غريب ملا زلال
غريب :
دعنا نعود إلى الطفولة أولاً ، الطفولة التي عاشها عمر ، و التي شاركته فيها ، حاول أن تثقب ذاكرتك قليلاً لتهطل علينا ما تشاء قطرة قطرة من ذلك الزمن الجميل ، أو دعني أهزك كشجرة مثمرة جداً ليتساقط علينا من ثمارك الطيبة كروحك ، سأدخلك إلى ذلك البيت الذي ولد فيه عمر وبالتالي أنت ، سأجعلك ضيفاً صغيراً و طفلاً في محراب والديك ، لتسرد لنا ما يلتقط عدسة لا وعيك من ذلك المكان الذي تحن إليه جداً ، حيث البراري التي كان يقطعها عمر حافياً لكن بعيون قادرة أن تلتقط حتى تلك الريح التي تعبث بالنعناع البري ، و بحقول الحنطة ،
زهير :
عزيزي غريب سأرجع بذاكرتي إلى المربع الأول ، إلى ذاكرة الطفولة بل إلى ذكرى البدايات …فتحت عيني على اللون حيت غرفة عمر ومرسمه الذي كان يفوح بعطر التربنتين والألوان واللوحات والخطوط والألم والحزن …وخيوط الدلف في الشتاء القاسي كنت أرى عمر منزوياً ، و هو يسبح في جسد لوحته غارقاً في اللون ، و أغاني شيفان ، و محمد شيخو ، كنت أجلب له الشاي والقهوة ، أتأمله وهو يرسم وكأنه يحرث في ارض مقدسة ، كان طويل القامة شامخاً كسنديانة في تلال القرى التي تنام على سهول فسيحة كسبيكة ذهب .
كان أصدقاء عمر يرتادون مرسمه متل..عمر حمدي ..صبري رفائيل .. حسن حمدان …عزو الحاج ، كان الكل يبحث عن الحب من خلال اللون ، و يمارسون الحب من خلال اللون،.
انت معي غريب ؟
انت معي
غريب :
معك بكل حواسي .
زهير :
في الصيف الحارقة كان عمر يعيش على ضفاف الأنهار ، على ضفاف الجغجغ و الخابور ، يرسم على ضفافها و رمالها بعود من زهرة القطن ، أجمل عالمه الطفولي وهو ينشد للأفق الأزرق أغاني الحب ، أغان عن مم و زين ، و خجي وسيامند ، وووووووووووووووووووووو ..
ومن ثم حضر فؤاد كمو من القرى النائية ليدرس في مدينة الحسكة، أصبح هو و عمر صديقين جميلين ، و قويت هذه الصداقة بينهما ، إنشغلا معاً باللون أكتر فأ كتر، و شكلا معاً ثنائياً جميلاً ، والإثنان كانا ينتميان إلى الحزب الشوعي السوري ، الإثنان إنشغلا بهموم الفلاحين و العمال ، و رسما أجمل القصائد اللونية ، كانا ينتميان إلى الناس البسطاء ، أقاما عدة معارض في المركز الثقافي في الحسكة ، وآخر معرض مشترك لهما كان في دمشق عام 1973 ، في المركز الثقافي السوفيتي ، أتذكر في وقتها كتب عنهما النحات والناقد التشكيلي محمود شاهين مقالة تحت عنوان حتى حدائقك يادمشق الغالية قالت لنا لا ، في هذا المعرض حملا همومهما ونايهما و أغانيهما ، و آهاتهما لدمشق، على الرغم من الفقر الذي كانا يعيشان فيه إستطاعا أن يحملا لوحاتهم لدمشق على أكتافهما ، المهم أخي غريب من الممكن أن تدخل على الخط بسؤال منك ليعيدني إلى عالم عمر في الجزيرة فالذاكرة قد تخوني أحياناً .
غريب : أريدك أن تعود الى مربع الأسرة ، حيث الوالد والوالدة و أنت وعمر و باقي أفراد الأسرة ، أريدك أن تعود بِنَا إلى البيت الذي بكى و ضحك فيه ، إلى علاقته مع الأهل خاصة مع الوالد و الوالدة و علاقاتهما به ، وكيف تعرف على اللون ، هل كان هناك من أيقظ هذا القوس و قزح فيه ، سأدعك لذاكرتك و ما ستجود بها لنا ، قلت لا أقاطعك لأنني أعرف بأنني سأعيد بك نصف قرن الى الوراء، و لهذا تركتك تسترسل بعفويتك الجميلة جداً..
زهير
ننتمي إلى عائلة تعمل في الأرض ، كان أبي صانع للمحاريث الزراعية ، ساهم في إخصاب كل سهولنا الفسيحة في قرانا بمحراثه و سكته. ، كان عمر يبحث في تضاريس وخطوط وجه أمه حين كان أبي يرسم بمحراثه خطوط الأرض ، و يشقها حباً ، إذ كان والدي نحاتا ًيصنع المحراث ، الجرجر ، الجرك وووووو و كل أدوات الأرض ، كان والدي يملك قكراً جمالياً يسارياً نظيفاً ، تربى عمر وشرب من هذا الحليب الإنساني الذي لايؤذي أحداً ، إنتسب للحزب الشيوعي من خلال أفكار والده ، كانت أمي وخوتي يحصدون سنابل القمح مع الفلاحين والفلاحات بلباسهم المشبعة بضوء الشمس وهم يرتلون أعانيهم التراثية الفولكلورية ، كان عمر طفلاً يركض حافياً تحت أشعة الشمس الشاقولية على أن يضم لصدره قطة أو عصفوراً ، ويختفي تحت سنابل القمح ، و من ثم يستيقظ مع زهرة القطن ، و أنت تعرف الفصول الأربعة في الجزيرة السورية ، هي ثورة هائجة حيث الشتاء قارس جداً و الصيف حارق جداً ، فالألم برد و حر ، عمر فتح عينيه على هذا التباين الجميل في الألوان على الرغم من قساوته ، أتذكر كان عمر يتكلم عن أستاذه علي عبود الذي كان مدرساً لمادة الفنون و القادم من دمشق ، وعن صديقه عبد الرجمن دريعي الفنان والموسقي ، وعن الفنان فؤاد أبو كلام ، أقصد هنا الذي زرع بذرة الفن في روح أخي عمر هو الطبيعة الساحرة على الرغم من قساوتها ، والأسرة و على نحو خاص أبي الذي كان ينحت في جذوع الاشجار لكي يحولها إلى محراث و يخصب الطبيعة ، فهو ينتمي لهذا الكون الجميل على الرغم من صغر جغرافيته ،
إي غريب
غريب : معك
زهير :
.. تعلم السباحة واللون على ضفاف الأنهار ، أتذكر حالة و أنا طفل كنت آخذ بعض الألوان والبراويز من مرسم عمر لصديقه الفنان حسن حمدان في الشتاء القارس ، كان بينهما علاقة صداقة قوية في المحبة واللون ، كانا ينشدان أغنية السلام لوناً و حباً
غريب :
لنبقى صغاراً ، ولنراقب عمر وهو يلهو تحت الشمس الحارقة ، يركض حافياً ، يلتقط أشعة الشمس ليزرعها في أعماله فيما بعد ، تحدث لنا عن عمر الطفل الذي تفوح منه رائحة التراب الذي يحضر أيضاً في أعماله و بقوة ، كيف استطاع عمر أن يحمل الشمس و التراب معاً .. كم كان خالقاً حين جبل التراب بضوء الشمس ، بل بحريقه .تحدث لنا عن التراب المجبول بأشعة الشمس والتي تفوح من عمر و من أعماله
زهير :
يصف عمر إحدى لوحاته…تراب أخذ من لون القمح لونه .. وجبال تأخذ لون البنفسج المشوب بأزرق خفيف كلما إقتربت من معالمها الشامخة .كأنها جدران من خزف وكريستال حين يتراقص عليها أشعة الشمس وهي غارقة في ضباب خفيف ، ويقول عن لوحته حلبجة ..أبعثر التكوين والخطوط ألملمه بالأحمر المشع المجاور للأسود .. وتارة أغرقه بالأزرق المضيء ، محتفظاً بتشكيل طفلة هادئة تستطيع أن تناقشك عن الألم و القهر مدى الحياة ، تناقشك للأبد .مثيراً فيك الكثير من الأسئلة غير منتهية ، كان يرسم بقلبه الصغير مع طيور الهدهد والقطة التي تحط في الصباح الباكر على ضفاف نهر الجغجغ آلاف الخطوط المنحنية اللولبية على أرضية مخضرة برائحة النعنع البري ومشعة بذرات الزجاج ، هكذا عاش عمر يقرأ الماركسية اللينينة .. و يقرأ أشعار لوركا .. وبابلو نيرودا .. ويقرأ المهاتما غاندي ..وجكر خوين .. وازداد شعور عمر بالهم الإنساني .. يقاتل الظلم ويعريه .ويدافع عن المعذبين المقهورين .. عمر إنسان مشبع بالحب واللون والمعرفة .
غريب :
قبل 17 عاماً .. و تحديداً في 16 / 11 / 1998 كان قادماً إليك ، مع زوجته وإبنته الصغيرة ، قادماً عله يضع حداً لعلاج مرضه /سكر / ، لكن لم يصل ، بل أنت سرت إليه ، كان الطريق إبن حرام ينتظره ليبدأ بالقنص ، هناك أيضاً لون عمر تراب الطريق بدمه ، رسم لوحة مأساوية لا تنسى ، كيف وصلتك تلك اللوحة ، و كيف تم شرحها ، دعنا نذرف قليلاً من الدمع لنتذكر تلك اللحظات القاسية جداً .
زهير :
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟