المرأة والكتابة والحبّ قرابين الخلود المؤكّدة.. قراءة في قصيدة «يَصْنَعُني الخلودُ» للشّاعر الفلسطيني فراس حج محمد

مادونا عسكر/ لبنان
– القراءة:
“الّذي يكتب لا يموت” كذا يقول المفكّر المصري دكتور يوسف زيدان. ولعلّ قصيدة “يصنعني الخلود” تعبّر عن عمق معنى هذه المقولة. فالكاتب الّذي لا يموت هو ذاك الّذي يسكن لاوعي الإنسان لاسيّما الشّاعر. كما أنّه يدخل في تكوينه الفكري، وقد يتنفّس معه ويُسمع صوته من خلاله، فيمتزج الصّوتان. ولكن لا بدّ من التّفريق بين الامتزاج الصّوتي والحضور الطّاغي والتأثير. فالشّاعر يختزن في لاوعيه كلّ ما قرأ واختبر وتأمّل وينتظر لحظات الوحي المتفجّرة تنبعث منها قصيدة بنظامها الخاص والمنضبط. إلّا أنّه لا يُلام على لاوعيه إذا ما طغى في قصيدته حضور شاعر آخر.
 قد يبدو الأمر مزعجاً إلّا أنّه هذا ما حصل مع الأستاذ فراس حج محمد خاصّة في مطلع القصيدة حيث لفتني السّطر الأوّل المشابه لمطلع قصيدة درويش “فكّر بغيرك. فيقول الأستاذ فراس:
وأنتِ تعدّين جلسة القهوة هذا الصباحْ
وترشفين بلطفٍ شفاه الوقت في الفنجان
وتقبلين على الحياة بقلبٍ أبيضَ
زهرة فُلّ
دوّني على جدارٍ لا يموتْ
ويقول محمود درويش في قصيدة “فكّر بغيرك:
وأَنتَ تُعِدُّ فطورك ’ فكِّرْ بغيركَ
[ لا تَنْسَ قُوتَ الحمامْ ]
قد لا يكون هذا التّناص متعمّداً إلّا أنّه طغى صوت درويش في مطلع القصيدة وامتدّ ليصبح حضوراً خاصّاً في القصيدة حتّى إنّني في قراءتي للمقطع الأوّل لم أشعر بوجود فراس حج محمد ليعود ويظهر حضوره بشكل قويّ في المقطع الثّاني وبشكل أقوى في المقطع الثّالث حين يمتزج صوت فراس حج محمد بصوت درويش ليشكّلا صوتاً واحداً. وهنا لا مجال للحديث عن التّأثر بمحمود درويش. فالقصيدة لا توحي بتأثير درويشيّ بل إنّ فكرة القصيدة مختلفة وخاصّة بفراس حج محمد. لكنّ الصّوت الدّرويشيّ غلب في البداية واختطف من القارئ الإحساس بحضور الشّاعر صاحب القصيدة. ولئن كان لاوعي الشّاعر أصل القصيدة أمكنني القول أنّ محمود درويش الّذي لا يموت حضر حضوراً خاصّاً استلب من الشّاعر حضوره الشّخصيّ.  ولمّا كان من غير المستطاع الحديث عن تأثير درويشيّ انكشفت بعض معاني القصيدة وتمّ الاستدلال على مفاتيحها ليفيض العمق الشّعريّ في قلب القارئ.
“يصنعني الخلود”، العنوان المضلّل أو الملتبس مع دلالات القصيدة، أو المترادف وحضور المرأة القويّ في القصيدة. فالخلود مرتبط بها وبأفعالها، وكأنّي بالشّاعر يقول: “افعلي لأكون، افعلي لأخلد”. فيكون معنى  العنوان الأصل “تصنعني امرأتي” المرأة المساوية للخلود. ولعلّ الشّاعر يعبّر عن فكرة أعمق ألا وهي أنّ الخلود مرتبط بحركة المرأة ة وبحبّها:
أنا إنْ كتبتكِ لا أهرمُ
لا أموتْ
لا يهزمني الوقتُ والحزنُ والطاعونُ والطاغوتُ والجبروتْ
سأظلّني ثمراً غنائيّاً في قلوب العصافيرْ
المرأة الكون، المرأة الوجود تمنح الشّاعر الخلود حركتها الكونيّة والوجوديّة. فغالب أفعال القصيدة مرتبطة بها وأمّا فعل الشّاعر وموته وخلوده فمرتبط باستمراريّة حركتها. هي تمنحه الحياة والخلود في آن، ويخاطبها حاضرة في كيانه كلّه، يخاطبها الآن ويحاورها كطيف وكحقيقة. فجاء الحوار ذاتيّاً من جهة ومعها من جهة أخرى وكأنّي به يصوّر حركتها وإن استخدم أفعالاً تندرج في إطار الطّلب (دوّني، اهزمي، أعيدي، ارقصي، اشبعي… ) امرأة الشّاعر فيه وأقرب من ذاته له، لكنّها في ذات الوقت بعيدة. لذلك فاضت القصيدة حنيناً وشيئاً من الرّثاء الخفيف، وحقيقةً وخيالاً. 
“كوني لأحيا أبداً” تلك هي فيوض القصيدة المنبعثة من عمق الشّاعر الواثق من خلوده بالمرأة. فهو لا يتحدّث عن خلود قادم أو أنّه يترجى الخلود، بل إنّه يعدّ ذاته خالداً كرجل، كشاعر وكمحبوب.
هناك أنا سأكونْ
أرشف نصف ثغركْ
على نار الكتابةِ يرفعني الخلودُ إلى شفاهكِ
بيتَ شعرٍ لا يموتُ…
************* 
– النّصّ:
يَصْنَعُني الخلودُ

فراس حج محمد/ فلسطين
(1)
‏وأنتِ تعدّين جلسة القهوة هذا الصباحْ
وترشفين بلطفٍ شفاه الوقت في الفنجان
وتقبلين على الحياة بقلبٍ أبيضَ
زهرة فُلّ
دوّني على جدارٍ لا يموتْ
بضع كلماتٍ تومئ لي
وتقول:
“إنّني كنتُ هنا”
(2)
اهزمي الموتَ بالحبّ والشعرِ والمشي تحت المطرْ
لعلّني أنبتُ مثل تلك الشجرةْ
في مَراح البساتينْ
أنا إنْ كتبتكِ لا أهرمُ
لا أموتْ
لا يهزمني الوقتُ والحزنُ والطاعونُ والطاغوتُ والجبروتْ
سأظلّني ثمراً غنائيّاً في قلوب العصافيرْ
(3)
طفلة ظَلّي كما كنتِ
أعيدي الأغنياتِ
ارقصي مع طيفيَ المرسوم في النصّ الأخير من الحكايةْ
اشبعي منّي على مهلٍ وغذّي الوحيَ بي
أعدّيني شراباً نخبويّاً في سهرة القمر الطويلةْ
تزيّني باللون الفاتح الشفّافْ
لأراك زهرة لوزٍ تضحك نصف ثغرْ
هناك أنا سأكونْ
أرشف نصف ثغركْ
على نار الكتابةِ يرفعني الخلودُ إلى شفاهكِ
بيتَ شعرٍ لا يموتُ…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…