إبراهيم محمود
السنة هذه في مدينتنا، يُضرَب بها المثل، حيث يصعب إيجاد ولو فأر واحد في بيت أحدهم. ألم يقل قديماً ” لا أثر لطحين على ذيل فأر في بيت فلان “؟. يمكنك أن تعمم ذلك كثيراً، ولن تكون مبالغاً. أكثر من ذلك، يصعب إيجاد فئران خارج بيوتها، إذ يبدو أن هناك من مات جوعاً، ومنها من حاول الخروج بحثاً عن مكان يسد به جوعه، ومنها من غادرها كلياً، شعوراً منه، أنه لن يجد ذلك الخبز الوفير لقرضه، ومنها من استقر في مكان خرِب، شعوراً منه، أنه أفضل مكان لردّ غائلة الجوع. لكن أمر القط كان أصعب، فما أكثر القطط التي كانت مدلَّلة، وقد رُمي بها خارجاً، لتلقى صدَّاً لها وهجوماً عليها من قبل نظيراتها القطط الشاردة، وهي تنال منها، لأنها قد نسيت عادة الدفاع عن النفس، بسبب الدلال المفرط الذي تعرَف به في بيت أصحابها.
وتناقصت أعداد القطط بدورها في شوارع المدينة، ساحاتها، حدائقها، وأماكنها الخربة والمهجورة، جرّاء موجة الغلاء التي ضربت مدينتنا هذه، ليختل ميزان الحياة فيها،ويضطرب وضع الأحياء فيها بشكل غير مسبوق.
رغم ذلك، فإن الفئران أكثر قدرة على التكيف، إذ إنها لا تعدِم سبل البحث عن العيش، والعثور على طعامها، إلى درجة أن نسبة معلومة من أحيائها، وأقصد بهم البشر، تمنت أن تصبح فئراناً، تتسلل إلى الأماكن التي تجد فيها ضالتها، وتختفي عن العيون، إلى أجل قدَّرته أنه سيطول .
ورغم أن القطط لا تعدِم أساليب الحصول على ما تقتات به، إلا أن حيلتها ضعفت، تحت وطأة الجوع في المدينة، وحارت في أمرها، وهي تستشعر ألم الجوع يعصف بها بازدياد .
ومن أغرب المشاهد، رؤية فأر، وهو ينادي قطاً بالكاد كان يموء، ويمشي وئيد الخطى، ومن داخل جحر له:
-أيها القطقوط، كيف تجد نفسك الآن ؟
لم يستطع القط الإجابة، بالعكس، لقد شعر بالذل إزاء فأر يخاطبه بالطريقة الاستعلائية تلك، واضطر أخيراً لأن يجيبه، تحت وطأة الجوع :
-كما تراني، بحيث إنك لو كنت على بعد خطوة لا تستطيع الإمساك بك. أنا لم أعد قطاً. ماذا فعلت هذه المدينة بي؟
تردد صدى الفأر في الجوار، ضحك معروف متوقف عليه وحده. ليأتيه صوته ثانية، وفيه نبرة سخرية جلية:
-ما رأيك أن تعمل عندي يا قطقوط، على الأقل لأحميك من شبح الموت؟
دمعت عينا القط، وهو يسمع صوت الفأر ومدى استخفافه به، وتحامل على نفسه قائلاً:
-ماذا جرى في المدينة هذه؟ أنا أعمل عندك ؟
رد الفأر وهو يتشردق بصوت عال، تعبيراً عن شبح لا يخفى أثره:
-لا تغتر بنفسك يا قط..تذكر كيف سلَّمت نفسك لهذا أو ذاك، وأنت محل دلال، يأخذك الغرور، وهم يرددون ” إذا غاب القط، عرّس يا فأر “، وأنت تنتفش بقولتهم هذه. أي رابط بيني وبينك، لتتفاخر بنفسك بينهم، أمامهم؟ أنت أضعاف أضعاف وزني. أيغريك أن تقول: أنا أقضي على الفأر ؟ تحمل أحدنا بين مخالبك، وتلهو به أحياناً، وأنت تستعرض قوتك، تنفصل عن بني جلدتك في الخارج، وتنسى أنك قط، وستكون خارجاً ذات يوم. هل حسبت لمثل هذا اليوم يا قطقوط ؟
سكت القط المتضور جوعاً، وهو بين مطرقة الجوع، وسندان هزء الفأر به، وهو يردد في نفسه المتهالكة جوعاً: ماذا سيقال عني، وأنا أستسلم لشروط فأر؟ كيف سيكون موقفي، وأنا أهان من قبل فأر؟ وتذكر جوعه .
وخاطبه الفأر مجدداً:
-مازلت متباهياً بنفسك، ولا تتنازل أمام فأر. وتنسى أن الجوع يمحو كل أثر لهذه المفاخرات. فاعترف. وعلى كل، سأتركك وحدك لمصيرك البائس .
وحاول الابتعاد عنه، والاختفاء في جحره.
تنبَّه القط إلى خطورة الوضع، وصدرت منه أنة، وصوت:
-أتوسل إليك يا فأر أن تشغلني عندك، ولو مقابل كسرة خبز !
ضحك الفأر قائلاً:
-كسرة خبز؟ أتفرض علي شروطك؟ يلزمك الكثير لتحصل على كسرة خبز، سآتي لك أحياناً بقطعة من بندورة عفنة، أو براز يابس ففيه نشويات كثيرة، وستشبع سريعاً، أو قشرة بطيخ تحت الركام .
حاول القط الصراخ قهراً، لكن قوته النافدة لم تمكّنه من ذلك، فجاء صوته الواهن:
-آآكل البراز اليابس ؟ أتستصغرني إلى هذه الدرجة ؟
رد الفأر الشبعان ، وهو يقف على قائمتيه الخلفيتين :
-إنه عرض مغر ٍ، لا يتسنى لأي كان، ولتعلم أنني أكثر منك كرماً، وأرأف بك، رغم أنك لا تستحق مثل هذه العناية، حيث كنت تتباهى في كل مكان على أنك قاتل الفأر. واعلم أيضاً، أن هناك بشراً في هذه المدينة ينبشون القمامة بحثاً عن كسرة خبز، أو بندورة عفنة، أو جبنة عفنة، يتناولونها بطريقتهم الخاصة، وبالنسبة لي، فقد أمّنت على نفسي في جحري هذا، وجحور احتياطية أخرى لزمن طويل، وأنا أفطن لوقوع حالات كهذه .
تردد القط، والفأر يتفرج عليه منتشياً بما هو عليه من شبع وخيلاء، ومن ثم قال له:
-يبدو أن رأسك يابس، كما يقولون في هذه المدينة، أدعك لجوعك .
استنفر القط كل قواه المتبقية، ليسمعه صوته:
أرجوك يا فأر، أيها الكريم ابن الكريم، السموح ابن السموح. أنا تابعك، أنت مولاي، ومقرّر مصيري. أوقّع لك على بياض، سآكل كلما تقدمه لي: جبنة عفنة، علبة سردين فاسدة، سأفتحها لك بأسناني، براز يابس، أي شيء، أي شيء، إذ حتى البراز أصبح نادراً في هذه المدينة، كما يبدو.
لأول مرة في تاريخ مدينتنا يصبح الفأر آمراً والقط مأموراً !