغ المخفر برسالة التهديد التي تلقاها، يتلقى الضابط شكواه باستخفاف، وأن الأمر لا يعدو مزحة من أحد قراءه. وبعد أن غادر المخفر كانت رسالة مماثلة من ناقد مشهور قد سلمت إلى المخفر، وبعدها رسالة أخرى من قاص وروائي فيهما عبارات مماثلة لرسالة السيد عزيز، وبعد خمسة أيام وجد أحد الرعاة جسداً دون رأس على حافة النهر وبعض أطرافه معلقة على عصا مغروزة في الأرض، وبعد أيام أخرى وجدت جثة أخرى وبالسيناريو نفسه. هنا تنتهي القصة.
إن الحدث هنا رغم قسوته ومأساويته لم يثر دهشتي، لكن نبض الكلمات والجمل التي تم انتقائها بعناية فائقة هي التي ادهشتني، قدرته على انتقاء الكلمات تضعك في جو من الرعب والخوف، فمنذ أول عبارة في القصة وحتى آخر عبارة يجعلنا نستشعر الخطر ونتابع بطل القصة وهواجسه. لقد أجاد الكاتب أن يضع القارئ بجو الرعب الذي عاشه بطله، هنا نجد تكثيف شديد لعبارات الخوف والموت الذي ينتظر البطل، كل نفس يتنفسه، وكل مشهد يستعرضه، وكل همسة يهمسها، كل خطوة يخطوها، كل حركة يسمعها أو يتحركها، تذكرنا بموضوع القصة، وتجعلنا نتعايش مع بطلها. فموضوع الخوف هو الجو العام الذي يسيطر على القصة، هذا هو مصير كل كاتب أو مبدع يقترب من المحرمات أو التابوات. هناك جماعات خفية تترصدك وتهددك بالقتل، قد تكون جماعات تكفيرية، رغم أنه لم يشر إليها صراحةً لكنه يوحي إليها، أو قد تكون جماعات أخرى، أو عصابات لها مصلحة في اسكات صوت المبدع، أي تكن هوية هذه الجماعات فهي قوى ظلامية تعمل في الخفاء، لإسكات كل كلمة إبداع تفعل فعلها ومنع كل إشراقة نور تغمر الكون.
أما القصة الثالثة للكاتب صبري رسول وعنوانها /غبار البراري/ قصة جميلة بكل المقاييس، تعتمد الجملة الرشيقة والمعبرة، كل ذلك بأسلوب شاعري مؤثر، مستفيدة من تقنيات القص الحديثة من تقطيع وتداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر، والاعتماد على الجملة الموجزة والمعبرة، والتي تدخل في صلب موضوع القصة، مبتعداً عن ترهلات اللغة وتهويماتها، والاستطرادات التعبيرية الغير ضرورية، موضوع القصة يعتمد على شخص يتحدث عن ذكرياته الجميلة، التي يحملها في أعماقه عن ابنته التي سافرت إلى أرض الأدخنة، ويشعر انه خُدع عندما وقع على وثيقة سفرها، ويشعر بالندم على ذلك، والخديعة تمت على يدي زوجته حيث يذكر (نسجت المرأة الأم خيوطها بذكاء يصل إلى مرتبة الخديعة الكبرى) مثل شهرزاد عندما سيطرت على شهريار، وأفقدته اللسان والسيف، وجعلته يوقع على وثيقة السفر. لكن ما أثار حيرتي هو البلد الذي سافرت إليه ابنته، والذي يسميه الكاتب أرض الحرائق والأدخنة، هو يشير إلى أرض العراق بلاد الرافدين، ويشير إلى الرصافة شرقي نهر دجلة، حيث وصف العراق بأرض مشتعلة بحرائق القادمين من وراء المحيط ، وهذا كله صحيح، أما أن يصف هذه البلاد بأعمدة من الأدخنة تصعد منذ الأزل، لتلحف الجبال العملاقة المصبوغة بثلج العمالقة، فهذا ما حيرني، أي أدخنة تصعد منذ الأزل؟.. وأي جبال عملاقة؟.. وأي ثلج عمالقة يقصد؟.. هل يشير إلى مكان آخر؟.. لا أعتقد لأنه يحدد المكان بالرصافة. والرصافة هي المكان الواقع شرقي نهر دجلة في مدينة بغداد .
أما قصة / في الطريق إلى الحنين / لملكون ملكون، فأن هذا القاص قد حملنا على جناح طائر، ومضى بنا نحو ذكريات الطفولة، كل ذلك عبر لغة شفيفة ورقيقة كرقة قلبه. حيث الأتومتريس، وسكة الحديد، والحدود التركية، إنها صور من ذاكرة الطفل، بل ذكريات كل الأطفال الذين عاصروا تلك المرحلة. وكل ما قام به ملكون هو أنه أزاح الغبار عن ذاكرتنا، التي أكلها الصدأ وعجنتها السنين، وأدخلنا بمشاعره الطفولية المدهشة إلى عالم الطفولة وسحبنا إليها برفق عبر قلمه الساحر، وليجعلنا نعيش تلك المرحلة بكل زخمها وألقها . أما الآن، وبعد عدة عقود من الزمن المدهش، يمتطي كاتبنا براءته من جديد بحثاً عن دهشته المفقودة، إنها رحلة يقوم بها مع ثلاثة من أصدقائه الحالمين إلى تركيا، وهي أرض سمع عنها في سهرات الطفولة الشتائية وهم يتحلقون حول المدفأة، إنها حكايات عن بلاد جميلة غادرها أهلها قسراً، وانتزعت منهم بيوتهم وذكرياتهم انتزاعاً. اشارة من الكاتب إلى مجازر الأرمن والسريان في بدايات القرن العشرين، عندما قامت الدولة العثمانية بتهجيرهم من أراضيهم، وارتكبت بحقهم مجازر يقشعر لها ضمير الإنسانية على ما تذكر الوثائق والدراسات. ويمضي كاتبنا هو ورفاقه إلى منطقة / حسن كيف / الأثرية، وهي منطقة تقع على نهر دجلة، وهي عبارة عن جبل حفرت في جنباته الكهوف والبيوت بطريقة مدهشة وساحرة. ويتساءل كاتبنا: من هي هذه الوجوه الغريبة الملامح ؟ . ما الذي شهدته هذه الصخور والجبال؟. من ابتلع هذا الماء وبأي أسرار يحتفظ ؟ .. في أي تجويف في هذا الجبل احتموا ذات شتاء؟.. أية لحظات قاسية عاشوها هنا في هذه الأزقة؟.. وعلى أطراف هذا النهر.
وعندما تغيب الشمس لا يملك كاتبنا ورفاقه إلا الحنين إلى هذه الأرض، التي كانت في يوم من الأيام مسكونة بناس غادروها قسراً.
رغم اعجابي الشديد بهذه القصة وبشاعريتها الطافحة بالمشاعر النبيلة، إلا أنها اعتمدت على التلوين اللغوي على حساب الحدث. فالحدث يبدو باهت الملامح رغم أهميته، وشخصياته غائمة يلفها الضباب، فالكاتب يفرط من استعمال تقنيات القص لتغطية حدث عادي، وهو رحلة الى مناطق في تركيا، ويلونها بمشاعر الحنين التي طغت على الحدث وغيبته. فالفن الحقيقي كما يذكر أوكونور هو المزاوجة بين أهمية المادة وطريقة المعالجة.
وننتقل إلى ما هين شيخاني في قصته / الرائحة / قصة بلا قلب بلا عواطف خالية من الشاعرية والأحاسيس. يقدم الكاتب وقائعه بحيادية تامة، لا أثر لجماليات اللغة وشطحات الخيال، ورغم ذلك فأنت أمام قصة من نوع مختلف يقدم لك واقعاً لا معقولاً يشبه أدب العبث، يلجأ إلى الرمز، يختلط فيه الحلم بالواقع ولا تدري متى يبدأ الواقع ومتى ينتهي الحلم فالعلاقة بينهما علاقة مماهاة وتداخل. تبدأ القصة بوجود البطل في غرفة العمليات، وفريق من الأطباء فوق جسده يجرون له عملية جراحية في القلب، ويكتشف الأطباء أمراً في غاية الغرابة أحدهم يقول : ((لدى إجراء العملية الجراحية للقلب، تبين لنا آثار صورة فتاة ضمن إطار ألماسي محطم ومتناثر حيث تأثر شغاف قلبه بجروح بالغة لم يلتأم بعد.
رد آخر : أي قلب يا دكتور؟.. قل بيضة مفرغة من محتواها، لم نر سوى أطلال قلب والتي تربعت على عرشه دودة متوحشة فسدت كل شيءٍ من خلال تحركها )). إنها صورة سوداء كافكاوية لا معقولة، لقلب مثل بيضة مفرغة من محتواها، تعيش فيه دودة متوحشة. إذ كيف لإنسان أن يعيش بقلب مفرغ من محتواه، إنه على مدلول الرمز يعني الكثير، إنه الخواء الذي أصاب نبض الحياة، وسرقت الدودة المتوحشة منه الفرح والأمل. ونتابع المدلول الرمزي الآخر وهو الرائحة. ففي تلك الليلة المأسوية التي قضاها بطل القصة وهو يجاهد كي يتخلص من أرقه، أحس برائحة غريبة قذرة وكأنها رائحة جيفة ميتة تفوح من الغرفة، فتح النافذة والباب على مصرعيهما، ذهب إلى المطبخ، شرب كأساً من الماء، تأكد من أسطوانة الغاز كانت مغلقة بإحكام. مضى إلى غرفة الضيوف لكن دون جدوى بقيت الرائحة النتنة تلاحقه بل تكاد تخنقه. في الحلم رأى زوجته تتحدث مع جارتها عن الرائحة. لفت انتباهه برامج قنوات التلفزيون السياسية والغنائية، كلها تتحدث عن الرائحة شاهد ندوة حوارية عن الرائحة، البعض عزاها على أنها من فعل أمريكا لترهب المجتمعات، والبعض رأى أنها من عمل الحكام كي ننسى همومنا، أما الثالث ذو اللحية البيضاء فقد عزاها إلى إرادة الخالق، وهي من علامات دنو الآخرة.
في الصباح استيقظ باكراً ليتأكد من زوال الرائحة لكن دون جدوى، بقيت الرائحة كما هي، أختلس النظر إلى الأولاد ليتأكد هل يشعرون مثله بشيء؟.. إلا أنهم كانوا طبيعيين وكأنهم بلا أنوف، لوحة سريالية كأنها إحدى لوحات سلفادور دالي، إلا أن كل القيم والشرف تأبى أن يكون الإنسان بلا أنف، وهو دليل الشمم والإباء.
هنا يؤكد الكاتب بمدلوليه الرمزيين، خواء القلب، والرائحة النتنة، على أن الحياة سادها الخواء واللا معنى، وقد خلت من المعاني السامية، وقد اتسمت بالبشاعة التي لا تطاق من خلال المدلول الرمزي الرائحة النتنة .
وفي قصة اللصوص لكاتبها د. أنطون أبرط يتجلى فيها أسلوب السخرية، من خلال عدة مفارقات يقدمها لنا الكاتب. وهو الأسلوب الذي اشتهر به الكاتب زكريا تامر. فكاتبنا يلج عالم زكريا تامر بجرأة، طابعاً بصمته الخاصة رغم تأثره الشديد به. يقدم لنا مجموعة لصوص يحاولون سرقة أحد البيوت لكنهم لم يفلحوا، ففي الليلة الأولى أصيب أبن صاحب البيت بالشلل لعدم توفر اللقاح، وفي الليلة الثانية لم ينم صاحب البيت بسبب تفكيره بالديون المتراكمة، وفي الليلة الثالثة تذكرت زوجته غربتها فجلس يواسيها، وفي الليلة الرابعة بات جائعاً، وفي الليلة الخامسة أحس بالقلق الشديد بسبب طرده من العمل، وفي الليلة السادسة لم تنم زوجته بسبب اعتقاله ودخوله السجن، وفي الليلة السابعة جاء اللصوص ولكن البيت كان قد اختفى. ونتساءل لماذا اختفى البيت؟.. وهنا جاءت لعبة الكاتب الذكية والموحية وفيها الكثير من الطرافة، والتي تفتح الأفق على عدة احتمالات، وتدعوا القارئ للتفكير وللتساؤل. فالقصة الجيدة هي التي لا تقدم أجوبة جاهزة، بل تفتح أمام القارئ مساحات واسعة للإيحاء، وتبتعد عن السقوط في المباشرة والتقريرية .
وفي المقطع الثاني قرر اللصوص سرقة المصرف المركزي، لكنهم واجهوا صعوبات كثيرة، ففي اليوم الأول تم تشديد الحراسة، وفي اليوم الثاني وضعت أنظمة حماية ومراقبة بالكمبيوتر، وفي اليوم الثالث قام مدير الرقابة بزيارة ميدانية وتفتيشية للمصرف، وفي اليوم الرابع زار وزير الأعلام المصرف وأدلى بتصريح مثير للصحفيين، وفي اليوم الخامس قام وفد من كبار المسؤولين بافتتاح المبنى الجديد لأموال الخزينة العامة، وفي اليوم السادس أصيبت أنظمة الحماية والمراقبة بفيروس غريب مما أدى إلى تعطلها، وفي اليوم السابع علم اللصوص بذلك فاستغلوا الفرصة واقتحموا المصرف، ولكن ما إن فتحوا الخزائن حتى علت الدهشة وجوههم فعادوا خائبين من حيث أتوا!!..
هنا أيضاً ينهي الكاتب قصته بفنية عالية، فتح اللصوص الخزائن علت الدهشة وجوههم فعادوا خائبين، لم يصرح بشيء لم ينهي قصته النهاية التقليدية، بل أوحى بأكثر من إجابة، فتح الأفق أمام القارئ ليكتشف ما يريد اكتشافه دون أن يقحم نفسه ويقرر عن القارئ ما يريد تقريره.
أما آخر قصة قمت بانتقائها من هذه المجموعة فهي قصة الحسون لكاتبها محمد خير عمر. أعترف أن هذا الكاتب شدني إليه أسلوبه المدهش، خاصة وانني قرأت مجموعته القصصية / يتحدثن عني/ منذ فترة قريبة، فهو يكتب بأسوب مبسط وجذاب، عباراته مختصرة ومنتقاة بعناية فائقة، سهلة وواضحة لا تعقيد فيها ولا غموض مفتعل، بل هي شفافة كالبلور، يقدم لك حكاياته بأسلوب سهل لكنه من السهل الممتنع.
يسرد قصته على لسان طائر الحسون وهو في قفصة، يتألم لذلك الطالب الذي يضايقه وجود الحسون معه في الغرفة الطينية. وجود الطائر في قفصه دلالة رمزية على العبودية والتوق إلى الحرية، وعندما قام الطالب بفتح القفص وأطلق سراح الطائر، حتى طار فرحاً وحلق فوق سهول البلدة مبتهجاً بالحرية التي حصل عليها، إلا أنه سرعان ما هبط متهالكاً على غصن إحدى أشجار الحور، ولهبوطه متهالكاً هنا دلالة على الضعف، فالحرية تحتاج إلى أقوياء يستطيعون مجابهة قوى الشر، فالحرية التي حصل عليها لفترة قصيرة لم يستطع الحفاظ عليها، إذ سرعان ما تم اصطياده بطريقة مبتكرة لصيادي الطيور. إنها رمزية شفافة وواضحة وضوح الشمس لا لبس فيها ولا غموض. فالكائنات الضعيفة لاحظّ لها في مملكة الحرية الخالدة، وهي وإن حصلت عليها لفترة قصيرة سرعان ما ستفقدها.
هنا نجد الكاتب في قصته هذه وفي غيرها من القصص شديد الالتصاق بالبيئة المحلية ويقدمها لنا بعفوية شاعرية ودون اسفاف.
إن هذا الاتجاه الجديد في القصة الذي تجاوز الواقع لأنه لا يحاول تسجيله، بل يحاول أن يبعث الحياة فيه من جديد، يرفض نمطية التفكير والأداء، ويسخر من السرد والحكاية، ويستعرض الخروج على المألوف ليحدث هزة عقلية في الفكر، وينسحب من الواقع إلى داخل النفس ليرصد كل خطواتها وأفكارها التي تجري بلا نظام، والتي تتبعثر دون أن تفقد الخيط الذي يربطها وهو الإنسان، وقد ارتبط الاتجاه الجديد في القصة بمعطيات التحليل النفسي، وبالمذهب الرمزي ارتباطاً وثيقاً، فأصبحت القصة الحديثة تعبر عن تداعيات الأفكار العابرة، وتصور عالم التخيل الباطني الزاخر بكل أنواع التجارب الحية، والأحاسيس الانفعالية، وأحلام اليقظة . ولاشك أن نظرية فرويد في الأحلام قد حطمت ذلك الحاجز الوهمي الذي يفصل بين اليقظة والحلم، ولهذا نجد القصة الحديثة تستخدم الصور والرموز في استحضار التجربة طبقاً لما يؤمن به كتاب القصة الحديثة. ومن هنا أصبحت لهم لغة خاصة، أو دلالات جديدة للغة، مع تركيب أسلوبي جديد يعبر عما في الذهن بصورة تجريدية.
و في ذلك يقول ادمون ولسون « يتباين كل شعور إحساس بعضه عن بعض , و كذلك تتباين كل لحظة من لحظات الوعي , تبعا لهذا فإن من المستحيل ان نستطيع التعبير عن أحاسيسينا كما نمر بها تماما إذا حاولنا أن نصفها باللغة التقليدية الشائعة العادية , و إن لكل كاتب شخصيته الفريدة , و إن كل لحظة من لحظاته تتميز بواقع خاص و تركيب عضوي مميز , من واجب الكاتب أن يوجد اللغة الخصة القادرة على التعبير عن شخصيته وأحاسيسه » .
ونحن في مقالنا هذا نحاول أن نقرأ هذه النصوص قراءة متأنية ومتبصرة، علنا نستكشف عما وراء السطور. نستنطقها، ونحاورها، نتعرف عليها ونتعرف على أنفسنا من خلالها.
ولنبدأ بالقصة الأولى (ترجمة حرفية) لكاتبها خورشيد أحمد، لشد ما أثارت إعجابي هذه القصة لأسلوبها البسيط والرشيق، ولطرافتها وجدتها، عندما تقرأها تشعر أنك أمام قاص متمكن من أدواته، تنساب القصة على يديه كالجدول الرقراق عبر مشاهد جميلة ومثيرة لتنتهي نهاية طريفة لا تملك إلا أن تبتسم ابتسامة الإعجاب.
شاب مهندس يستضيف في بيته ضيفة فرنسية، تعرف عليها عندما كان في باريس في مهمة لعمله، ونشأت بينهما علاقة غرامية عنيفة آنذاك. لكنه الآن وهو المتزوج من امرأة شرقية محافظة لا تستطيع تقبل امرأة غربية في بيتها، خاصة وأنها تتصرف على سجيتها تتنطنط وتقبل زوجها أمامها وتلبس بنطال جينز(مقصوص من وسطه كاشفاً عن الفخذ والركبة والساق في بهاء أبيض يشتهيه كل ابن آدم).
هاهو كاتبنا مثله مثل توفيق الحكيم في عصفور من الشرق، والطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال، وغيرهم ممن كتبوا عن علاقة الشرق بالغرب. يقف عاجزاً أمام ضيفته الفرنسية التي (تهبط عليه ملكة من نور ونار، لتجرده من كل الأوراق التي تستر عورته، فهو الشرقي المنسي والمرمي في هذه الزاوية المنسية من شرقنا القصي، والتي يتلجلج التاريخ والجغرافيا معاً في تحديدها).
هنا يستوقفنا الأمر، عن أي عورة يتحدث كاتبنا، وعن أي شرق منسي ومرمي في زاوية منسية يتحدث، حتى التاريخ والجغرافيا يتلجلجان في تحديدها. واللجلجة في اللغة هي ثقل اللسان والتردد في الكلام، ولماذا يتردد التاريخ والجغرافيا في تحديد الشرق الذي ينتمي إليه الكاتب.
حتى الأوابد التاريخية، تدمر، قلعة حلب، أفاميا، قلعة الحصن، والجامع الأموي… لا تطاولها رغبته المتأججة في أن يعرف صديقته الفرنسية بها . لماذا؟.. كلمة استفهامية نطرحها على الكاتب لماذا؟.. ليست له رغبة في أن يعرف صديقته بهذه الشواهق الحضارية وهي من بلده كما يقول، والسؤال برسم الإجابة، رغم أن النص يشي بأكثر من إجابة، والنص مفتوح على أكثر من احتمال.
وهو ينتمي إلى مدينة القامشلي، ولعل القامشلي هي الزاوية المنسية من شرقه القصي. علماً أن هذه المدينة حديثة التكوين، لا يعود بناءها إلى أكثر من ثمانين عاماً هذا أذا أستثنينا التصاقها بمدينة نصيبين التاريخية . فهي بلا تاريخ، وجغرافياً تقع في الأقصى الشمال الشرقي من سورية، ومن هنا قد يتلجلج التاريخ والجغرافية في تحديدها.
ويحتار كاتبنا أي المعالم يمكن له أن يعرف ضيفته بها. الحديقة العامة، شارع العشاق، محطة تل زيوان، حاووظ الماء الذي يقف خازوقاً إسمنتياً في الهلالية. كلها خيارات سخيفة وهو يبحث عن مخرج للمأزق الذي وضعته فيه زيارة صديقته المفاجئة .
إنه يبحث عن معالم في مدينته الصغيرة والمنسية تضاهي معالم مدينة باريس ولا يجد . إنها عقدة النقص التي يعانيها الشرقي اتجاه الغرب، فهو يشعر بالدونية اتجاه صديقته ويحاول أن يتلافى عقدته باللجوء إلى الكذب، عندما كان يترجم كلمات الأغاني السخيفة في مطعم غرين لاند الذي دعاها إليه ليتخلص من مأزقه، فهو يترجم جملة غناها مطرب رخيص. تقول الجملة (تحنجلي وتمرجلي يا أم الخدود السفرجلي) ويترجمها بطل القصة مستعيناً بيبيت من الشعر لجرير :
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وتطلق صديقته الفرنسية صيحة متخمة بالنشوة : أوه..! يا لخيال الشرق الساحر..!
وتتتالى الأغاني السخيفة ويتابع كذبه بترجماته عندما تستحضر ذاكرته لقصائد عظيمة لشعراء كبار . لكنهما في النهاية عندما يرجعان إلى البيت تخرج دفتراً من حقيبتها وتطلب منه أن يسجل كلمات الأغاني . يمسك بالدفتر ويكتب وحين يفرغ من الكتابة يذيلها بالعبارة التالية:
عزيزتي سوزان.. الكلمات الحلوة التي سمعتها في المطعم كانت ترجمتها رديئة بفعل السكر. أما هذه الترجمة فهي مع خالص حبي. ” ترجمة حرفية “.
هذه القصة على بساطتها، وحبكتها المقدمة بطريقة شفافة وجميلة، تثير الكثير من الأسئلة ومن هنا تأتي أهميتها . إذ أن الأدب الجيد هو الأدب الذي يثير الأسئلة أكثر من طرحه الأجوبة.
أما القصة الثانية للقاص بسام الطعان بعنوان / نهر الدم / فقد أدهشتني أيما دهشة، إذ تعتمد على حدث مأساوي لكاتب يتلقى رسالة تهديد. تقول الرسالة: (السيد عزيز ستسقط في دوائر الدم) وعندما يبلغ المخفر برسالة التهديد التي تلقاها، يتلقى الضابط شكواه باستخفاف، وأن الأمر لا يعدو مزحة من أحد قراءه. وبعد أن غادر المخفر كانت رسالة مماثلة من ناقد مشهور قد سلمت إلى المخفر، وبعدها رسالة أخرى من قاص وروائي فيهما عبارات مماثلة لرسالة السيد عزيز، وبعد خمسة أيام وجد أحد الرعاة جسداً دون رأس على حافة النهر وبعض أطرافه معلقة على عصا مغروزة في الأرض، وبعد أيام أخرى وجدت جثة أخرى وبالسيناريو نفسه. هنا تنتهي القصة.
إن الحدث هنا رغم قسوته ومأساويته لم يثر دهشتي، لكن نبض الكلمات والجمل التي تم انتقائها بعناية فائقة هي التي ادهشتني، قدرته على انتقاء الكلمات تضعك في جو من الرعب والخوف، فمنذ أول عبارة في القصة وحتى آخر عبارة يجعلنا نستشعر الخطر ونتابع بطل القصة وهواجسه. لقد أجاد الكاتب أن يضع القارئ بجو الرعب الذي عاشه بطله، هنا نجد تكثيف شديد لعبارات الخوف والموت الذي ينتظر البطل، كل نفس يتنفسه، وكل مشهد يستعرضه، وكل همسة يهمسها، كل خطوة يخطوها، كل حركة يسمعها أو يتحركها، تذكرنا بموضوع القصة، وتجعلنا نتعايش مع بطلها. فموضوع الخوف هو الجو العام الذي يسيطر على القصة، هذا هو مصير كل كاتب أو مبدع يقترب من المحرمات أو التابوات. هناك جماعات خفية تترصدك وتهددك بالقتل، قد تكون جماعات تكفيرية، رغم أنه لم يشر إليها صراحةً لكنه يوحي إليها، أو قد تكون جماعات أخرى، أو عصابات لها مصلحة في اسكات صوت المبدع، أي تكن هوية هذه الجماعات فهي قوى ظلامية تعمل في الخفاء، لإسكات كل كلمة إبداع تفعل فعلها ومنع كل إشراقة نور تغمر الكون.
أما القصة الثالثة للكاتب صبري رسول وعنوانها /غبار البراري/ قصة جميلة بكل المقاييس، تعتمد الجملة الرشيقة والمعبرة، كل ذلك بأسلوب شاعري مؤثر، مستفيدة من تقنيات القص الحديثة من تقطيع وتداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر، والاعتماد على الجملة الموجزة والمعبرة، والتي تدخل في صلب موضوع القصة، مبتعداً عن ترهلات اللغة وتهويماتها، والاستطرادات التعبيرية الغير ضرورية، موضوع القصة يعتمد على شخص يتحدث عن ذكرياته الجميلة، التي يحملها في أعماقه عن ابنته التي سافرت إلى أرض الأدخنة، ويشعر انه خُدع عندما وقع على وثيقة سفرها، ويشعر بالندم على ذلك، والخديعة تمت على يدي زوجته حيث يذكر (نسجت المرأة الأم خيوطها بذكاء يصل إلى مرتبة الخديعة الكبرى) مثل شهرزاد عندما سيطرت على شهريار، وأفقدته اللسان والسيف، وجعلته يوقع على وثيقة السفر. لكن ما أثار حيرتي هو البلد الذي سافرت إليه ابنته، والذي يسميه الكاتب أرض الحرائق والأدخنة، هو يشير إلى أرض العراق بلاد الرافدين، ويشير إلى الرصافة شرقي نهر دجلة، حيث وصف العراق بأرض مشتعلة بحرائق القادمين من وراء المحيط ، وهذا كله صحيح، أما أن يصف هذه البلاد بأعمدة من الأدخنة تصعد منذ الأزل، لتلحف الجبال العملاقة المصبوغة بثلج العمالقة، فهذا ما حيرني، أي أدخنة تصعد منذ الأزل؟.. وأي جبال عملاقة؟.. وأي ثلج عمالقة يقصد؟.. هل يشير إلى مكان آخر؟.. لا أعتقد لأنه يحدد المكان بالرصافة. والرصافة هي المكان الواقع شرقي نهر دجلة في مدينة بغداد .
أما قصة / في الطريق إلى الحنين / لملكون ملكون، فأن هذا القاص قد حملنا على جناح طائر، ومضى بنا نحو ذكريات الطفولة، كل ذلك عبر لغة شفيفة ورقيقة كرقة قلبه. حيث الأتومتريس، وسكة الحديد، والحدود التركية، إنها صور من ذاكرة الطفل، بل ذكريات كل الأطفال الذين عاصروا تلك المرحلة. وكل ما قام به ملكون هو أنه أزاح الغبار عن ذاكرتنا، التي أكلها الصدأ وعجنتها السنين، وأدخلنا بمشاعره الطفولية المدهشة إلى عالم الطفولة وسحبنا إليها برفق عبر قلمه الساحر، وليجعلنا نعيش تلك المرحلة بكل زخمها وألقها . أما الآن، وبعد عدة عقود من الزمن المدهش، يمتطي كاتبنا براءته من جديد بحثاً عن دهشته المفقودة، إنها رحلة يقوم بها مع ثلاثة من أصدقائه الحالمين إلى تركيا، وهي أرض سمع عنها في سهرات الطفولة الشتائية وهم يتحلقون حول المدفأة، إنها حكايات عن بلاد جميلة غادرها أهلها قسراً، وانتزعت منهم بيوتهم وذكرياتهم انتزاعاً. اشارة من الكاتب إلى مجازر الأرمن والسريان في بدايات القرن العشرين، عندما قامت الدولة العثمانية بتهجيرهم من أراضيهم، وارتكبت بحقهم مجازر يقشعر لها ضمير الإنسانية على ما تذكر الوثائق والدراسات. ويمضي كاتبنا هو ورفاقه إلى منطقة / حسن كيف / الأثرية، وهي منطقة تقع على نهر دجلة، وهي عبارة عن جبل حفرت في جنباته الكهوف والبيوت بطريقة مدهشة وساحرة. ويتساءل كاتبنا: من هي هذه الوجوه الغريبة الملامح ؟ . ما الذي شهدته هذه الصخور والجبال؟. من ابتلع هذا الماء وبأي أسرار يحتفظ ؟ .. في أي تجويف في هذا الجبل احتموا ذات شتاء؟.. أية لحظات قاسية عاشوها هنا في هذه الأزقة؟.. وعلى أطراف هذا النهر.
وعندما تغيب الشمس لا يملك كاتبنا ورفاقه إلا الحنين إلى هذه الأرض، التي كانت في يوم من الأيام مسكونة بناس غادروها قسراً.
رغم اعجابي الشديد بهذه القصة وبشاعريتها الطافحة بالمشاعر النبيلة، إلا أنها اعتمدت على التلوين اللغوي على حساب الحدث. فالحدث يبدو باهت الملامح رغم أهميته، وشخصياته غائمة يلفها الضباب، فالكاتب يفرط من استعمال تقنيات القص لتغطية حدث عادي، وهو رحلة الى مناطق في تركيا، ويلونها بمشاعر الحنين التي طغت على الحدث وغيبته. فالفن الحقيقي كما يذكر أوكونور هو المزاوجة بين أهمية المادة وطريقة المعالجة.
وننتقل إلى ما هين شيخاني في قصته / الرائحة / قصة بلا قلب بلا عواطف خالية من الشاعرية والأحاسيس. يقدم الكاتب وقائعه بحيادية تامة، لا أثر لجماليات اللغة وشطحات الخيال، ورغم ذلك فأنت أمام قصة من نوع مختلف يقدم لك واقعاً لا معقولاً يشبه أدب العبث، يلجأ إلى الرمز، يختلط فيه الحلم بالواقع ولا تدري متى يبدأ الواقع ومتى ينتهي الحلم فالعلاقة بينهما علاقة مماهاة وتداخل. تبدأ القصة بوجود البطل في غرفة العمليات، وفريق من الأطباء فوق جسده يجرون له عملية جراحية في القلب، ويكتشف الأطباء أمراً في غاية الغرابة أحدهم يقول : ((لدى إجراء العملية الجراحية للقلب، تبين لنا آثار صورة فتاة ضمن إطار ألماسي محطم ومتناثر حيث تأثر شغاف قلبه بجروح بالغة لم يلتأم بعد.
رد آخر : أي قلب يا دكتور؟.. قل بيضة مفرغة من محتواها، لم نر سوى أطلال قلب والتي تربعت على عرشه دودة متوحشة فسدت كل شيءٍ من خلال تحركها )). إنها صورة سوداء كافكاوية لا معقولة، لقلب مثل بيضة مفرغة من محتواها، تعيش فيه دودة متوحشة. إذ كيف لإنسان أن يعيش بقلب مفرغ من محتواه، إنه على مدلول الرمز يعني الكثير، إنه الخواء الذي أصاب نبض الحياة، وسرقت الدودة المتوحشة منه الفرح والأمل. ونتابع المدلول الرمزي الآخر وهو الرائحة. ففي تلك الليلة المأسوية التي قضاها بطل القصة وهو يجاهد كي يتخلص من أرقه، أحس برائحة غريبة قذرة وكأنها رائحة جيفة ميتة تفوح من الغرفة، فتح النافذة والباب على مصرعيهما، ذهب إلى المطبخ، شرب كأساً من الماء، تأكد من أسطوانة الغاز كانت مغلقة بإحكام. مضى إلى غرفة الضيوف لكن دون جدوى بقيت الرائحة النتنة تلاحقه بل تكاد تخنقه. في الحلم رأى زوجته تتحدث مع جارتها عن الرائحة. لفت انتباهه برامج قنوات التلفزيون السياسية والغنائية، كلها تتحدث عن الرائحة شاهد ندوة حوارية عن الرائحة، البعض عزاها على أنها من فعل أمريكا لترهب المجتمعات، والبعض رأى أنها من عمل الحكام كي ننسى همومنا، أما الثالث ذو اللحية البيضاء فقد عزاها إلى إرادة الخالق، وهي من علامات دنو الآخرة.
في الصباح استيقظ باكراً ليتأكد من زوال الرائحة لكن دون جدوى، بقيت الرائحة كما هي، أختلس النظر إلى الأولاد ليتأكد هل يشعرون مثله بشيء؟.. إلا أنهم كانوا طبيعيين وكأنهم بلا أنوف، لوحة سريالية كأنها إحدى لوحات سلفادور دالي، إلا أن كل القيم والشرف تأبى أن يكون الإنسان بلا أنف، وهو دليل الشمم والإباء.
هنا يؤكد الكاتب بمدلوليه الرمزيين، خواء القلب، والرائحة النتنة، على أن الحياة سادها الخواء واللا معنى، وقد خلت من المعاني السامية، وقد اتسمت بالبشاعة التي لا تطاق من خلال المدلول الرمزي الرائحة النتنة .
وفي قصة اللصوص لكاتبها د. أنطون أبرط يتجلى فيها أسلوب السخرية، من خلال عدة مفارقات يقدمها لنا الكاتب. وهو الأسلوب الذي اشتهر به الكاتب زكريا تامر. فكاتبنا يلج عالم زكريا تامر بجرأة، طابعاً بصمته الخاصة رغم تأثره الشديد به. يقدم لنا مجموعة لصوص يحاولون سرقة أحد البيوت لكنهم لم يفلحوا، ففي الليلة الأولى أصيب أبن صاحب البيت بالشلل لعدم توفر اللقاح، وفي الليلة الثانية لم ينم صاحب البيت بسبب تفكيره بالديون المتراكمة، وفي الليلة الثالثة تذكرت زوجته غربتها فجلس يواسيها، وفي الليلة الرابعة بات جائعاً، وفي الليلة الخامسة أحس بالقلق الشديد بسبب طرده من العمل، وفي الليلة السادسة لم تنم زوجته بسبب اعتقاله ودخوله السجن، وفي الليلة السابعة جاء اللصوص ولكن البيت كان قد اختفى. ونتساءل لماذا اختفى البيت؟.. وهنا جاءت لعبة الكاتب الذكية والموحية وفيها الكثير من الطرافة، والتي تفتح الأفق على عدة احتمالات، وتدعوا القارئ للتفكير وللتساؤل. فالقصة الجيدة هي التي لا تقدم أجوبة جاهزة، بل تفتح أمام القارئ مساحات واسعة للإيحاء، وتبتعد عن السقوط في المباشرة والتقريرية .
وفي المقطع الثاني قرر اللصوص سرقة المصرف المركزي، لكنهم واجهوا صعوبات كثيرة، ففي اليوم الأول تم تشديد الحراسة، وفي اليوم الثاني وضعت أنظمة حماية ومراقبة بالكمبيوتر، وفي اليوم الثالث قام مدير الرقابة بزيارة ميدانية وتفتيشية للمصرف، وفي اليوم الرابع زار وزير الأعلام المصرف وأدلى بتصريح مثير للصحفيين، وفي اليوم الخامس قام وفد من كبار المسؤولين بافتتاح المبنى الجديد لأموال الخزينة العامة، وفي اليوم السادس أصيبت أنظمة الحماية والمراقبة بفيروس غريب مما أدى إلى تعطلها، وفي اليوم السابع علم اللصوص بذلك فاستغلوا الفرصة واقتحموا المصرف، ولكن ما إن فتحوا الخزائن حتى علت الدهشة وجوههم فعادوا خائبين من حيث أتوا!!..
هنا أيضاً ينهي الكاتب قصته بفنية عالية، فتح اللصوص الخزائن علت الدهشة وجوههم فعادوا خائبين، لم يصرح بشيء لم ينهي قصته النهاية التقليدية، بل أوحى بأكثر من إجابة، فتح الأفق أمام القارئ ليكتشف ما يريد اكتشافه دون أن يقحم نفسه ويقرر عن القارئ ما يريد تقريره.
أما آخر قصة قمت بانتقائها من هذه المجموعة فهي قصة الحسون لكاتبها محمد خير عمر. أعترف أن هذا الكاتب شدني إليه أسلوبه المدهش، خاصة وانني قرأت مجموعته القصصية / يتحدثن عني/ منذ فترة قريبة، فهو يكتب بأسوب مبسط وجذاب، عباراته مختصرة ومنتقاة بعناية فائقة، سهلة وواضحة لا تعقيد فيها ولا غموض مفتعل، بل هي شفافة كالبلور، يقدم لك حكاياته بأسلوب سهل لكنه من السهل الممتنع.
يسرد قصته على لسان طائر الحسون وهو في قفصة، يتألم لذلك الطالب الذي يضايقه وجود الحسون معه في الغرفة الطينية. وجود الطائر في قفصه دلالة رمزية على العبودية والتوق إلى الحرية، وعندما قام الطالب بفتح القفص وأطلق سراح الطائر، حتى طار فرحاً وحلق فوق سهول البلدة مبتهجاً بالحرية التي حصل عليها، إلا أنه سرعان ما هبط متهالكاً على غصن إحدى أشجار الحور، ولهبوطه متهالكاً هنا دلالة على الضعف، فالحرية تحتاج إلى أقوياء يستطيعون مجابهة قوى الشر، فالحرية التي حصل عليها لفترة قصيرة لم يستطع الحفاظ عليها، إذ سرعان ما تم اصطياده بطريقة مبتكرة لصيادي الطيور. إنها رمزية شفافة وواضحة وضوح الشمس لا لبس فيها ولا غموض. فالكائنات الضعيفة لاحظّ لها في مملكة الحرية الخالدة، وهي وإن حصلت عليها لفترة قصيرة سرعان ما ستفقدها.
هنا نجد الكاتب في قصته هذه وفي غيرها من القصص شديد الالتصاق بالبيئة المحلية ويقدمها لنا بعفوية شاعرية ودون اسفاف.
وأخيراً لا يسعني إلا أن أعتذر من كتاب القصص الأخرى، التي لم أقم بدراستها لا لسبب إلا لأن الوقت لا يسمح بدراستها، وخوفاً من الإطالة والشعور بالملل، فقد اقتصرت دراستي على سبع قصص من قصص المجموعة، والبالغة ثلاث عشرة قصة، وهذا لا يعني أن القصص الأخرى غير جديرة بالدراسة، بل على العكس كانت قصصاً أصيلة وقوية وفيها الكثير مما يقال، وأعترف أن انتقائي للقصص كان مزاجياً وفيه الكثير من الذاتية. فهذه الدراسة غلبت عليها الانطباعية. كما لاحظتم ولم تتسم بالدراسة النقدية الأكاديمية .