إبراهيم اليوسف
إن من يتابع الأدب السوري، بشكل عام، والشعر السوري، منه، بشكل خاص، يجد أن المبدع الكردي، عاش في ظل سياسات النظام الشوفيني المفروضة عليه، في إطار طمس ملامح وهوية كل الإثنيات السورية، في إطاراللغة الواحدة، بل ومحاولة فرض طريقة التفكير الواحدة، والتصفيق للقائد الأوحد، من خلال ممارسة ماسمي ب”سياسة التعريب”، هذه السياسة التي بدأت تترجم، منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى دفة السلطة، عبر انقلاب 8 آذار 1963، وان كانت بوادر التأسيس لسياساته التمييزية قد بدأت قبل ذلك،
إن من يتابع الأدب السوري، بشكل عام، والشعر السوري، منه، بشكل خاص، يجد أن المبدع الكردي، عاش في ظل سياسات النظام الشوفيني المفروضة عليه، في إطار طمس ملامح وهوية كل الإثنيات السورية، في إطاراللغة الواحدة، بل ومحاولة فرض طريقة التفكير الواحدة، والتصفيق للقائد الأوحد، من خلال ممارسة ماسمي ب”سياسة التعريب”، هذه السياسة التي بدأت تترجم، منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى دفة السلطة، عبر انقلاب 8 آذار 1963، وان كانت بوادر التأسيس لسياساته التمييزية قد بدأت قبل ذلك،
وكان الكرد السوريون في مقدمة من تم استهداف لغتهم، وتاريخهم، وتراثهم، وفلكلورهم، بل ووجودهم، وأكثر من دفعوا الضريبة، وقد بدأت محاولات طمس هويتهم من خلال فرض التعليم باللغة الواحدة، بل وإصدار قوانين وتعليمات تقتضي بمنع التحدث في المدارس والدوائر الرسمية بغير اللغة العربية، وكان الهدف في المقام الأول: منع اللغة الكردية، لغة حوالي أربعة ملايين كردي، مما أدى لنسيانها من آلاف الأسر، في عدد من مدن سوريا، وأريافها.
قدر الكردي أن يتعلم منذ نعومة أظافره، بلغة غير لغته الأم، وينسى لغته في البيت، لساعات طويلة، بل وأن ينال العقاب من معلم المدرسة، ومديرها، إن أخطأ وتحدث ولو همساً إلى شقيقه بلغته الأم، أو لأنه لم يتعلم اللغة الجديدة، جعله يعيش لغتين: إحداهما لغة البيت المقموعة، والثانية لغة المدرسة، والمعلم، وكتب القراءة، والرياضيات، والعلوم، والتاريخ، وكان – غالباً – ما يحاول إجادة هذه اللغة، مع مرور السنوات، ليكون في عداد مقدمة من يستظهرون مفردات معاجمها، وقواعدها، وقصائدها، يحاور بها زميله، ويكتب بها وظيفته، ويؤدي بها امتحانه، حتى يكون من عداد الناجحين في نهاية العام الدراسي!
إن انتزاع الكردي، من عالم لغته، واللغة هنا حاضنة روحه، وتراثه، وحضارته، دفعه لكي يغترب عن روافد ودعامات مهمة في عالمه، ليتنفس برئة أخرى، بالإضافة إلى رئته، وهو ما جعله يعيش اغتراباً، وغربة، في آن معاً، هذا الإحساس، أدى بنصه إلى أن يتوتر، بتوتر روحه التي تعصف بها أعاصير الألم، وهو يحسُّ بنوستالجيا شديدة، لملامح خصوصيته، فلا يفتأ يعبر عنها، في فضاء نصه، كي تكون القصيدة عنده وعياً جمالياً بالحياة، وأداة لتأكيد حضوره، وهويته، مقابل كل ما يواجهه من تحديات، وهذا ما جعل علاقته بقصيدته استثنائية، بل غالباً ما كانت سفيرة موقعها هذا إبداعياً!
ثمة آلاف القصص والحكايات والروايات التي كان الكرد يتبادلونها في ما بينهم، حول مدى معاناتهم من عصا الرقيب في فرض اللغة الأخرى على أطفالهم، حيث لا خيار سوى هذه اللغة، إلى ذلك الحدّ الذي يمكن لمثل هذا الرقيب أن يسيء إلى لغته، بدلاً من احتفائه بها، لاسيما وأنها قد تحيله إلى لحظات الألم الشخصي، ويكاد لم ينج أي كردي، من استفزاز مثل ذلك الرقيب الذي ينفذ ما أملي عليه – في الغالب – منخرطاً في اللعبة المرسومة، وإذ بها أخطر من ذريعة المعلم، أو الشرطي، بل هي ترمي إلى أبعد من ذلك، إنها ترمي إلى محو أثر شريك في المكان، وبانٍ له، من حديقة الوطن التي تبدو – في ظل حضور الوعي والاعتراف بالآخر- لوحة فسيفسائية، لا أجمل، ولا أغنى منها البتة!
ومن القصص التي تحضر ببالي – هنا – ونحن في صدد إعداد أول ملف للشعر الكردي للعدد الأول من مجلة “اوراق”، هو أن أحد العاملين في أسرة تحرير إحدى المجلات الناطقة بالكردية، ضبطت معه في مطلع تسعينيات القرن الماضي نسخ من العدد الجديد لمجلته التي تصدر سراً، وبإمكانات طباعية متردية، وما كان من أجهزة الأمن التي اعتقلته – في حلب – الا أن تعاملت معه، وكأنه هو من زرع صحراء بعض مناطقنا بالسموم الكيميائية، لقاء أجر بخس، إذ تم توقيفه في زنزانات ومنفردات هذه الجهات، بعد أن تعرض للتعذيب الوحشي، وكان من جملة ما تعرض له، ممارسة التعذيب عبر المكبس الكهربائي، بحقه، بعيداً عن القضاء، وبعيداً عن إمكان السؤال من قبل أهله عنه، ليرمى في الشارع، بعد كسر عموده الفقري وشلله.
كان ضبط ألفباء كردية، أو معجم لغوي كردي، أو جريدة أو مجلة كرديتين، أو حتى مجرد قصيدة غزلية، يعد في عرف مثل ذلك الرقيب جريمة كبرى، حيث يتعرض حاملها للاعتقال، والتعذيب، إلى مدة طويلة يحددها مزاج الأجهزة الأمنية، في ما إذا كان مضمون هذه الأوعية النشرية، بعيداً عن السياسة، وليس فيها اسم: كردستان- أو الوطن- أو أية إشارة من عداد الممنوعات لدى نظام، كل ما يتعلق بحرية الرأي فيه ممنوع.
ولعل من فضائل الثورة السورية المباركة التي كسرت آلة الخوف، وشوكة النظام، أنها في الوقت نفسه عرّفت السوري على شريكه المكاني، أكثر، بعد أن أفلح النظام، وعلى امتداد عقود متتالية في زرع الريبة والتوجس في نفوس المكونات – جميعها – كي تعزز القطيعة بين طرفي ثنائية: أنا، نحن/ الآخر، الآخرين، وذلك في سياق تشويه صورة الشريك الكردي التي كرسها، في دوائر وأوساط غير قليلة البتة، ولا تزال آثار ذلك في وعي بعضهم حتى الآن، ولما يتخلص منها بعد. (وأفرحني كثيراً أنه أثناء استعداداتنا في هيئة التحرير لإعداد العدد “1” من مجلة “أوراق”، انني تقدمت –وبعفوية – باقتراح نشر ملف للشعر الكردي المكتوب بالعربية، فلم تتوان أسرة التحرير عن الموافقة الفورية، لأقترح أن نعمل أنا والزميل حليم يوسف في إعداد هذا الملف، وهو ما تم بسلاسة، وشفافية، ولكم كانت فرحتي كبيرة، وأنا أجد زملائي وهم: فرج بيرقدار- حسام الدين محمد – خطيب بدلة وغيرهم يستحثوننا للاستعجال في تقديم الملف).
أجل، على هذا النحو، تنشأ ازدواجية اللغة عند الكردي، حيث اللغة الرسمية، ولغة المعرفة والعلم، ولغة الثقافة، ولغة المدرسة، والجامعة، والوظيفة، هي غير تلك التي ترسخت في روحه، مع حليب طفولته الأول، وانفتحت عليها أذناه، وهو يسمع حكايات جدته، أو يمارس الألعاب مع أقرانه في الحي، أو القرية، ما يجعله يتعلم اللغة بحساسية عالية، حيث يسبر أعماقها، ودلالاتها، فتتعايش اللغتان معاً، وتترافدان، وهما تغذيان المعجم الفردي والخيال الخاصين، كي يكون موضوعه التعبيري الأول الذي يكتبه مائزاً، ذا ألق غير عادي، وتكون رسالته الأولى – في ما إذا امتلك موهبة الكتابة – ذات نكهة فريدة، ولتكون هذه اللغة – العمودالفقري – في النص الإبداعي الذي سيكتبه، لها بهجتها ووهجها ودهشتها، كي تتطور تدريجياً، في ما لو امتلك جذوة الحماس، في ترجمة حساسية علاقته بالعالم.
لم يجد الشاعر الكردي، وهو يعيش الحالة الاغترابية عن لغته الأم مناصاً من أن يكتب قصيدته باللغة التي تعلم بها، ويشكل معجمها جزءا كبيرا من رصيده اللغوي الحياتي، إلى تلك الدرجة التي بات غير قادر على الكتابة الا بها الا اذا اجتهد بشكل خاص في ممارسة الكتابة بلغته الأم، بحيث نجد، على امتداد الأجيال الشعرية في سوريا، من يكتب باللغة العربية، حيث أن هناك من غدت هذه اللغة لغته الوحيدة، لاسيما في ما إذا كان منتمياً لبعض المدن الاخرى، بعيداً عن المناطق الكردية، والمناطق ذات الأكثرية الكردية، وتجلى ذلك – أكثر – في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث كان سليم بركات أحد أبرز الأصوات الشعرية السورية، التي كتبت باللغة العربية، وليس بلغته الأم التي لم يكتب بها، بعكس حامد بدرخان الذي كتب بالعربية – وظهرت نتاجاته في ثمانينيات القرن الماضي وهو ينتمي إبداعياً لجيل سابق – إلى جانب لغته الأم الكردية التي كتب بها، في السنوات الأخيرة من حياته، وقد كانت له كتاباته بأكثر من لغة أخرى.
إذا كان هذا الاسمان، استطاعا أن يحفرا عميقاً، في الإبداع السوري، وكان قارىء قصيدتيهما يعرف أنه أمام قصيدة مختلفة، لها رموزها، وأسماء أماكنها، وروحها – وإن كان لكل من هاتين التجربتين خصوصيتيهما والرؤى الخاصة بصاحب كل منهما – وهو ما دعا الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد، لأن يشير إلى هذه الخصوصية التي مضى بها، أبعد، شعراء جيل الثمانينيات الذين سجلوا فتوحات جديدة، خارجين من معاطف هذين العلمين، وإن استفادوا من حضورهما الطافح، كعلامتين إبداعيتين بارزتين، وكانت عودة الشعراء الكرد إلى ابراز الرموز الكردية بمثابة نوع من المواجهة، وهذا ما استفز الرقباء، حيث مورس التعتيم على تجارب مبدعين كثيرين، وتم رفض طباعة العديد من المخطوطات، بل إن هناك من أبعد عن مجال عمله، وصودرت نسخ كتبه من المكتبات، رغم كتابته لقصيدة حداثية، في مجموعة تمت الموافقة على نشرها.
وفي ما إذا كانت رموز الشاعر الكردي الذي يكتب بالعربية قد استفزت الرقيب، فإن لجوء بعض الشعراء – الجدد – آنذاك، إلى كتابة قصيدة تستوفي شرطها الحداثي، بعيداً عن المباشرة، زاد من توجسه وريبته، فصار يتعامل مع هذه القصيدة وكأنها أدوات تقويض سلطة سيده، وكانت القصيدة تنشر على نطاق واسع، يتلقفها القراء، سواء أتضمنتها احدى وسائل النشر، أو في ما إذا كانت مجرد مخطوط، وكأن في تلك الشفرات، التي تتضمنها، رسائل، لا يتلكأ المتلقي عن فكها، ويحس من خلال تفاعله معها أن صوت الجمال، يقف في خندق المواجهة مع آلة الاستبداد، إلى جانب قصيدة جكرخوين، تيريز، بي بهار، ملا نوري هساري، ملا أحمد بالو، كلش، محمد علي حسو، خليل محمد علي.. إلخ، التي كانت تكتب باللغة الأم، ويستظهرها الناس، بل تغنى، في تلك الفترة التي كانت الأغنية – لاسيما أغنيتا محمد شيخو وشفان.. وغيرهما..- من أبرز أدوات المواجهة الفعلية التي استعصت على الرقيب، عبر تناقل الكاسيت، مسهمة في بلورة الحس القومي، والإنساني، وإدانة المستبد.
تميزت قصيدة الشاعر الكردي الذي يكتب باللغة العربية، أنها استفادت من مزاوجة ثقافتين في ثقافة واحدة، حيث راحت تنطلق من لحظة عناق إبداعات أبي تمام، والمعري، والمتنبي وابن عربي وابن الفارض – على سبيل المثال – مع قصائد الخاني، والجزيري، وغيرهما من أعلام الشعراء الكرد، ماجعل إقدامه على الاشتقاق والتوليد اللغويين، ورسم الصورة المختلفة، بكل ما تحملها من شراسة وحنو، من تمازج الواقع والفنتازيا، الالم والحلم، وغير ذلك من الثنائيات، والمتناقضات، والمتضادات، التي تتواءم ضمن فضاء نصه، من سمات قصيدته.
يكاد نص الشاعرالكردي الذي يكتب قصيدته بلغة غير لغته الأم، يكون رهناً للانفتاح على كم هائل من الحزن، حيث تظهر في صورته أرومة الحرائق، والمجازر، ورحلة التيه، والضياع، مقابل الإصرار على الحياة، وإيجاد موطىء قدم، في مواجهة حالات محو الهوية التي يتعرض لها، وهو ما يتجسد في أشكال عديدة، سواء أكانت أسطرة أبطاله، بأسمائهم الكردية، أو بث روح التاريخ في جغرافياه التي تتعرض للانصهار، والابتلاع، والغياب، كمحاولة منه لاسترداد الماضي، فنياً، وجمالياً، كي تكاد قصيدة الحب أن تغيب – نهائياً – لولا إشارات سريعة، في نصوص بعضهم، راهناً روحه، وخطابه، لمهمة أسمى، حيث يتم التركيز على أداء نصه لوظيفته، في أكثر من مستوى، جمالي، ومعرفي، إلى الدرجة التي يمكن التأكيد فيه أنه ليس من إبداع ترفي لدى هذا الشاعر، حتى وإن نادى ب”لا وظيفية الفن”، وكسر ربقة الأيديولوجيا، بيد أنه كان يظل – على الدوام – محافظاً على تكنيك قصيدته، ما جعلها موضع اهتمام أقرانه من المبدعين، بل والنقاد السوريين.
وإذا كانت رموز هذا الشاعر، وأساطيره، وأمكنته، وتواريخه، حاضرة في قصيدته، فإن لم ينس البتة الكتابة عن بردى، وقاسيون، وحيوات الناس البسطاء، من حوله، متلمساً حلمهم، ومعاناتهم، من دون أي فكاك عنها، وهي إحدى ثيمات قصيدته، التي نظر بعضهم إلى إشاراتها، هاتيك، بشزر وردة فعل، وليس من قبيل أنها إغناء للإبداع السوري، لاسيما وأنه يكتب بلغته، لأنه كان أمام محاكمة تجرى له، على أحاسيسه، ومشاعره، وحقه في الأنين والعويل، أمام ما تعرض له إنسانه، من عذابات تاريخية، تطفح بها ذاكرته الجريحة.
إن عدم تمكن هذا الشاعر، الكتابة بلغته الأم، بما يحقق لديه المعادلة الفنية التي تعتمد -قبل كل شيء – على معجم لغوي شخصي، لم يتمكن – في الغالب – من الإحاطة بكنوزه، وتفجير مكامنها، وطاقاتها الهائلة، فإنه جعله يوظف مفردات كردية، هنا أو هناك، ما يضاف إلى خصيصة تناوله لمجمل الأدوات الأخرى، على طريقته، كي يجعلها مختلفة، أقرب إلى روحه، ورؤاه.
وإذا كان الشاعر الكردي الذي يكتب بالعربية، قد دفع ضريبته – غالية – أثناء انخراطه في المشهد الثقافي، الإبداعي، السوري، والعربي، العام، فإنه ظل – في أعماقه – رغم ممارسته دوره الإبداعي، على نحو رفيع، مائز، إلا أنه لم يتمكن من التخلص من السؤال الكردي، في بعده المشروع: ثمة لغة مهددة بالمحو، وعليك إغناؤها، بإبداعك، ما كان يدفعه لتضخم الإحساس بهذه العقدة، وهو أمر على جانب كبير من الحساسية، والخطورة، في ما إذا علمنا مدى اعتباره مارقاً، من قبل بعض ضيقي الأفق، من الإنتلجنسيا السورية الذين راحوا يحاربونه، وتحضرني هنا، حادثة، جرت معي، وهي أني ذكرت اسم الشاعر الكردي الكبير جكرخوين، حيث أهديته قصيدة، قائلاً ما معناه: أنت أيضاً لك معطف يخرج منه الشعراء، ما دعا رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب، في إحدى المحافظات السورية، لكتابة تقرير إلى الاتحاد، قال فيه ان جكرخوين، شاعر، قومي كردي.. إلخ، وهوما رواه لي حكم البابا آنذاك، أما عن القيمين عن الثقافة، وعدائهم لنا، نحن الذين كنا نكتب بلغتهم الأم، في مناطقنا، فحدث ولا حرج، حيث تصرف بعضهم في هذا المجال، بكل ما لديه من حقد وشوفينية، ولؤم، وخبث، هي بعض مفرزات ثقافة الكراهية التي تربى في كنفها، وإن كان هذا الأنموذج – وللحقيقة –هو القليل.
وفي ما لو دققنا، في تأثير شاعر واحد، كتب باللغة العربية – وهو سليم بركات- الذي تفاعل في بدايات تجربته مع أسماء الستينيات، والسبعينيات التي سبقته، أو واكبته، ليرسم مساره، المختلف، فإننا نجد أن أدونيس نفسه، استفاد في ما بعد من بعض فتوحاته، وإن كان الأمر يبدو أوضح في تجربة محمود درويش – وهو السابق عليه – حيث تبدو آثار بصمات بركات واضحة، وفي هذا ما يدل على أن الشاعر الكردي الذي يكتب بالعربية، لم يترك تأثيره، على القصيدة السورية – ومن خلال أعلى وأرفع أنموذج حداثي سوري/عربي – بل وإن بل أثر في أعلى وأرفع أنموذج حداثي عربي، استثنائي، وفريد، هو محمود درويش، وهو تأثير في الشعريتين العربية، والعالمية، في آن..!
وبدهي، أن أية دراسة للشعر الجديد في سوريا، لا يمكن أن تكون دقيقة، فيما إذا تم تجاهل الأصوات الكردية التي ساهمت في رسم ملامحها، فهي أكثر من أن تحصى في وقفة سريعة – كهذا الأمر الذي يستحق تناوله في دراسات خاصة، منفردة، وذلك لأن الشعر الكردي المكتوب بالعربية لم يتم تناوله إلا من قبل قلة من الدارسين، وظلت هذه الدراسات تنوس بين: الإطراء، والعسف، بعيداً عن إحكام الأدوات النقدية، وسطوة العلاقات الشخصية، والشللية، واستجداء النقد، أو اكتراؤه، وكل هذ ما يحدث في المشهد الثقافي، في ظل ثقافة التزوير.
يضم هذا الملف كوكبة من شاعرات وشعراء كرد، كتبوا بلغة أخرى، غير لغتهم، وهم ينتمون إلى أجيال متعددة، حيث ان فيهم من كتب منذ سبعينيات القرن الماضي، ولا يزال، كما أن فيهم من كتب في العقد الاول، أو حتى الثاني من الالفية الجديدة، وهو -في الحقيقة – لا يمثل إلا جزءاً طفيفاً من المشهد الشعري الكردي المكتوب بالعربية، بيد أننا سعينا الى جلب نماذج عدد لا بأس به، من أوائل شعراء الثمانينيات، على نحو خاص، لأنهم – في نظري – استطاعوا أن ينشروا قصيدتهم على نطاق واسع – كي تعرف بهم، فلم يتوانوا عن إعلان كرديتهم، وتقديم أنفسهم سفراء أهلهم وقصيدتهم، وهوما يسجل لهم، وكان ذلك تحدياً كبيراً، لاسيما وأن هؤلاء جميعاً، لم يجدوا تلك المؤسسة الثقافية التي تحتضنهم، بل أن أصواتهم كانت – غالباً – ما تصل إلى المتلقين، أسرع من خطاب السياسي الكردي الذي ظل، نظراً لطبيعة ظروف المرحلة، أسير بيئته وجماهيره، بعيداً عن التفاعل في الفضاء المكاني الأوسع.
قدر الكردي أن يتعلم منذ نعومة أظافره، بلغة غير لغته الأم، وينسى لغته في البيت، لساعات طويلة، بل وأن ينال العقاب من معلم المدرسة، ومديرها، إن أخطأ وتحدث ولو همساً إلى شقيقه بلغته الأم، أو لأنه لم يتعلم اللغة الجديدة، جعله يعيش لغتين: إحداهما لغة البيت المقموعة، والثانية لغة المدرسة، والمعلم، وكتب القراءة، والرياضيات، والعلوم، والتاريخ، وكان – غالباً – ما يحاول إجادة هذه اللغة، مع مرور السنوات، ليكون في عداد مقدمة من يستظهرون مفردات معاجمها، وقواعدها، وقصائدها، يحاور بها زميله، ويكتب بها وظيفته، ويؤدي بها امتحانه، حتى يكون من عداد الناجحين في نهاية العام الدراسي!
إن انتزاع الكردي، من عالم لغته، واللغة هنا حاضنة روحه، وتراثه، وحضارته، دفعه لكي يغترب عن روافد ودعامات مهمة في عالمه، ليتنفس برئة أخرى، بالإضافة إلى رئته، وهو ما جعله يعيش اغتراباً، وغربة، في آن معاً، هذا الإحساس، أدى بنصه إلى أن يتوتر، بتوتر روحه التي تعصف بها أعاصير الألم، وهو يحسُّ بنوستالجيا شديدة، لملامح خصوصيته، فلا يفتأ يعبر عنها، في فضاء نصه، كي تكون القصيدة عنده وعياً جمالياً بالحياة، وأداة لتأكيد حضوره، وهويته، مقابل كل ما يواجهه من تحديات، وهذا ما جعل علاقته بقصيدته استثنائية، بل غالباً ما كانت سفيرة موقعها هذا إبداعياً!
ثمة آلاف القصص والحكايات والروايات التي كان الكرد يتبادلونها في ما بينهم، حول مدى معاناتهم من عصا الرقيب في فرض اللغة الأخرى على أطفالهم، حيث لا خيار سوى هذه اللغة، إلى ذلك الحدّ الذي يمكن لمثل هذا الرقيب أن يسيء إلى لغته، بدلاً من احتفائه بها، لاسيما وأنها قد تحيله إلى لحظات الألم الشخصي، ويكاد لم ينج أي كردي، من استفزاز مثل ذلك الرقيب الذي ينفذ ما أملي عليه – في الغالب – منخرطاً في اللعبة المرسومة، وإذ بها أخطر من ذريعة المعلم، أو الشرطي، بل هي ترمي إلى أبعد من ذلك، إنها ترمي إلى محو أثر شريك في المكان، وبانٍ له، من حديقة الوطن التي تبدو – في ظل حضور الوعي والاعتراف بالآخر- لوحة فسيفسائية، لا أجمل، ولا أغنى منها البتة!
ومن القصص التي تحضر ببالي – هنا – ونحن في صدد إعداد أول ملف للشعر الكردي للعدد الأول من مجلة “اوراق”، هو أن أحد العاملين في أسرة تحرير إحدى المجلات الناطقة بالكردية، ضبطت معه في مطلع تسعينيات القرن الماضي نسخ من العدد الجديد لمجلته التي تصدر سراً، وبإمكانات طباعية متردية، وما كان من أجهزة الأمن التي اعتقلته – في حلب – الا أن تعاملت معه، وكأنه هو من زرع صحراء بعض مناطقنا بالسموم الكيميائية، لقاء أجر بخس، إذ تم توقيفه في زنزانات ومنفردات هذه الجهات، بعد أن تعرض للتعذيب الوحشي، وكان من جملة ما تعرض له، ممارسة التعذيب عبر المكبس الكهربائي، بحقه، بعيداً عن القضاء، وبعيداً عن إمكان السؤال من قبل أهله عنه، ليرمى في الشارع، بعد كسر عموده الفقري وشلله.
كان ضبط ألفباء كردية، أو معجم لغوي كردي، أو جريدة أو مجلة كرديتين، أو حتى مجرد قصيدة غزلية، يعد في عرف مثل ذلك الرقيب جريمة كبرى، حيث يتعرض حاملها للاعتقال، والتعذيب، إلى مدة طويلة يحددها مزاج الأجهزة الأمنية، في ما إذا كان مضمون هذه الأوعية النشرية، بعيداً عن السياسة، وليس فيها اسم: كردستان- أو الوطن- أو أية إشارة من عداد الممنوعات لدى نظام، كل ما يتعلق بحرية الرأي فيه ممنوع.
ولعل من فضائل الثورة السورية المباركة التي كسرت آلة الخوف، وشوكة النظام، أنها في الوقت نفسه عرّفت السوري على شريكه المكاني، أكثر، بعد أن أفلح النظام، وعلى امتداد عقود متتالية في زرع الريبة والتوجس في نفوس المكونات – جميعها – كي تعزز القطيعة بين طرفي ثنائية: أنا، نحن/ الآخر، الآخرين، وذلك في سياق تشويه صورة الشريك الكردي التي كرسها، في دوائر وأوساط غير قليلة البتة، ولا تزال آثار ذلك في وعي بعضهم حتى الآن، ولما يتخلص منها بعد. (وأفرحني كثيراً أنه أثناء استعداداتنا في هيئة التحرير لإعداد العدد “1” من مجلة “أوراق”، انني تقدمت –وبعفوية – باقتراح نشر ملف للشعر الكردي المكتوب بالعربية، فلم تتوان أسرة التحرير عن الموافقة الفورية، لأقترح أن نعمل أنا والزميل حليم يوسف في إعداد هذا الملف، وهو ما تم بسلاسة، وشفافية، ولكم كانت فرحتي كبيرة، وأنا أجد زملائي وهم: فرج بيرقدار- حسام الدين محمد – خطيب بدلة وغيرهم يستحثوننا للاستعجال في تقديم الملف).
أجل، على هذا النحو، تنشأ ازدواجية اللغة عند الكردي، حيث اللغة الرسمية، ولغة المعرفة والعلم، ولغة الثقافة، ولغة المدرسة، والجامعة، والوظيفة، هي غير تلك التي ترسخت في روحه، مع حليب طفولته الأول، وانفتحت عليها أذناه، وهو يسمع حكايات جدته، أو يمارس الألعاب مع أقرانه في الحي، أو القرية، ما يجعله يتعلم اللغة بحساسية عالية، حيث يسبر أعماقها، ودلالاتها، فتتعايش اللغتان معاً، وتترافدان، وهما تغذيان المعجم الفردي والخيال الخاصين، كي يكون موضوعه التعبيري الأول الذي يكتبه مائزاً، ذا ألق غير عادي، وتكون رسالته الأولى – في ما إذا امتلك موهبة الكتابة – ذات نكهة فريدة، ولتكون هذه اللغة – العمودالفقري – في النص الإبداعي الذي سيكتبه، لها بهجتها ووهجها ودهشتها، كي تتطور تدريجياً، في ما لو امتلك جذوة الحماس، في ترجمة حساسية علاقته بالعالم.
لم يجد الشاعر الكردي، وهو يعيش الحالة الاغترابية عن لغته الأم مناصاً من أن يكتب قصيدته باللغة التي تعلم بها، ويشكل معجمها جزءا كبيرا من رصيده اللغوي الحياتي، إلى تلك الدرجة التي بات غير قادر على الكتابة الا بها الا اذا اجتهد بشكل خاص في ممارسة الكتابة بلغته الأم، بحيث نجد، على امتداد الأجيال الشعرية في سوريا، من يكتب باللغة العربية، حيث أن هناك من غدت هذه اللغة لغته الوحيدة، لاسيما في ما إذا كان منتمياً لبعض المدن الاخرى، بعيداً عن المناطق الكردية، والمناطق ذات الأكثرية الكردية، وتجلى ذلك – أكثر – في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث كان سليم بركات أحد أبرز الأصوات الشعرية السورية، التي كتبت باللغة العربية، وليس بلغته الأم التي لم يكتب بها، بعكس حامد بدرخان الذي كتب بالعربية – وظهرت نتاجاته في ثمانينيات القرن الماضي وهو ينتمي إبداعياً لجيل سابق – إلى جانب لغته الأم الكردية التي كتب بها، في السنوات الأخيرة من حياته، وقد كانت له كتاباته بأكثر من لغة أخرى.
إذا كان هذا الاسمان، استطاعا أن يحفرا عميقاً، في الإبداع السوري، وكان قارىء قصيدتيهما يعرف أنه أمام قصيدة مختلفة، لها رموزها، وأسماء أماكنها، وروحها – وإن كان لكل من هاتين التجربتين خصوصيتيهما والرؤى الخاصة بصاحب كل منهما – وهو ما دعا الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد، لأن يشير إلى هذه الخصوصية التي مضى بها، أبعد، شعراء جيل الثمانينيات الذين سجلوا فتوحات جديدة، خارجين من معاطف هذين العلمين، وإن استفادوا من حضورهما الطافح، كعلامتين إبداعيتين بارزتين، وكانت عودة الشعراء الكرد إلى ابراز الرموز الكردية بمثابة نوع من المواجهة، وهذا ما استفز الرقباء، حيث مورس التعتيم على تجارب مبدعين كثيرين، وتم رفض طباعة العديد من المخطوطات، بل إن هناك من أبعد عن مجال عمله، وصودرت نسخ كتبه من المكتبات، رغم كتابته لقصيدة حداثية، في مجموعة تمت الموافقة على نشرها.
وفي ما إذا كانت رموز الشاعر الكردي الذي يكتب بالعربية قد استفزت الرقيب، فإن لجوء بعض الشعراء – الجدد – آنذاك، إلى كتابة قصيدة تستوفي شرطها الحداثي، بعيداً عن المباشرة، زاد من توجسه وريبته، فصار يتعامل مع هذه القصيدة وكأنها أدوات تقويض سلطة سيده، وكانت القصيدة تنشر على نطاق واسع، يتلقفها القراء، سواء أتضمنتها احدى وسائل النشر، أو في ما إذا كانت مجرد مخطوط، وكأن في تلك الشفرات، التي تتضمنها، رسائل، لا يتلكأ المتلقي عن فكها، ويحس من خلال تفاعله معها أن صوت الجمال، يقف في خندق المواجهة مع آلة الاستبداد، إلى جانب قصيدة جكرخوين، تيريز، بي بهار، ملا نوري هساري، ملا أحمد بالو، كلش، محمد علي حسو، خليل محمد علي.. إلخ، التي كانت تكتب باللغة الأم، ويستظهرها الناس، بل تغنى، في تلك الفترة التي كانت الأغنية – لاسيما أغنيتا محمد شيخو وشفان.. وغيرهما..- من أبرز أدوات المواجهة الفعلية التي استعصت على الرقيب، عبر تناقل الكاسيت، مسهمة في بلورة الحس القومي، والإنساني، وإدانة المستبد.
تميزت قصيدة الشاعر الكردي الذي يكتب باللغة العربية، أنها استفادت من مزاوجة ثقافتين في ثقافة واحدة، حيث راحت تنطلق من لحظة عناق إبداعات أبي تمام، والمعري، والمتنبي وابن عربي وابن الفارض – على سبيل المثال – مع قصائد الخاني، والجزيري، وغيرهما من أعلام الشعراء الكرد، ماجعل إقدامه على الاشتقاق والتوليد اللغويين، ورسم الصورة المختلفة، بكل ما تحملها من شراسة وحنو، من تمازج الواقع والفنتازيا، الالم والحلم، وغير ذلك من الثنائيات، والمتناقضات، والمتضادات، التي تتواءم ضمن فضاء نصه، من سمات قصيدته.
يكاد نص الشاعرالكردي الذي يكتب قصيدته بلغة غير لغته الأم، يكون رهناً للانفتاح على كم هائل من الحزن، حيث تظهر في صورته أرومة الحرائق، والمجازر، ورحلة التيه، والضياع، مقابل الإصرار على الحياة، وإيجاد موطىء قدم، في مواجهة حالات محو الهوية التي يتعرض لها، وهو ما يتجسد في أشكال عديدة، سواء أكانت أسطرة أبطاله، بأسمائهم الكردية، أو بث روح التاريخ في جغرافياه التي تتعرض للانصهار، والابتلاع، والغياب، كمحاولة منه لاسترداد الماضي، فنياً، وجمالياً، كي تكاد قصيدة الحب أن تغيب – نهائياً – لولا إشارات سريعة، في نصوص بعضهم، راهناً روحه، وخطابه، لمهمة أسمى، حيث يتم التركيز على أداء نصه لوظيفته، في أكثر من مستوى، جمالي، ومعرفي، إلى الدرجة التي يمكن التأكيد فيه أنه ليس من إبداع ترفي لدى هذا الشاعر، حتى وإن نادى ب”لا وظيفية الفن”، وكسر ربقة الأيديولوجيا، بيد أنه كان يظل – على الدوام – محافظاً على تكنيك قصيدته، ما جعلها موضع اهتمام أقرانه من المبدعين، بل والنقاد السوريين.
وإذا كانت رموز هذا الشاعر، وأساطيره، وأمكنته، وتواريخه، حاضرة في قصيدته، فإن لم ينس البتة الكتابة عن بردى، وقاسيون، وحيوات الناس البسطاء، من حوله، متلمساً حلمهم، ومعاناتهم، من دون أي فكاك عنها، وهي إحدى ثيمات قصيدته، التي نظر بعضهم إلى إشاراتها، هاتيك، بشزر وردة فعل، وليس من قبيل أنها إغناء للإبداع السوري، لاسيما وأنه يكتب بلغته، لأنه كان أمام محاكمة تجرى له، على أحاسيسه، ومشاعره، وحقه في الأنين والعويل، أمام ما تعرض له إنسانه، من عذابات تاريخية، تطفح بها ذاكرته الجريحة.
إن عدم تمكن هذا الشاعر، الكتابة بلغته الأم، بما يحقق لديه المعادلة الفنية التي تعتمد -قبل كل شيء – على معجم لغوي شخصي، لم يتمكن – في الغالب – من الإحاطة بكنوزه، وتفجير مكامنها، وطاقاتها الهائلة، فإنه جعله يوظف مفردات كردية، هنا أو هناك، ما يضاف إلى خصيصة تناوله لمجمل الأدوات الأخرى، على طريقته، كي يجعلها مختلفة، أقرب إلى روحه، ورؤاه.
وإذا كان الشاعر الكردي الذي يكتب بالعربية، قد دفع ضريبته – غالية – أثناء انخراطه في المشهد الثقافي، الإبداعي، السوري، والعربي، العام، فإنه ظل – في أعماقه – رغم ممارسته دوره الإبداعي، على نحو رفيع، مائز، إلا أنه لم يتمكن من التخلص من السؤال الكردي، في بعده المشروع: ثمة لغة مهددة بالمحو، وعليك إغناؤها، بإبداعك، ما كان يدفعه لتضخم الإحساس بهذه العقدة، وهو أمر على جانب كبير من الحساسية، والخطورة، في ما إذا علمنا مدى اعتباره مارقاً، من قبل بعض ضيقي الأفق، من الإنتلجنسيا السورية الذين راحوا يحاربونه، وتحضرني هنا، حادثة، جرت معي، وهي أني ذكرت اسم الشاعر الكردي الكبير جكرخوين، حيث أهديته قصيدة، قائلاً ما معناه: أنت أيضاً لك معطف يخرج منه الشعراء، ما دعا رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب، في إحدى المحافظات السورية، لكتابة تقرير إلى الاتحاد، قال فيه ان جكرخوين، شاعر، قومي كردي.. إلخ، وهوما رواه لي حكم البابا آنذاك، أما عن القيمين عن الثقافة، وعدائهم لنا، نحن الذين كنا نكتب بلغتهم الأم، في مناطقنا، فحدث ولا حرج، حيث تصرف بعضهم في هذا المجال، بكل ما لديه من حقد وشوفينية، ولؤم، وخبث، هي بعض مفرزات ثقافة الكراهية التي تربى في كنفها، وإن كان هذا الأنموذج – وللحقيقة –هو القليل.
وفي ما لو دققنا، في تأثير شاعر واحد، كتب باللغة العربية – وهو سليم بركات- الذي تفاعل في بدايات تجربته مع أسماء الستينيات، والسبعينيات التي سبقته، أو واكبته، ليرسم مساره، المختلف، فإننا نجد أن أدونيس نفسه، استفاد في ما بعد من بعض فتوحاته، وإن كان الأمر يبدو أوضح في تجربة محمود درويش – وهو السابق عليه – حيث تبدو آثار بصمات بركات واضحة، وفي هذا ما يدل على أن الشاعر الكردي الذي يكتب بالعربية، لم يترك تأثيره، على القصيدة السورية – ومن خلال أعلى وأرفع أنموذج حداثي سوري/عربي – بل وإن بل أثر في أعلى وأرفع أنموذج حداثي عربي، استثنائي، وفريد، هو محمود درويش، وهو تأثير في الشعريتين العربية، والعالمية، في آن..!
وبدهي، أن أية دراسة للشعر الجديد في سوريا، لا يمكن أن تكون دقيقة، فيما إذا تم تجاهل الأصوات الكردية التي ساهمت في رسم ملامحها، فهي أكثر من أن تحصى في وقفة سريعة – كهذا الأمر الذي يستحق تناوله في دراسات خاصة، منفردة، وذلك لأن الشعر الكردي المكتوب بالعربية لم يتم تناوله إلا من قبل قلة من الدارسين، وظلت هذه الدراسات تنوس بين: الإطراء، والعسف، بعيداً عن إحكام الأدوات النقدية، وسطوة العلاقات الشخصية، والشللية، واستجداء النقد، أو اكتراؤه، وكل هذ ما يحدث في المشهد الثقافي، في ظل ثقافة التزوير.
يضم هذا الملف كوكبة من شاعرات وشعراء كرد، كتبوا بلغة أخرى، غير لغتهم، وهم ينتمون إلى أجيال متعددة، حيث ان فيهم من كتب منذ سبعينيات القرن الماضي، ولا يزال، كما أن فيهم من كتب في العقد الاول، أو حتى الثاني من الالفية الجديدة، وهو -في الحقيقة – لا يمثل إلا جزءاً طفيفاً من المشهد الشعري الكردي المكتوب بالعربية، بيد أننا سعينا الى جلب نماذج عدد لا بأس به، من أوائل شعراء الثمانينيات، على نحو خاص، لأنهم – في نظري – استطاعوا أن ينشروا قصيدتهم على نطاق واسع – كي تعرف بهم، فلم يتوانوا عن إعلان كرديتهم، وتقديم أنفسهم سفراء أهلهم وقصيدتهم، وهوما يسجل لهم، وكان ذلك تحدياً كبيراً، لاسيما وأن هؤلاء جميعاً، لم يجدوا تلك المؤسسة الثقافية التي تحتضنهم، بل أن أصواتهم كانت – غالباً – ما تصل إلى المتلقين، أسرع من خطاب السياسي الكردي الذي ظل، نظراً لطبيعة ظروف المرحلة، أسير بيئته وجماهيره، بعيداً عن التفاعل في الفضاء المكاني الأوسع.
مقدمة”ملف الشعر الكردي في سوريا” “شعراء كرد يكتبون بالعربية”- العدد الأول2013-أوراق – الصادرة عن”رابطة الكتاب السوريين