إبراهيم محمود
ثمة نهر صغير لاهث الأنفاس يجري بجوار مدينتنا اللاهثة على أرضها. إزاء منعطف له، ثمة صخرة مغروسٌ نصفها في الأرض، محدَّبة في أعلاها. ثمة رجل خمسيني اقتعدها، يسند وجهه المخطوف لوناً بيده الهزيلة قبل الأوان. رجل يفكّر في كل شيء، في لاشيء. ثمة صمت متوثب.
ثمة كلب بادي النعمة في شعره وسمنته ودبيبه على الأرض. وقف إزاء الرجل. أبصره الرجل فجأة. لكنه لم يعبأ به، عاد إلى وضعيته السابقة. ما أكثر الكلاب في المنطقة. قالها في نفسه. لكن مكوث الكلب في الموضع نفسه، دفع به إلى النظر ناحيته. كان الكلب ينظر إليه، شبه مطبق الشدقين.
استغرب الرجل، وهو يبصر صورته كاملة في عينيه. تذكر: في صغَره، طاردته كلاب، تالياً، كان طارداً وطريداً. تذكَّر: مطاردته للكلاب، مصاحبته للكلاب أحياناً أخرى، ملاحقة الكلاب، وما أكثرها له. تذكّر: استفحال مشكلته منذ عقود مع الكلاب .
كأنما عينا الكلب كانتا تقرآنه، وهو يتعرف على صورته فيهما. أي عينين، هاتان العينان؟ تساءل الرجل. مضاء الكلب في الوضعية عينها، أشغل عليه تفكيره المتعب أصلاً.
-لا بد أنك تستفسر عن حقيقة ما أنا عليه ؟
بادره الكلب بالسؤال، دون أن يغمض له جفن.
كان لسان الرجل متخشباً، تحت وطأة حرارة جوفه .
-ها قد عرفت يا…
رد الكلب:
-يا كلب. لماذا تتردد في الكلام؟ نعم، أنا كلب.
حاول الرجل أن يبلع ريقه أولاً:
-أنت كلب ولا تبدو كلباً .
باعد الكلب ما بين شدقيه:
-مازلت تمتلك الفطنة .
-وما شأنك بفطنتي ؟
قالها الرجل على وجه السرعة، واسترجع وضعيته الأولى.
-ربما يعرف القلة القليلة في هذا الجوار ما أعرفه أنا، وتحديداً بصدد أشخاص مثلك .
أنزل الرجل يده التي تنمَّلت قليلاً، ونظر إليه هذه المرة، مع استغراب لا يُخفى:
-والعلامة؟
هز الكلب ذيله المقوس بشعره الطويل المنعَّم:
-أشخاص مثلك، يهمني أمرهم. هيئتك تدل على شجون وخيبات أمل، وتلك من سيماء كاتب.
فتح الرجل عينيه على وسعهما:
-كاتب؟ وما أدراك أنني كاتب؟
لم يبرح الكلب مكانه، سوى أنه أصبح مواجهاً إياه:
-هذا شغلي، ما أكثر الذين التقيت بهم قبلك، وفي وضعيتك هذه، وعلى هذه الصخرة بالذات.
زاد فضول الرجل:
-هل أنت كلب ؟
-كلب ، نعم، إنما أكثر من كونه كلباً. شغلني أمرك، ويمكنني مساعدتك .
-كلب ويساعدني فيما أنا عليه ؟
-لا تسأل كثيراً، فالمحك الفعل، ألا تقولون هكذا ؟
-يا للعجب، كلب ويأتي لإنقاذي .
-اسمع يا كاتب..بماذا أناديك؟ كاتب. هو اللقب الذي تُعرَف به، لا تستغرب تجاه ما ترى وتسمع هنا، ربما تصادف نملة، أو بعوضة، أو دودة تخرج من الأرض، وتعترض طريقك، وتظهر لك من ضروب القوة، ما لم تقرأها في حكاياتك عينها .
-أو تريدني أن أصدقك ؟
-كما قلت. ماالذي أوصلك إلى هذه الصخرة؟ ما أوصل غيرك وهم كثر إلى هذه الكثرة، وما سيوصل من هم بعدك إلى هذه الصخرة، وربما عليهم الانتظار طويلاً، ليأتي لمساعدتهم كلب مثلي، أو لا يأتي، وحينها يحصل ما لا يتمناه أي أحد. حتى أنت بالذات .
-يا للحكمة ؟!
-بل قل للواقع الذي لم أنتبه إليه. لقد أوجدت الحلول لكثيرين على شاكلتك .
تحت وطأة الفضول، وجرّاء ثقْل الواقع عليه، سأله:
-أي حل لديك يا …
-كما قلت لك، قل يا كلب..ستعتاد هذه الكلمة كثيراً، كأنك لم تعرف بأمر الكلاب في هذه المدينة وجوارها وأبعد، عجيب أمرك، كيف لم تفطن إليها، وأنت غزير القراءة ؟
-منذ زمن طويل لم أعد أنظر إلى أي شيء، وأنا والصخرة هذه معاً: جماد على جماد .
-كما قلت، القليل من المرونة والتركيز، ينقل بك إلى عالم آخر .
-وكيف؟
تنفس الكلب الصعداء، وقال:
-هكذا تكون عرفت الصواب. اسمعني جيداً، ولا تتشنج، عليك أن تتبعني .
-أنا أتبع كلباً؟
-لا تغتر كثيراً، قلت قبل قليل، أن كثيرين قبلك كانوا مثلك، واتَّبعوا تعليماتي .
-ولك تعليمات؟ يا للسخرية ؟
-مازلت تعيش أوهامك . يبدو أن لا فائدة من البقاء معك، سأمضي إلى غيرك، و…
شعر الرجل أن هذه فرصته، وربما تكون الأخيرة:
-لا بأس، لا بأس، إنما كيف .
-عليك أن تعوّي قبل كل شيء، عواء يتردد صداه في الجوار .
-تشنج الرجل، وتهيأ للهجوم عليه، لكنه تمالك نفسه:
-أنا أعوي؟ منذ متى صار الإنسان يعوي ؟
بدا الكلب وكأنه يضحك:
-عليك أن تعلم، أن كثيرين ممن تسمع أصواتهم، حين تركّز سمعك، كانوا مثلك تماماً، وهم ينتشرون في كامل أنحاء المدينة، وأخبرك أن هناك مراحل ستمر بها إن تجاوبت معي، وعليك أن تتقن الدور الذي يخص كل مرحلة من هذه المراحل، وإلا ستطرَد خارجاً .
زاده فضوله في التعرف، فأوما بالإيجاب:
-أن تعوي، يعني أن عليك أن تصدر عواء لا تضل به غيرك، أي عواء حقيقي. بعدها، سكون هناك من يقودك، كلب أقل من مرتبتي، ومن ثم ترتقي إلى مستوى الكلب الذي يعنى بكلاب أصغر منه، وعليك الانتظار طويلاً، لكي تبلغ الدرجة التي بلغتها أنا، وبالمقابل، ستكون في انتظارك، ثم عظمة مدهنة قليلاً، ثم ملحمة، وفي الأخير اللحم الخالص .
-أإلى هذه الدرجة ؟
-طبعاً، لعلمك هناك كلب حقيقي، ووظيفته محددة، وهناك من عليه أن يصير كلباً، تكون مهمته صعبة بداية، وهي في كيفية تقليد صوت الكلب، ومن ثم حركاته، والكلاب مراتب يا كاتب، وما أكثر الكتاب الذين انخرطوا في هذه الوظيفة المتشعبة، وهذا الواقف أمامك، كلب وليس كلباً. لقد كنتُ بشرياً، سوى أنني بفضل مهاراتي انقلبت كلباً على هذه الشاكلة، وثمة قلة قليلة جداً، في هذه المدينة، بلغوا هذه المرتبة، أي هم بشروا، لكنهم، بدقة تنفيذهم للمهام الموكلة إليهم، جمعوا بين خصالهم البشرية، والمزايا الكلبية فيهم، لا بل تحولوا إلى كلاب، وهي أعلى مرتبة لهم، أي ليس من السهل أن تبلغ درجة الكلبية القائمة في هذه المدينة، إنما لا بد من كلب يتبنّاك، وكلب يسمح لك بالعواء، وكلب يسهّل أمورك الكلبية، ويرفع عنك تقريراً يومياً عن مدى أدائك لوظيفتك .
-وإن رفضت؟
-ربما ستموت قريباً على هذه الصخرة. ماذا قلت؟
ماذا لو رفضتُ حقاً؟ سوف يقال هناك من رضي بالموت، ورفض أن يصير كلباً. إنما من سيشير إلى ذلك؟ رددها في نفسه سريعاً، سوى أنه، وهو يحضّر نفسه للعواء، داهمته موجة نارية، ألهبته من الداخل، فوجد نفسه لاشعورياً، وقد أدار ظهره للناظر.
-ماذا قررت؟ هناك آخرون غيرك في انتظاري، ووقتي ضيق، ومبرمج؟
قالها الكلب بانزعاج، وهو يصدر عواء، علامة ضيق.
-أنتظر موتي على هذه الصخرة، وأمام هذا المنعطف النهري. لقدد قرَّرت !