سلالم النفس

إبراهيم اليوسف

من يجهل نفسه لن يعرف الآخرين…!

عبارة، كهذه، من الممكن أن تكون بداية نص روائي، يجمع خلاله مؤلفه بين أمرين لابدَّ منهما وهما: الشرط الإبداعي والرؤية، حيث أن النص الروائي يبنى على دعامات عديدة، تربط أوصاله ببعضها هيولى ووشائج دقيقة، لا يمكن الاهتداء إليها، واكتشافها، وتوظيفها إلا من قبل ذلك المبدع الذي خبر فنون الكتابة، وأدرك أن أية فكرة مهمة، قابلة أن تكون نواة نتاج فني عظيم، في ما إذا توافرت تلك الأصابع التي تضع بذرة روح الإبداع في مكانها المناسب.

وعند التدقيق في مثل العبارة، وهي في حد ذاتها مفتاح إلى فضاء معرفي خاص، نضع أصبعنا على مدخل الأسئلة الكبرى، لاسيما أنه يتناول محورين، هما:الجهل والمعرفة، فالمعرفة وحدها تطال فلسفة وجود الإنسان منذ الخليقة وحتى الآن، كما أن الجهل هو بؤرة الشرور طوال ذلك الشريط الزمني، ذاته، وأن آثاره ستظل مدى الدهر، كما هو حال أثر المعرفة التي استنار بها الآدمي، خلال رحلته الطويلة على سطح البسيطة، وهي رحلة الحياة في مواجهة رحلة الزوال.
 
وفي انطلاق هذه العبارة من النفس، سلباً وإيجاباً، باعتبارها فضاء أول جديراً بالاستقراء، ومعرفة ما يموج في عوالمه، ما يدعو إلى التعامل مع أخطوطة مكثفة، عصية على الاستنفاذ،  حيث ما لانهاية لها من المتضادات التي يقرر المرء من خلال تربيته و ثقافته وقيمه كيفية التعامل معها، مادامت قادرة على تنشئته الروحية السامية، كما أنها قادرة في الوقت نفسه على إسقاطه إلى درجة الحضيض، في حضور السلالم الأطول من مجاهل الخيال، و مرامي الواقع، وهي توصل به إلى أعلى عليين، أو أسفل سافلين. وكلا الاحتمالين ممكن، نظراً لغرائبية طبيعة هذه النفس الأمارة بالعجائب  والمتناقضات.  
 
ومن يتقصَّ  مسيرة الآدمي، تلك، وفق الخطّ البياني لها، يستطيع أن يعيد كل إنجاز عظيم من قبله، إلى منابع في نفسه، كما يمكن فعل مثل ذلك- تماماً- أمام كل دمار جزئي أو كبير، بحق الكون والكائنات، إذ أن هذه النفس هي الداء، والدواء، هي بيت الحكمة، كما هي بيت الشرور، هي بيت الحب، كما هي بيت الكراهية، مثل غيرها من الثنائيات المتنافرة، المتلاغية، التي يمكن الاستشهاد بها، على امتداد حيز أكبر، وحبر أكثر.
 
ولعل الالتباس في الرؤية، يكمن من مدى ذلك التقارب بين منطلق كل تلك المتضادات، إذ أن في مقدور صنَّاع ثقافة التضليل، وبالاستعانة بمجرد استبدال نظرة الإعجاب، بنظرة اللؤم، أو استبدال الابتسامة بالعبوس المتأجج ضغينة، وهو ما يمكن أن يترجم في النسق الكلامي، كي يكون نواة الثقافة المضللة التي يعتمدها كثيرون، وباتت لا تصمد البتة في عصر الإعلام الكاشف الذي وكأني به يسلط”بجكتوراته” على شجرة النفس، كي يبين عرى أغصانها المتهالكة، أواشتعالها بالخضرة والأزاهير.
 
 

وللجهل والمعرفة، أرومة تعود إلى أعماق خلجات النفس الآدمية، حيث  بين هذين الخطين مسافة:الموت والحياة، الهلاك أوالبناء، وكل ما نشهده من تطور في مسا رالمعرفة، يقابل بسرطنات لا تتوقف في خلايا الجهل، ما يدفعنا إلى الخوف المستمر،لاسيما أن الجهل لم يعد أسير حدود الأمية، وفك الكلمة، بل إن ثقافة الجهل-وهي حاضنة معجم الشرور كاملة- باتت تطور ذاتها، أمام أية فتوحات معرفية كبرى، كي يكون المنجز نفسه-كما طبيعة النفس- أداة المتناقضات، فالطائرة يمكن أن تختصر جغرافيا العالم، ويمكن أن تسهم في تدميرها، شأن غيرها من الإنجازات الهائلة، وكأن سلمي النفس هذين،  يسيران في اتجاهين متناقضين، أحدهما للمجد والآخر للجحيم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

بطبعة أنيقة وحلة قشيبة، وبمبادرة كريمة وعناية كبيرة من الأستاذ رفيق صالح، مدير مركز زين للتوثيق الدراسات في السليمانية، صدر حديثا كتاب “علم التاريخ في أوروبا وفلسفته وأساليبه وتطوره”، للدكتور عصمت شريف وانلي، رحمه الله. والكتاب يعتبر عملا فريدا من نوعه، فهو يتناول علم التاريخ وفلسفته من خلال منهج علمي دقيق لتطور الشعوب والأمم…

خلات عمر

في قريتنا الصغيرة، حيث الطرقات تعانقها الخضرة، كانت سعادتنا تزهر كل صباح جديد. كنا ننتظر وقت اجتماعنا المنتظر بلهفة الأطفال، نتهيأ وكأننا على موعد مع فرح لا ينتهي. وعندما نلتقي، تنطلق أقدامنا على دروب القرية، نضحك ونمزح، كأن الأرض تبتسم معنا.

كانت الساعات تمر كالحلم، نمشي طويلًا بين الحقول فلا نشعر بالوقت، حتى يعلن الغروب…

عبدالجابر حبيب

 

منذ أقدم الأزمنة، عَرَف الكُرد الطرفة لا بوصفها ملحاً على المائدة وحسب، بل باعتبارها خبزاً يُقتات به في مواجهة قسوة العيش. النكتة عند الكردي ليست ضحكة عابرة، وإنما أداة بقاء، و سلاح يواجه به الغربة والاضطهاد وضغط الأيام. فالضحك عنده كان، ولا يزال يحمل في طيّاته درساً مبطناً وحكمة مموهة، أقرب إلى بسمةٍ تخفي…

أعلنت منشورات رامينا في لندن، وبدعم كريم من أسرة الكاتب واللغوي الكردي الراحل بلال حسن (چولبر)، عن إطلاق جائزة چولبر في علوم اللغة الكردية، وهي جائزة سنوية تهدف إلى تكريم الباحثين والكتّاب المقيمين في سوريا ممن يسهمون في صون اللغة الكردية وتطويرها عبر البحوث اللغوية والمعاجم والدراسات التراثية.

وستُمنح الجائزة في20 سبتمبر من كل عام، في…