ان أهم ما تتميز به شبكة الأنترنيت عن وسائل الأعلام الأخرى مثل الراديو والتلفزيون، ليس نقل الصوت والصورة فقط ، بل انتاج النص ايضاً .والنص المكتوب يلعب دوراً جد مهم في التطور الفكري والثقافي للأنسان . وحتى وقت قريب كان النص ينتشر بشكله المطبوع ، وكان القاريء يغرق في عالم المؤلف و يتأمل أفكاره ، وبظهور الأنترتيت أخذ النص ينتشر بشكله الألكتروني ، كما الصوت والصورة ، وبهذا رجع الأنسان الى عادته القديمة أي الى التفكير العشوائي ، وتلقي المعلومات على نحو سريع وسطحي .
لماذا يحدث كل ذلك ؟ يقول العلماء ان دماغ الأنسان يتمتع بمرونة عالية ويستطيع التكيف مع الظروف المستجدة ٠وكان عالم وسائل الاتصال الجماهيري -الكندي -مارشال ماكلوهان(1911 ـ 1980م) اول من بيَن كيف أن التكنولوجيا يغيَر وعينا ببطأ ولكن بثبات .
وقد أجريت خلال السنوات الأخيرة بحوث كثيرة حول تأثير التكنولوجيا الحديثة وبخاصة الإنترنيت في الدماغ البشري وظهرت كتب عديدة من بينها ، كتاب ” المياه الضحلة The Shallows ” لنيكولاس كارر . ويعد العلماء هذا التأثير مسألة مهمة وجادة لسببين
– الأول ، تعاظم قدرة البحث عن المعلومات وتلقي كم هائل منها ومعالجتها ،عن طريق محركات البحث في الإنترنيت (غوغل ، ياهو ، اوبرا ، يانديكس وغيرها كثير).
وثانيا ، أصبحنا قادرين على القيام بعدة مهام في آن واحد بأستخدام الكومبيوتر و الأجهزة الذكية ، مثل كتابة وصياغة نصوص ،إجراء حوارات عبر الشات في الفيسبوك ، تبادل الرسائل عبرالإيميل ، وقراءة آخر الأخبار في التويتر . ولكن في الوقت نفسه ، نفقد معظم قدراتنا علي الأنتباه و التركيز والتأمل والتحليل المعمق ، .ولن يكون بوسعنا التفكير بهدؤ حول أمر محدد واحد ،ومن يعيش في العالم الأفتراضي أو يقضي ساعات طويلة في تصفح المواقع الألكترونية ونوافذها الكثيرة وروابطها المتعددة ، لن تكون لديه الرغبة في قراءة الكتب الجادة و تأمل محتواها .
ان الحصول الفوري على المعلومات و تدفق تيارات غزيرة ومتنوعة منها ، عبر نوافذ كثيرة – عن طريق محركات البحث – قد ادى الى انخفاض القدرة على تذكرها وحفظها لمدة طويلة . ولم يعد لدى المتصفح الوقت الكافي والرغبة في قراءة النصوص المطولة ، ولهذا السبب لجأ بعض المواقع الألكترونية الأجنبية الى نشر نصوص لا يزيد طول احداها عن ( 400 ) حرفاً . ومع كل هذا التأثير السلبي لتكنولوجيا المعلومات ، فأن من الصعب العيش بمعزل عن شبكة الأنترنيت، التي أخذت تقتحم كل مجالات الحياة و أصبحت النافذة التي يطل منها الأنسان المعاصر على ما يحدث في العالم من حولنا في شتى المجالات الفكرية و العلمية والثقافية والسياسية و الأجتماعية ، ناهيك عما توفره الشبكة من شتى أشكال التسلية والترفيه .
القدرة على التفكير تعني في المقام الأول استخدام المعارف المتوفرة للتوصل الى استنتاجات منطقية أكثر تعقيداً ، واذا أردنا تبسيط الأمر ، يمكننا القول ان نوعية الأستنتاجات الفكرية هي حاصل ضرب للمعرفة في القدرة التفكيرية . وبتعبير آخر لا يمكنك الحصول على استنتاجات صحيحة ، الا بأستخدام كلا العاملين معاً على حد سواء، وحتى اذا كانت لديك معرفة واسعة فأنك لن تكون قادراً على تنظيمها بشكل صحيح من دون القدرة على التفكير بنفس المستوى ، وفي نهاية المطاف تحصل على كومة مواد مهضومة الى هذا الحد او ذاك ولكن مكدسة في كومة غير متجانسة، ومن جهة ثانية مهما كانت قدراتك العقلية عظيمة فأن عملك الفكري لن يكون اكثر من مجرد تعبير عن الرأي ، اذا لم يستند الى المعرفة .
الثورة الصناعية الأولى وفرت للأنسان وسائط نقل جديدة مثل القطار والسيارة وأدت الى اضعاف قدرات الأنسان الجسدية والحركية والى تغيير مظهره الخارجي ، وقد انتبه الناس الى التأثير السلبي لهذه الوسائط على أبدانهم و لجأ الكثير منهم الى ممارسة رياضة المشي والركض لتدريب الجسم والتغلب على الضعف الذي لحق به . ما يحدث اليوم نتيجة لثورة تكنولوجيا المعلومات ، ربما أشد خطورة ، لأنه يحرمنا القدرة على التركيز والتفكير ، وبعد سنوات قليلة ستكون الحاجة ماسة الى وسائل جديدة لتدريب الدماغ الأنساني .
جــودت هـوشــيار
jawhoshyar@yahoo.com