سوسن إسماعيل
لمارتن هايدجر مقالة بعنوان “وحدها الغابة السوداء تلهمُني”، ولربما يتساءلُ الكثيرُ منا، متى كان السواد إلهاماً …؟! عاش هايدجر فترات طويلة من حياته في كوخ مؤلف من ثلاث غرف، حيثُ كتبَ فيها أعظم كتبه “الكينونة والوجود”، وهو لم يجدْ في ذلك نبذاً للتكنولوجيا ولا للحداثة والبناء، فبعدما حوّلتْ العولمةُ الإنسانَ من كائن بشري موجود لكائن شبه موجود، تراه وتتمعنه وتكلمه وتبثّه مواجعك وأفراحك وهو بعيد عنك آلاف الكيلومترات؛ أليستْ هذه فكرة مميتة ورصاصة حيّة للقتل الجماعي! وكأنّ الكينونة لا وجود لها، كأنَّ وجودنا غير حقيقي أو مشكوك فيه!،
أظنها حالة غير طبيعيّة وهذا يدفعنا للبحث في ماهيّة التفكير والأسلوب الذي نعيشُ فيه/ به. هل ثمّة علاقة بين المكان والفكرة التي ينزاحُ تحتها الفردُ؟ صحيح أنّ هناك شغفاً بالطبيعة، ومع جملة التّحولات التي تجري حولنا، لكننا لا نتأمّلُ بعين الوعي الجمالي والقادر على تفسير الظواهر بمجملها، حيثُ بمقابل هذا التطور العلمي والكوني الهائل، ثمّة اتساع لمساحات البشاعة والموت التي يرزحُ في كنفها الكائن، وعليه فعزوف الكائن عن الاختلاط، لا يُخلقُ بالضرورة تأزّماً نفسياً، فثمّة بون شاسع بين العزلة والوحدة، فتفضيل الوحدة لا يعني أنني انعزاليّة. ما أكثرني عندما أخلو بنفسي، فالمرء يكتشفُ ذاته ويتجاوز ممرات الظلمة الروحيّة، ويهدم أنفاقاً كان يجهلها في ذاته الهشّة، ما أكثرَ من يؤسّس لوحدته عرائشَ لا متناهية من التخيّلات، وفراديسَ تنفتحُ سماواتها، ليكتشفَ كلّ يوم جواهر الأشياء التي مارسها بصمت، لا أقصدُ بالوحدة انعزال العالم والأنس، إنّما أشيرُ إلى عمليّة بحثٍ حقيقيّة عن الوجود، عمليّة بحث عن بساطة مزارع، وطيبة فلاحة في صباح قرويّ وصديق ما عادَ له أثر يُذكر.!! ثمّة إلغاء للطبيعة ونسف لطقوسها رويداً رويداً / في شرقنا البائس/، فما عادت علاقة الإنسان بموجودات الأرض/ الطبيعة قائمة كالسّابق، هي تتلاشى ببطء في الوقت الذي تحافظُ فيه دول أخرى على اخضرارها، وعلى تمتين العلاقة بين الإنسان والطبيعة وموجوداتها. “في الصمتِ أجدُ النشوة، إنّهُ شعور رائع ومبهج”، ما أحوجنا أنْ نعودَ لبدائيتنا، وأنْ نرممَ الصلة بين الكائنات ونعيدَ لها توازنها. ربّما الوحدة ــ أحياناً ــ ترممُ الشّرخ الحاصل لإعادة بناء الذّات وتقوية لمشاعر عظيمة في تأمّلاتها، فللوحدة مزاياها في إتقان الصّمت، كلّما تقلّصتْ المسافة بين الكائن المتكلم والصامت/ الشجر، الحجر، الماء، النهر، والتراب، كلّما شسعَ مفهوم المعرفة واقتربنا من جوهر الوجود. “إنَّها مغامرةٌ في قلب الوجود، أنْ تخرجَ من البيتِ ولا تعرفُ أينَ ستذهبُ ولا أينَ ستصلُ”، إنّهُ قمّة الشعور الوجودي، أنْ تملكَ إحساساً، بأنَّ كلّ الدّروب مفتوحةٌ أمامك، ولستَ مقيداً بمحطات، هي محطات بلا أسماء لا تُجبرك على النزولِ فيها، وما أجملها تلك الدّروب، التي تكتشفها بذاتك، وتعدّ لها بنفسك أسماءها …. أنا حرّةٌ تماماً في دروبي وهذا هو الوجود بعينه …. !!!