غريب ملا زلال
غريب :
هذا الكم الهائل من الخلق ، و على إمتداد عقود تتجاوز نصف قرن و أنت تعمل على النساء كحدائق مرهفة الحس و القد و اللون ، فإذا كانت نساؤك تلك مغايرات ، لا يمشين على الأرض بل يخرجن منها و هن هائمات ، و يلبسن الضوء و كأنهن ملائكة لا وزن لهن حسب تعبير جاك بيير ، دعني هنا أسأل عن المرأة في حياة عنايت ، و دعني أهمس في قلبك ففي حوار جانبي بيني و بين أحد الأصدقاء عن نسائك قال : كل تلك النساء في أعمال عنايت و هن هفهفات مع النسيم ما هن إلا اللواتي لم يصل إليهن عنايت ، و لهذا مهما رسمهن فلن يشفين غليله ، قلت لماذا لا تقول بأنهن جميعاً لإمرأة واحدة عشقها عنايت و لم يتخلص من عشقها ، و أنها تعود إلى الزمن البعيد حتى كدن الآن دون ملامح ، ماذا يقول عنايت ؟ أين هي تلك المرأة التي هزت كيان عنايت لدرجة عدم القدرة على مفارقتها أو نسيانها و لدرجة تفرض ذاتها في مجمل أعمالك ، ماذا عنها ، ما حكايتها. وما حكايتك معها .
و من الطرف الآخر أسألك عن النساء العابرات في حياة عنايت و درجة أثرهن ، أين هن في أعمالك ، أين نصيبهن من أحاسيسك و ألوانك ، و إذا كانت نقطة الضعف السرية لبيكاسو هي النساء ، حتى قيل عنه بأنه لم يستطيع مقاومة إغوائهن له حتى حين كان متزوجاً من إمرأتين ، هل نستطيع أن نقول ذلك عن عنايت أيضاً ، أنتظر إجاباتك بالجرأة التي عرفناك بها .
عنايت :
نعم يا صديقي ولكن ليس كل بحث عن المرآة ، وأبعادها ، وجمالياتها ناتج عن كبت أو عن قهر فإني هنا في فرنسا منذ أكثر من ( 39 ) عاماً ، وأستطيع القول بأنني لم أحرم نهائياً من الصداقات ، والعلاقات ، وبالتالي حتى لست رجلاً يبحث عن شهوة رخيصة .
أعود وأقول نعم لقد خسرت أمي و أنا ابن ال12 سنة ، و وقعت في أول حب مع فتاة، أيضا توفيت بحادث سيارة
،تلك التي كانت تحمل الكثير من أمي ، و كأنها هي كانت قد تنكرتها على مبدأ البوذيين ، وحينها كنت مدرساً في مدينة الطبقة حيث طلبت نقلي إلى الرقة في محاولة لنسيانها ،
إذاً المرآة تحولت لدي إلى لوحة ، أو إلى قصيدة ، أو إلى ملحمة ، أوحتى إلى وهم و خيال ، أحاول الإمساك بالظلال ، فيبددها قبس من الفجر ، أو لمعة ورقة للزيتون ،أو رمي حجرة في الماء لا ترسم سوى الدوائر المتلاحقة .
الأمر الآخر والأهم أن الغربة المتفحمة هنا أيقظت فيٓ الحنين إلى طفولتي
فتطاولت على اللون ، والأدوات ، والأوقات ، والسهرات ، والخلوات ، والنساء ، وفي كل لوحة أحاول تذويب النساء في إمراة واحدة ، أو أرصفهن سجداً على ركبتي أمي ، و كفنان فإنني أعتقد بأن الإشباع أو سد القناعة بلوحة ما تعني نهاية الإبداع او المحل في الانتاج ، ولذلك نظل نبحث عن الدرة المفقودة ، وفي كل مرة نضع التوقيع على آخر اللوحات معتقدين إننا وجدناها ، ثم ينوس البريق متدرجاً إلى الإنطفاء إذ نعيد المحاولة .
أما المرآة الكردية في أعمالي الأخيرة اقتحمت اللون ، وخصوصاً بعد الذي يجري في سوريا والعوائق التي أحالت دون سفري ، و إلا رسمت الطبيعة والملحمة والبحر والمراكب الخ ، وإن أردت البحث بين صوري لرأيتني أرسم جناناً بكاملها وعلى أرض المكان مباشرة في الملتقيات الفنية ، او في المهرجانات
هذه اللوحة مثلاً رسمت في مهرجان مانيية على مستوى وطني فرنسي فحصلت على الجائزة الاولى منذ 7 أعوام
وهذه هي انجيه مجينتنا
وهذه هي ديار بكر
وهذه شاتو غونتييه بفرنسا في مهرجان الألفية الأولى للمدينة ، وقد حصلت أيضا على الجائزة الاولى ، وهي الآن في متحف المدينة ، وقد كانت تخليداً بذكراها الالف عام على تأسيسها
وهذه في مهرجان تونس الدولي منذ 5 سنوات
وهذه منارات وقباب أستنبول
قال لي زائر فرنسي في حينها كيف تصطاد من مدينة أكبر من باريس زبدتها ؟
كيف تحشرها في لوحة واحدة ؟
قلت أصطاد المتعارف عليه ، أو هناك أشياء تأخذني وتقول لي ارسمني
اللقطة الثانية كي تبين الحجم
وهي لوحة جدارية كبيرة .
نعود إلى حديثنا إالى المرآة التي أخذت بعداً كبيراً في أعمالي الأخيرة أكثر من عشر سنوات خلت ، ومازلت أبحر في تفاصيلها ، وبكل بساطة لو سألتك أنت وقلت لك ما الأهم في عفرين مثلا ؟
فهل ستقول لي المعامل ؟
الرجل ؟
أسراب الحمام ؟
المدارس ؟
أو الزيتون ؟
فيما المرأة العفرينية هي صوتها وملائكتها وجمالها ورقصاتها وملاحمها وتاريخها ، والأغنيات والحب والقصائد ، وكل أغاني الأعراس ، والحصاد ، والمآتم ، والأفراح
هل رأيت مغنياً يغني على رجل ؟
ماعدا رجال الملاحم طبعاً ، كممو وزين ، و سيامند وخجي إلخ
في هذه اللوحة وهن على النهر
، أنا من غيبت الفعل اليومي كغسل السجاد في النهر ، أو إملاء الجرار، وما أشبع بالمواضيع الشعبية إني في محاولة لإظهارهن كملائكة ، أعتبرها فعل الحنين ، أعتبرها عشقاً قديماً يتجدد كل يوم ، وفي كل لوحة ، وقد أريتك إني أرسم أشياء أخرى ، وأعتبر أن موضوع الفنان هو هاجسه وليس مايستطيع فعله .
والله اعرف رسم تفاحة وجمل وشجرة
هههههههههه
وقطار
هههههههه
إنه فعل الحنين يا صديقي ، وذاكرة الحمال ، وهاجس قصيدة لم أتمكن من كتابتها ، فألجأ للتلوين ، ولاأقول الرسم ، ثق بأنني في لوحاتي ولا مرة أضع التخطيط الأولي بالقلم ، ولكن بمجرد أن ألقي أول نظرة على المساحة البيضاء أرى النساء قد سبقنني إليها مهرجاناً ، وأغنياتاً ، وصخباً ، و موالاً ، وغيماً ، وضوءاً ، وسراباً ،
و خبزاً لحنين الأيام
خمرة للغياب
شرارة لالشتعال
ماء وخصباً
ونشيداً
وصلاة .
يتبع