الأديب محمد سيد حسين وحضوره في ذاكرة الزمن

 د. محمود عباس
 الكاتب الذي لم ألتقي به، إلا من خلال عطائه الأدبي المتدفق بعد الستينات من العمر، والذي قدم بعضه لقراء جريدتنا بينوسا نو، أو المنشور على صفحات المواقع الكوردية، عرفته قلما نابضا، وأديبا ذو روح كردية نقية، نتاجه الذين يقارب العشرين كتابا، لخصها الناقد والباحث إبراهيم محمود في مقالاته المتتابعة، وموجز حياته وبعض من كتاباته كل من الأديب إبراهيم يوسف والأديبة نارين عمر والشاعرة بونيا جكرخوين، من خلال مقالاتهم المنشورة ضمن الملف الخاص بكاتبنا القدير، والتي تفضلت أسرة جريدتنا بينوسا نو القيام به، كهدية له، تقديرا لجهوده؛ وهو نزيل إحدى مستشفيات مدينة التبليسة في دولة التشيك، أملين أن تخفف عنه هذه الجائزة الفكرية المتواضعة البعض من ألامه الجسدية، ومعاناته اليومية. 
   من اللذيذ في مثل هذا الحضور، التوجه إلى الكاتب مباشرة، ومحادثته دون تكلف، كجلسة ريفية كوردية، فنقوله له أنه مهما كتبنا عنك وفي نتاجك، ومهما تم فتح الملفات عن إبداعاتك، أو بحثنا في قلمك، فلن نتمكن من تخليدك، بقدر ما خلدت ذاتك، أديبا، على صفحة من صفحات تاريخ الثقافة الكوردية والكوردستانية، وبلغة الأم، بعدما تعمقت في ثناياها على مدى السنوات الماضية متزامنا مع مزاولتك لمهنة النجارة لتأمين معيشة عائلتك وتدريس أطفالك وأنت الذي حرمت منها على خلفية العوز المادي، وبشهادتك وشهادة كتاب عاشروك، كاللذين أتيانا على ذكرهم، والشهادتين وسام يفتخر به، مثل إنجازاتك الأدبية الكوردية.
  نوه البعض، على أن معاناتكم كبيرة، وجميعنا نعلم أن الصحة أعلى مستويات الغنى، وأنت المعاني، ونحن والحركة الثقافية الكوردية، تنقصنا الإمكانيات على تخفيفها، لكننا ومن على أطراف المسافات البعيدة نشاركك المصاب، مع علمنا أنه لن تكون لنا قدرة على إغنائك صحة بقدر ما نطمح إليه، لكننا نأمل أن يمدكم الدعم المعنوي من الأصدقاء والمقربين النابع من التقدير لكاتب فرض ذاته، خلق شعور بالرضى والقوة في مواجهة المرض، والراحة لأصحابك الذين يتذكرونك دائما، وحس لدى المشاركين من القراء على أنه هناك علاقة تيليباثية رائقة بينك وبينهم.
لن أتحدث عن الماضي، بقدر ما سأحاول تحضير المستقبل، القريب أو البعيد، الزمن الذي سنغيب فيه جميعنا جسداً، إلا أن البعض سيستمر حضوره فكرا وروحاُ، وهؤلاء هم الخالدون، فمثلما يخلد اليوم أسم ونتاج عم كاتبنا محمد سيد حسين أطال الله بعمره (المرحوم ملا أحمدي نامي) سيخلد أسمه، وللخالدين مراتب ومراحل متنوعة، بعضهم يدخلون التاريخ المديد وعلى مساحات مترامية، والبعض يخلدونهم مجتمعاتهم القريبة ولأجيال كافية، ولنا نحن الكورد صفحات في الحالتين، وسنترك صفحة كاتبنا لجدلية الزمن ولتقدير الأجيال القادمة. 
 والأن فكل ما نتمناه لبعضنا ولكاتبنا الجليل فترة عمرية أطول وصحة أفضل، دون أن يغيب عنا حكمة بوذا عن ديمومة الحياة، يوم طلب من أحد كهنته أن يحضر الخردل من دار لم يمت فيه أحد كدواء لإنقاذه من الموت. مع ذلك ورغم معرفتنا لهذه الحقيقة، تبقى أحكامنا على الحياة والمستقبل وكأننا سنعيشها أبداُ، ويقال إن هذا سر من أسرار استمرارية التطور البشري، ولا نعلم أن كانت البشرية ستزول يوما ما أم لا، لكننا نعلم أنها حتى اللحظة تتجدد، رغم كل الكوارث، وأن عمر وجود الإنسان أقصر الأعمار بين المخلوقات على الأرض، وفي هذه المسيرة هناك أسماء خالدة على مستوى البشرية، ومنهم يستذكرون على مستوى مناطقهم ومجتمعاتهم. 
 وما نعلمه أن كاتبنا القدير محمد سيد حسين، أدرج ذاته في خانة الأدباء الكورد الذين سيتذكرهم الأجيال القادمة، ولا يهمنا هنا مدى قصر أو طول المرحلة، لكن المجتمع الكوردي، الثقافي خاصة يساهم في تكريس ما خلده أديبنا لشعبه الكوردي ولغته، ومكتبتها، بقدر ما تمكن منه، كما ونوعية.
 وفي هذه السردية الحزينة، يؤلمنا أن نتحدث عن حقيقة الرثاء، وهو أحد الذين ارثوا خير أصدقاءه شعرا ونثرا، رغم أننا لا محالة سنرثي بعضنا يوما ما، لكن جميل الكلام أن نتحدث عن عطاء بعضنا ونحن حاضرون، عن السخاء الفكري، إن كان نقداً، سلبيا أو إيجابيا، وهو ما قدمه إبراهيم محمود عن كاتبنا مع آهة من الألم ومسحات من الحزن، عندما يقول في سياق دراسته عن مقطوعات رثاء الأديب محمد ” إنها نماذج، قابلة للدرس والتمحيص على صعيد التعبير البلاغي، والمكانة الموصوفة للاسم، إلى جانب تاريخية المناسبة أو الحدث، أو نوعية المفارقات في اللغة الواصفة كذلك، وما إذا كان هناك ما يستوجب النظر في الصيغ العاطفية والحسية التي تترجم نفسية الكاتب، ليس في علاقته بالمكان والزمان ومن فيهما، وإنما بنفسه، كما لو أنه هو وليس هو، حيث يرثي، بمقدار ما يكون هو الراثي والمرثي، وعلامة هذا التناغم البيني أو التداخل بينت حالات مختلفة”.
خير ما أود توديع كاتبنا به هي مقولة جون تشارلز سالاك “لا يصل الناس الى حديقة النجاح، دون ان يمروا بمحطات التعب والفشل واليأس، وصاحب الإرادة القوية لا يطيل الوقوف في هذه المحطات” وكما فهمته من الأخوة الذين يتصلون بك وأنت في مصحك التشيكي، أنك لا زلت صاحب تلك الإرادة القوية، التي بنيت بها ثروة ثقافية كردية النواة، وواجهت بها سلطة البعث في مراحل عديدة، ومنها في عام الانتفاضة الكوردية 2004 مع عدد من الأخوة الكتاب بينهم من ذكرناهم. 
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
15/10/2020
  
نشرت في جريدة بينوسا نو الناطقة الرسمية باسم الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكورد في سوريا العدد (98).

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…

زوزان ويسو بوزان
1
كوباني على الحدودِ تصرخ..
تودِّع أبناءها واحدًا.. واحدا
وترحلُ في الليلِ مثقلةً بالوجيعةْ
تحملُ أحلامَها فوقَ أكتافها المتعبةْ
منهم من خرجْ.. حافيَ الروحِ والقدمينْ
ومنهم من تركْ غنائمَ العمرٍ الطويلْ
وسافرَ وحدَه مع ذاكرتهْ

فماذا جنتْ الشيخةٌ في الخريفْ
بأيِّ ذنبٍ تُشرَّدُ الطفولة
كأنَّ البلادَ نسيتْ أنَّهم من رَحِمِ الأرضِ
وُلدوا ها هنا
2
أيُّ دينٍ يبيحُ ذبحَ العجائزْ
أيُّ دستورٍ يشرعُ قتلَ الأباريح
أيُّ بلاد…

رضوان شيخو

بطبعة أنيقة وحلة قشيبة، وبمبادرة كريمة وعناية كبيرة من الأستاذ رفيق صالح، مدير مركز زين للتوثيق الدراسات في السليمانية، صدر حديثا كتاب “علم التاريخ في أوروبا وفلسفته وأساليبه وتطوره”، للدكتور عصمت شريف وانلي، رحمه الله. والكتاب يعتبر عملا فريدا من نوعه، فهو يتناول علم التاريخ وفلسفته من خلال منهج علمي دقيق لتطور الشعوب والأمم…

خلات عمر

في قريتنا الصغيرة، حيث الطرقات تعانقها الخضرة، كانت سعادتنا تزهر كل صباح جديد. كنا ننتظر وقت اجتماعنا المنتظر بلهفة الأطفال، نتهيأ وكأننا على موعد مع فرح لا ينتهي. وعندما نلتقي، تنطلق أقدامنا على دروب القرية، نضحك ونمزح، كأن الأرض تبتسم معنا.

كانت الساعات تمر كالحلم، نمشي طويلًا بين الحقول فلا نشعر بالوقت، حتى يعلن الغروب…