قراءة في رواية وطأة اليقين للروائي السوري هوشنك أوسي

بسام مرعي
هاجس العابرين والماكثين 
((فائض الخراب والدمار الذي تعيشونه وترونه وتعلونه، تمعنوا فيه جيداً، لكونه سيصبح مداميك عمارة الذاكرة التي ستتوارثونها جيلاً إثر آخر، وستتصارعون على هذا الإرث، حتى يقضي الليل فجراً كان منتظراً)) 
يبدأ الكاتب هوشنك أوسي روايته برسم صورة سوداوية، لواقع أسود وحياة لزجة دبقة صعبة التنفس لدرجة الاختناق، ملؤها العبودية والذل والفساد والنفاق، الذي يملىء كل مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية السورية، وذلك من خلال إحدى الرسائل التي يرسلها أحد الشخصيات المحورية (حيدر السنجاري) إلى صديقه هاكوب زردشتيان. 
 أن تعيش كل هذا الوطأة، والوجع النفسي والخوف من كل شيء، من الاستبداد وصانعيه، من الديمقراطية المزعومة والمحتملة، في ظل واقع مأساوي، هذا يعني أنك مكبل بسوريتك المطعونة من كل جانب ومن كل صوب. 
 يبدأ قطار الحياة في الرواية بالمسير، مارا بمحطاته المتنوعة، بداية مع كاترين في بلجيكا لتمهد لنقاش سياسي وفكري وفلسفي، ينم عن نضج ووعي سياسي للواقع العربي والسوري بشكل خاص، وتعكس اللغة الحواريةرجوهرها ومواقفها من خلال لقاءات بين ولات وكاترين، بداية مع الشرارة التونسية، التي أضرمها بروميثيوس تونس البوعزيزي، ليشعل النار في هشيم الأنظمة العربية، مع مقاربة  لشرارة المقاومة الكوردية، من خلال مظلوم دوغان في سجن ديار بكر في تركيا. 
وكأن عصراً جليديا بدأ بالذوبان، لتبدأ مرحلة جديدة في الواقع العربي، مع غروب متأمل للأصنام المتسلطة على رقاب شعوبها  كما في تونس ومصر….. 
تأتي أهمية رواية /وطأة اليقين /في طرحها لقضايا المنطقة العربية ككل وأزماتها، من خلال بعض شخصياتها الحاضرة في الرواية، ومن خلال بيت – شاتو- بيت اللاجئين في بلجيكا كشخصية درغام أبو ياسر الفلسطيني، ومن خلاله يتم سرد الكثير مما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتفرعاتها، والقوى المحركة والفاعلة فيها داخليا وخارجياً. 
وهكذا تبدأ القيامة السورية كبصيص ضوء في نفق مظلم، لتقلب الكثير من المفاهيم والادعاءات والنظريات القديمة فيما يخص علم الاجتماع السياسي، بل وتهز كيان العالم ككل. 
لعل سيرة حياة الكاتب تلقي بالكثير من ظلالها على مجريات الرواية، ويتضح ذلك من خلال التعمق في البنية الايديولوجية لحزب العمال الكوردستاني ومنظومته الفكرية الماركسية، وتجلياتها في الحياة السياسية والاجتماعية والعسكرية، ولا يخفى أن هذه النقطة تضيف للرواية بعدا فكريا أعمق كونها تلامس كبد الوقائع. 
يجدرالقول إن في الرواية رؤى متباينة ومختلفة، تحددها ثنائية المكان واختلافهما، مابين أرض الوطن والمهجر كمواطن وكلاجىء، وذلك من زاوية ووجهة نظر وملامسة السوري متنفساً هم بلده، ومن ثم نظرة الأخر الأوربي والذي قد تختلف وتتباين نظرته من المتضامن كما في شخصية كاترين، التي عاشت جزءاً من حياتها في دمشق، ولها دراية وإطلاع وقرب من العواصم العربية كتونس ومغرب، وذلك القرب خلق لديها القدرة والمرونة في تفهم طبيعة هذه المجتمعات، بخلاف ذلك الأوربي الذي يتاجر بمآسي الأخرين وبجراحهم، ويعمل جاهداً لإطالة أمد الحرب، لأنها تمد بلاده بالرخاء والصحة والأمان، كما في شخصية الطبيب الجراح فاندرويه المرتبط بشبكة مافيوية، تعمل في تجارة الأعضاء البشرية للمعتقلين السوريين، وهي مرتبطة بدورها ببعض أزلام النظام السوري، الذي يدير هذه الشبكة في سبيل صفقات مالية مشبوهة، ومن خلال سيناريو وحبكة روائية شيقة لا تخلو من خيال سينمائي . 
لغة الكاتب المتقنة الفلسفية تجلت واضحة أكثر مايكون في المناجاة والتأملات الصوفية في نهاية الرواية، بلغة جميلة لاتخلو من الشاعرية، تلك الشاعرية المعتقة بالحكمة.
في النهاية هذه الرواية شاهد آخر إضافي، ورؤية مكثفة وعميقة للثورة السورية والواقع العربي ككل، ولابد من الرجوع والبحث في صفحاتها الغنية .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…