قصيدة سلامٌ عليكِ

فراس حج محمد/ فلسطين
جميلة هي المدن عندما تشعر بالهذيان
جميلة هي المدن عندما تبحث في جسدها المنهك عن تاريخ الغزاة الحاضرين
جميلة هي المدن المسجّاة على الإسفلت تطرد الحالمين من فراش الوقت
جميلة هي المدن التي توزّع الصخب الفاتك بالحنين على مسارح من جروح الميّتين
جميلة هي المدن التي تخبّئ الذباب لِلَّيْلِ 
تفتح للنواميس النوافذ المهاجرة عبر البحر لتسكن في الزوايا
جميلة هي المدن التي تستلقي على أفخاذ الباحثين عن فواكه في نبض الصقيع
جميلة هي المدن التي هاجرت وتركت أسماءها لليافطات المعلّقة في قيود اللغات المتصارعات على رصيف من غبارْ
جميلة هي المدن التي تقتل عاشقيها وتدفن الأرواح في مسابح راكدة الموجِ باهتة الأديمْ
جميلة هي المدن التي تصرخ كلّ حينٍ “أين أنا؟”
لا شيء فيها غيرها
لا شيء يحمل عهرها أو طهرها
لا شيء يمسح عن جفون نهارها غبش الظلالِ بظلّها
لا شيء يبتكر البكارة والغوايةَ يستعيد دماءها
لا شيء يرفع أبجديّتها بغير فتون قصيدة بلا وزن وقافية وشعر ولغة
لا شيء يغفر انتحال وجوهها بوجوهها
لا شيء يعتم في لياليها سواها
لا شيء فيها غير ما فيها من الجدران والتعب المحمّل في جنازتها القديمة
من ذا يحدّث للزوايا عن مفاتن ليلة كانت ترقُص في مسايل لونها الورديّ عند قارعة الصباح
من حمّل الذكرى في عيدها أوجاع طمث مستديمْ
من فتّت فيها خرقة الحوريّة المسجونة في سطوح الغيم تغتصب القمرْ
من بدّل للفتاة لباسها اللازورديّ ذاك المساءْ
وافتتح الطوابير في تلو أغنية تهاجر في الأساطير العريقة
من أنتَ يا عرّافنا الوقتيّ كيف بكيت عند أوّل طلعة من شرود الانتهاء من السماء الكاوية
من أنتِ أيتها المدينة؟
كيف رحلت عن التاريخ وأرخيت العنان لرحلة أبديّة في الموت المقدّس والجنون
من أنتِ كيف تقاتلين؟
من أنتِ كيف تعرّفين بيوت العنكبوت على خيوط واهية؟
من أنتِ أيُّتها المدينة البنتُ الحيّيةُ عند اصطخاب الموتِ في هذا السكوتْ
من سيسكت صوتك المبحوح في مكبّرات الصوت يركع للسراب
من أنت وقد تبدّل كلّ حرف في محاريب المواويل الحزينة في مساءٍ خامل مكبوتْ
من أنتِ يا محبوبة البحر الشهيّةْ؟
من أنتِ يا بيروتْ؟
من أنت أيتها المدينة المزدانة بالبقايا
كفّي عن صناعتنا على عينيك
يكفينا ما تحرّك في أسافلنا مع الإسفلت من ذكريات حامضةْ
ولتبقي أنتِ الجليلة والغريبة والحزينة والجميلة
فهل أصبحت عارية بما يكفي لنكتب قصّة أخرى على الجدران في أعوامنا الأخرى
فكفّي عن صناعتنا على عينيك
ولا تبكي علينا
يا مدينتنا الأخيرة سلام عليك في الإيقاع في كلّ زاوية وجملة
سلامٌ عليك

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…