الإدمان مرض فكري ونفسي، يهدم الذات ويؤثر على المجتمع المحاط سلباً، في العقد الآخير تحديداً برزت آفة الإلتصاق بالتكنولوجيا العصرية لدى البعض، حد الإدمان، وخاصة بعد ظهور شبكات الإتصال المتعددة، ومنها الفيس بوك، رغم إيجابياتها اللامحدودة، ومنها تقصير واختصار الأبعاد بل وفي بعض المجالات قضي بها على البعدين الرئيسيين، إلا أن سلبياتها أيضاً برزت بشكل واضح.
– الشائع في الفيس بوك هم مجموعات الحديث البسيط العادي الدارج مع آخرين من الناس، تبدء بأحاديث شيقة ممتعة إلى تعمق وتشابك في كل أطراف المعيشة اليومية، فيغيب بعد فترة عوامل الحديث والعلاقة الإجتماعية، ليطغى عليها سيطرة الصفحة الإنترنيتية، والتعامل مع الكمبيوتر، ويصبح الآخر العامل المكمل، سهرات السمر ولقاء الأحبة وتبادل الأحاديث للقضاء على الإنفرادية والإنعزالية تضيع كحجة منطقية لدى البعض وتنعدم في مجاله الإيجابي ليطفوا سلبيات موضوعية وذاتية على فوائد الإنترنيت، فعندما يلتقي الاشخاص الذين كانوا على الطرفين، ينبثق التنقيب، بعض لحظات من اللقاء، فيما وراء الواجهة المعتمة، وكثيرا ما يشتركون معاً أو كل بمفرده في البحث عن نهاية أخرى في أبعاد الإنترنيت وخلف شاشة الكمبيوتر في الوقت الذي كانوا هم طرفي الإرتباط سابقاً، فالعلاقة هنا تجاوزت بين الإنسان والإنسان، وارتبطت في خفاياها بين الفرد والجهاز ذاته، غرق البعض في أعماق النت كمتصفح، وباحث في زوايا الكهوف المظلمة، فهم كمستكشفون لا يهدهم البحث ولا يعلمون في النهاية عن ماذا يبحثون إلى أن يصلوا إلى واقع أنه لم يعد لديهم غاية سوى البحث من أجل البحث دون إشباع، فيصبح الإدمان على التصفح حقيقة حتى ولو أنكروها.
– تطورت استخدامات الفيس بوك، فهي تعد الان وسيلة لإحداث تغيير في الثقافة الحاضرة، لكن شريحة من كتابها يسقطون مقاطع من منابع متنوعة، ومن الذات، يقتفون آثارها، وينتظرون ردات الفعل من الشعاب المترامية في العالم القريب البعيد والمختفي خلف النت، حيث الأغلبية مختفون في عالم ضبابي قابلين لأن يتلونوا حسب المزاج، والقلة هم في خلفياتهم معروفين ويريدون خلق حلقات النقاش الإيجابية، لكن الطروحات المتنوعة والمتكررة في اليوم الواحد تدفع بالفرد في عدم الإنتظار للوصول إلى نتيجة وغاية، بل يصبح الإدمان في كثرة المقاطع أو الأفكار التي ينزلونها لذة للأنا قبل أن تكون مهمتها تغيير في مفاهيم المتلقي، أو مستمتعاً بها كوجود على مدى جذبها للردود من المقابل، متناسين النقاش أو الطروحات المتناقضه، بل البعض يرفضون المنهج النقدي، وكثيرا ما يقضي هؤلاء الكتاب ساعات مدمنين وراء أبحاثهم المختصرة ومفاهيمهم المتناثرة، فالبكاد يستطيع أن يغادر الصفحة لساعات طويلة، يتشدقون إلى العودة إليها باحثا عن الآخر الضبابي ومن خلالهم عن الذات التي لم تغادر روحاً صفحة النت حتى بعد مغادرتها مادة.
– لم يتخلف السياسيون هنا، تغلغلوا في الشبكة، البعض يستعمل اسماء وهمية، لأنهم يجدون ذاتهم أعلى سوية من سياسة الفيس بوك، والمعروفة على أنها شبكة للعلاقات الإجتماعية، مع ذلك فهناك صفحات غارقة في السياسة المدمنة وليست التوجيهية، ينشرون كل شاردة وواردة يهاجمون وينقدون، يبيعون الوطنيات، ينتظرون الآخر، يعيشون مع الأحداث من خلال النت واسقاطات الآخرين المناوئين لمفاهيمهم أو المؤيدين لهم، فيدمنون على الإطلاع المستمر والردود أو نشر الدعاية المتتالية، ينامون ويستقيظون على الحدث الفيس بوكي.
– وتبقى هناك الشريحة الأعظم، وهي الأغلبية بدون منازع، تتفهم كل هذه المطبات، وتدرك قدرات الفيس بوك، يستخدمونها بواقعية، ويسخرونها لغايات منطقية، يشاركون صفحاتها، ويتحاورون ويتناقشون ويتواصلون لمناهج واعية وبأبعاد إيجابية، يستفيدون من الخدمات بكليتها متلذذين بالتطور الحضاري كما يجب أن يكون.
– الإدمان هنا مثلها مثل كل حالاتها الكلاسيكية، يصيب قلة من الناس، وشريحة معينة من المجتمع، ومن المهم جداً تنبيههم، فالحالة موجودة حتى ولو نفاها البعض، لها لذتها مثلما للأنواع الأخرى من لذة لدى مدمنيها.
يتنوع المستخدمون والمستخدمات، والغايات تختلف، رغم الإيجابيات التي قدمتها الشبكة من خلال طرق الإتصال المتنوعة، والفوائدة العظيمة للإنترنيت وهنا لا نتحدث عن ضخامة الإختراع الذي غير مجرى البشرية بكليتها، لكن الفيس بوك بذاته في فترة أقصر من تاريخ جميع مظاهر الإدمان أخرجت شريحة مغايرة عن كل المعهود في الإدمان، وفي كثيره لا تختلف النتائج.
1 – إهمال للذات، حيث المشارك في البعد الآخر يبقى غير مرئي إلا عند الرغبة، فحضوره مع الآخر بذات شبه وهمية مبنية على التصورات الشخصية مع غياب كلي للمادة.
2- يؤثرون على المحيط العائلي، فتغيب الواجبات، إلا عند الضرورة، وغالباً ما تلبى مع أمتعاض، وعلى مضض، ومن ثم عودة سريعة إلى حيث البحث عن حقيقة مفقودة غير موجودة أصلاً.
3- تتقلص العلاقات الإجتماعية الموضوعية، وتلغى الزيارات العائلية، وتقصر على الضروري منها.
4– المدمنون والمدمنات على الفيس بوك وفي الشبكة يشاركون الآخر وهماً، ويتناسون المحيط الأقرب إليهم جسداً وروحاً، يتغاضىون عن الشعور الحاضر وينقبون عن الآنا التائهة في اللاشعور، إلى درجة الضياع في زوايا العدم، حيث سماء الشاشة الوهمية تتبدل بسمائهم الممطرة والمشمسة، وتتغير اللذة.
5- يتلذذون بالحرية في أبعادها، وفي الحقيقة هم سجنائها، وكأنهم مهاجرون إلى عالم وفضاء رحب بلا قيود، رغم إنه في المنطق الفكري يسبحون في وجود محدد وجدانياً.
بدلت عوالم الإنترنيت الكثير من المفاهيم وغيرت اطراف هائلة من المسيرة البشرية، فأصبح كالطوطم الذي يعبد من الأبعاد، المدمنون لا يغادرون معبد الكمبيوتر إلا عند الحاجة. الإدمان على أجزاء منه حقيقة، والمرض أصبح واضحاً مع أعراض مؤذية على العائلة والأطفال مثلما هي على الذات، رغم أن البعض ينفيها على أنه مرض، وآخرين يبررونها بمنطق لا يختلف عن حجج المدمنين على الوسائل الأخرى، بدءً من الملل في الدار، والهموم الإجتماعية المتراكمة، وإرهاصات الحياة اليومية، وغيرها، والنتيجة هي ذاتها إدمان في لباس العلاقات الإجتماعية الفيس بوكية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأميريكية
mamokurda@gmail.com
نشرت في العدد ال (14) من جريدة بينوسا نو الناطقة بأسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا