كُردستان وحذاء بيشِكجي

 إبراهيم محمود

الحذاء حذاء، ولا فرق بين حذاء وسواه إلا بجودته، إنما قيل الكثير فيه، حيث يروي كل حذاء تاريخاً، أو هكذا يتردد حوله، ويعني ذلك أنه يسمّي وقائع تحيلنا إلى منتعله تماماً، وأن منتعله يضفي عليه قيمة تتناسب وموقعه في التاريخ والمجتمع، حيث تحملنا أقدامنا بأحذية مختلفة.

رغم ذلك، قد يكون الربط بين كل من كردستان وحذاء بيشكجي مستهجناً أو صادماً لأذواق بعض من كردنا، ولكن مهلاً! فقد أشرتُ إلى ذلك في كرَّاسي الصادر عن بيشكجي ضمن إطار عملي في مركز الأبحاث والدراسات الكردية- دهوك، لشهر تموز، منوّهاً إلى عظيم هذه العلاقة التي تشد كردستان عموماً إلى المناضل التركي والصديق الفريد من نوعه للشعب الكردي، إثر زيارته إلى إقليم كردستان بين نهاية الشهر الرابع، ومطلع الخامس من هذا العام2013،
 وقد جرت واقعة أشرت إليها باختصار في هامش من هوامش الكرّاس السالف الذكر، وهو أنه في زيارته إلى مدينة هولير حيث احتفي به هناك، وفي الجلسة تقدم منه أحد الحضور وله مقامه الأدبي والاجتماعي، وأنا أتركه غفلاً من الاسم هنا، لدواعي شخصية، وأخذ منه حذاءه بطريقة” أدبية” وهو منتش، كما أعلمني من أعرفه عن قرب، ورفعه عالياً، وهو يقول:

هذا الحذاء يستحق أن يبقى ذكرى، شاهداً على أعظم صديق للشعب الكردي ..!
أي إنه أراد من الحذاء في موضعه أن يكون إيقونة تماماً!
كان الموقف طريفاً ولافتاً بالفعل، وصاحب” كردستان مستعمرة دولية” لم يعترض، إنما ربما بوغت بهذا التصرف الدال على عمق التقدير لشخصه ومواقفه، وقد أمضى سنوات طوالاً في السجون التركية دفاعاً عن الكرد: الشعب والجغرافيا والتاريخ، وهو الباحث الاجتماعي العتيد.
كردستان: الجغرافيا الشاسعة الواسعة، ما أكثر ما وطأتها أحذية أو نعال الأعداء والطامعين فيها، وثمة القليل من الأحذية والنعال التي جالت فيها أو زارتها حباً بها، كأنما وطأة الحذاء البيشكجية كانت بصمة صداقة، وعرفاناً بجميل مقامه الموحَّد.
هذا النوع: الحذاء المرفوع القيمة طبعاً واقعة تاريخية، باللون واللقطة المعتبَرة، يسمّي كردستان أكثر من أولئك الذين ينتمون إلى كردستان نسَباً وحسَباً، دون أن ينفتحوا عليها تاريخياً، أو يشعروا بها في وحدتها، كأن حذاء بيشكجي أراد التوقيع على عمق كردستاني، كردستان وليس شرق أو شمال أو غرب كردستان، كما يقال كردياً، إنها الواحدة، كما يشدّد عظيم الأثر بيشكجي، وحذاؤه المضمَّخ بعرقه الجسمي والروحي معاً، أو المستحيل ذاكرة خاصة شهادة على تاريخ جسد استنزف الكثير من قواه تعظيماً لشعب غُدر به كثيراً، وجغرافيا قسّمت، سوى أنه رآها واحدة، وما إقبال صاحب الذكر على أخذ حذائه إلا لقطة بارعة وشجاعة في إبراز جميل الآخر، وهو ترجمان أحول الكردي، ومن خلال ما ينتعله، أي يتحرك من خلاله.
هذا المشهد المؤثر، يشير من ناحية أخرى إلى جانب الندرة لدى الذين يتعاملون مع الكردي وأرض الكردي وتاريخه، وإلا فإن السؤال الذي لا ينفك يتكرر هو: أإلى هذه الدرجة يكتسب الحذاء قيمة أثرية؟ بالتأكيد هو لا يكون الحذاء الذي رسمه الفنان الهولندي: فان كوغ، ليعلق عليه فلاسفة وآثاريون، ولكنه الحذاء الذي أعطي أهمية في تاريخ مهدور، وفي جغرافيا ممزقة، بقدر ما يكون احتجاجاً صارخاً على الجاري في محيطه، تجاه التعامل مع تاريخ الكردي.

إن اللقطة التي تراءى فيها حذاء بيشكجي لن تُنسى، وذلك من خلال مفارقة العلاقة، حيث يتحول الحذاء العادي إلى رمز من نوع مغاير لأي حذاء آخر، حتى لو كان هناك شبيه آخر، إذ سوف يحتفَظ به في لونه وما تنفَّسه أو غطاه من غبار، أو تبين حالة، ليكون مدعاة لتساؤلات، وعامل إثارة لخيالات المتفرجين: كتاباً وفنانين، إنما في الوقت ذاته سيكون دافعاً لأن يتحسر الناظر الكردي قبل غيره بالتأكيد في الحذاء، أو لحظة تذكر الحذاء، في خلفية الموقف وتاريخه، ودلالات الحدث، بقدر ما يكون محفّزاً للتساؤل حول الكردي عموماً، وصلة الكردي بكردستانه وتاريخها ومدى إخلاصه لها واقعاً خصوصاً.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أعلنت منشورات رامينا في لندن، وبدعم كريم من أسرة الكاتب واللغوي الكردي الراحل بلال حسن (چولبر)، عن إطلاق جائزة چولبر في علوم اللغة الكردية، وهي جائزة سنوية تهدف إلى تكريم الباحثين والكتّاب المقيمين في سوريا ممن يسهمون في صون اللغة الكردية وتطويرها عبر البحوث اللغوية والمعاجم والدراسات التراثية.

وستُمنح الجائزة في20 سبتمبر من كل عام، في…

في زمنٍ تتكسر فيه الأصوات على صخور الغياب، وتضيع فيه الكلمات بين ضجيج المدن وأنين الأرواح، يطل علينا صوتٌ شعريّ استثنائي، كنسمةٍ تهبط من علياء الروح لتفتح لنا أبواب السماء. إنه ديوان “أَنْثَى عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ” للشاعرة أفين بوزان، حيث تتجلى الأنوثة ككائنٍ أسطوري يطير فوق جغرافيا الألم والحنين، حاملاً رسائل الضوء، ونافخاً في رماد…

ماهين شيخاني

كان مخيم ( برده ره ش ) يرقد بين جبلين صامتين كحارسين منسيّين: أحدهما من الشمال الشرقي، يختزن صدى الرياح الباردة، والآخر من الغرب، رمليّ جاف، كأنّه جدار يفصلنا عن الموصل، عن وطنٍ تركناه يتكسّر خلفنا… قطعةً تلو أخرى.

يقع المخيم على بُعد سبعين كيلومتراً من دهوك، وثلاثين من الموصل، غير أن المسافة الفعلية بيننا…

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…