رأيتني

 إبراهيم محمود

رأيتني في الحلم نمراً، حيتني أسود وضباع، حييتها بالمثل، وهزت لي غزلان هاماتها، وأخذت ما تيسر لي من لحم الطرائد ثم تسلقت شجرة عالية مسلّماً نفسي لهواء عليل دون أن أعبأ بكل ما يجري حولي مخلصاً لطبيعتي
استيقظت من النوم وأنا أشعرني في خفة النمر ورشاقته، إذ تمشّط الريح شعري والنجوم تكون لفّافاته

رأيتني في الحلم غزالاً يقضم حشيش السهل، مطمئناً، وعلى مبعدة مني ثمة ضبع تحاشاني، كان ثمة شبَع يسمّيه، فكان لكلينا ما يشغله بنفسه، وينشّطه ليمرح على طريقته
استيقظت من النوم وأنا أشعرني في فطنة الغزال ووثبته الآسرة، إذ ينادمني المدى ويتمسح الأفق بي
رأيتني في الحلم سلحفاة تتحرك محملة داخل صدفتها لامبالية بالعالم من حولها، سعيدة بدبيبي الخفي على الأرض، وثمة حيوانات تتقافز من حولي، تملكني فرح عامر بسلحفاتيتي
استيقظت من النوم وأنا أشعرني في حكمة السلحفاة وزهدها، إذ يعلوني قاعٌ رحال، ويجلوني اطمئنان
رأيتني في الحلم سمكة يافعة تنط على ذيلها في ماء البحر العميق، أمواج دغدغتي وحلقت بي، وسلمت لها نفسي، وأنا وسط حيوانات بحرية كان لكل منا المجال الكافي ليفصح عن حيوانيته المائية
استيقظت من النوم وأنا أشعرني بانسيابية السمكة ودفة حركتها، وبي طيران دون اتجاه
رأيتني في النوم بومة، بومة حقيقية، وأنا أدير شئون بيوت مدمرة أرثي أهليها وما فعلوه بأنفسهم وبالمكان، وأتمرغ في عشب الظلام السائل مأخوذة بنشوة لم يكتشفها أحد، وبأصوات ليلية زادتني طرباً
استيقظت من النوم وأنا أشعرني بوحدة البومة الكاشفة، يعاقرني الليل ويتمسح بي هدوء لا يجارى
رأيتني في الحلم  جندباً متلذذاً بصوتي الذي شكل موجات غطت أبعاداً أعلمت كائنات شتى بوجودي، سوى أنني بقيت رحالة مع صوتي وأنا في المكان ذاته مكتشفاً بموقعي عالمي الرحب المدى
استيقظت من النوم وأنا أشعرني جندباً دقيقاً في التقاط الأصوات، يثمل بي صمت لم يكن في الحسبان
رأيتني دوداً يفتح معابر تهوية شعرية لأصول نبتة صاعدة، وأنا محتواة بظلام غير مغشوش
استيقظت من النوم وأنا أشعرني بعضاً من تمائم التربة المعطرة وانبعاث الأجلّ
رأيتني في الحلم إنساناً بلحمه وعظمه وهو عالم كامل من الأحلام، قائداً، وواضع خطط، ورافع شعارات، ومثير الحماس في النفوس، وناشداً من يسميه باسمه ويكيل له المديح
وأنا أفقأ عيني النمر من باب المتعة، وأطعن الغزال من الخلف، وأهوي بمطرقة على صدفة السلحفاة لأثمل بأنينها، وأسلخ السمكة وهي لما تزل حية، وألوي رقبة البومة المنحوسة عندي وأطعم الجندبَ بلبلاً عوَّدته على الافتراس وأمعس الدودة بكامل قواي دون اكتراث بها وهي تفقع..
استيقظت من النوم مرعوباً متعرقاً  وأنا أشعرني الإنسانَ الذي لا مهرب لي منه  حتى الآن..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…