سرير على الجبهة: ثورة قلم في وجه ثورة البنادق

  سلمى جمو
رواية «سرير على الجبهة»، أو «السفوكليسية الأرُسطفانية» كما يحلو لي تسميتها، هي رواية اجتماعية سياسية، ذات أبعاد نفسية، لكاتبها السوري «مازن عرفة»، الصادرة عام ٢٠١٩م عن دار «نوفل – دمغة الناشر هاشيت أنطوان».
رواية بصفحاتها الـ (٣٣٥)، بأسلوبها التهكمي الساخر، المبكي المضحك، وأنت تقرأها البسمة لا تفارقك أمام كل تلك الكنايات والأحداث المضحكة، التي تنطوي في عمقها على غصات تظلّ عالقة في حنجرة قلبك؛ لأنها تصور كل تلك التراجيديا التي نعيشها، فتارة نضحك وتارة أخرى نبكي واقعنا المأساوي، هي رواية تقوم بتفكيك البنى التحتية الذهنية والنفسية، لما يعانيه المجتمع السوري خاصة والشرق أوسطي عامة.
تبدأ الرواية بسرد حكاية رجل وزوجته وأطفاله الخمسة الساكنين في شقتهم القابعة في موقع استراتيجي، استراتيجي بالنسبة لمَن؟ للأطفال حيث العربات المحمّلة بالسكاكر الملوّنة، والأم التي تراقب العربة كي تشتري منها الخضروات المتعفنة، والأب الذي يتخذ منها محطة لمغامراته الكزانوفية مع بنات الجيران، وأخيراً للعسكر الذين يقتحمونها لأسباب لوجستية؛ ليخوضوا معارك «دون كيشوتية»، فيما المعارك الحقيقة قابعة ليست بالبعيد عنهم، لتبدأ أحداث الرواية بحبكتها المدهشة يصف فيها الكاتب بدهاء أوضاع الحرب السورية أو ما قبل الحرب السورية، تلك الأوضاع التي كانت سبباً وتربة خصبة لنعيش فيما بعد حرباً دولية بالكفالة على الأرض السورية، العِدة والعتاد فيها هو الشعب السوري نفسه محوّلة إياها إلى حرب أهلية بين طوائف وأعراق وقوميات، كلنا نوهم أنفسنا أنها كانت تعيش بوأم وألفة في العقود السابقة، لتكشف لنا حجم خطأنا وبأننا شعب كان يعبّئ طيلة تلك العقود بنعرات طائفية وقومية، هي كانت طبخة على نار هادئة إلى أن استوت في ربيع ٢٠١١م.
يروق لي أن أصنفها أيضاً على أنها رواية نفسية تحليلية لنفسية المجتمع الشرق الأوسطي، يحاول الكاتب فيها تحليل الأرضية النفسية وآلية تفكير الشعب السوري ويسلط الضوء على مبدأ «الفعل وردة الفعل».
مجتمع الدين فيه بشقّيه الإسلامي والمسيحي، وتفرّعاتهما المذهبية مُسيطر بشدة على مفاصل الدولة السياسية والحياة العامة جاعلاً من نفسه المرجعية الإلهية في الأرض، متحكمين بطريقة نوم المواطن وشربه للماء إلى كيفية ممارسة الجنس مع زوجاتهم وأزواجهم إلى علاقته مع جيرانه وهلم جرّا، لكن السؤال هنا: «مَن يستقوى بالآخر؟».
رجل الدين الذي يحاول بفتاويه الوطواطية السيطرة على عقول الناس وإرادتهم ومن ثم استخدام هذه الجيوش المدجّجة بإيديولوجية الجهاد والدم في وجه الساسة كي يفرضوا سلطانهم عليهم، أم رجال السياسة الذين يحاولون بعدم إغضاب هذه العقول الغبارية والحصول منهم على صكوك الدعم العقائدي في تدعيم مكانتهم السياسية، حتى أنهم يُمْلون على رجال الدين بإعطاء فتاوى تسليح هذه الجماعة على حساب جماعة أخرى.
مجتمع كل جهة فيه تأخذ من الإيديولوجية التي يتبنّاها الجانب الذي يخدم هواه ومصالحه، ضارباً بعرض الحائط القيم السامية الحقيقية لتلك الإيديولوجية.
فشيوعيّونا يؤسّسون لأنفسهم شيوعية، لو «كارل ماركس» شاهدٌ عليها للعَن نفسه وأفكاره واليوم الذي قام به بطرح فكرة الشيوعية.
شيوعيون يعتبرون كل ما في الدولة مشاع لفئة معينة تحتكرها لنفسها، في حين أن ما تملكه هذه الفئة تُعتبر ملكية خاصة متحوّلين لرأسماليين يدافعون عن ممتلكاتهم بشراسة.
متديّنونا لم يأخذوا من السلفية والسلف الصالح سوى المفاخذة ونكاح ما طاب لهم مثنى وثلاث ورباع، وأن الجهاد يكون من وإلى ولأجل أجساد النساء، أو هو إطالة للحى وحفٌّ للشوارب، ناسين أو متناسين أخلاقيات الدين من التسامح وعدم إكراه الناس…
ينطبق نفس الأمر على اللادينين، الذين لو قضوا نصف الوقت الذي يقضونه في نبش الدين وحياة النبي محمد وزوجته، لو قضوه في تطوير فكرهم والنهوض بالمجتمع لتغيّر واقعه لكنّا الآن نغزو القمر، لكننا شعب يُسقط نقصه وعجزه على الآخرين.
يحاول الكاتب أن يُوصلنا فكرة مفادها، أن ما يحكمنا ليس الحكّام الفاسدون، بل ذواتنا الفاسدة عقولنا البسيطة التي ترضى أن تعيش وتقتاد على آراء وأفكار الآخرين.
هي رواية بما تحتويها من أسلوب سوريالي فانتازي، إلا أنها تضغط بأصبع من الواقعية على جرح نازف لا زلنا نعيشه.
فنحن مجتمع يبحث عن سعادته ونجاحه وربط كل مصيره بقراءة الطلع أو التفتيش عن زاوية الأبراج في الجرائد، مجتمع يُؤمن بالتطير ويتغنّى بالأساطير والانجازات التي عفا عليها الزمن، وهنا ما يلفت الانتباه أن الكاتب عندما يتحدث عن هذه الشريحة فهو لا يقصد الفئة البسيطة الأمية من المجتمع، فمثقفونا وسياسيونا أيضاً يؤمنون بهذه الخزعبلات، وما أكبر هذه الشريحة في محيطنا!
كامرأة يجذبني دائماً المواضيع النسوية وهو ما لفت انتباهي، حيث يسلط الكاتب الضوء على مكانة المرأة، فهي آلة للإنجاب والكنس والجنس، وضعها المخزي يعكس الحال العام وكأن عرفة يقول: «إن أردت أن تعرف حال المجتمع فابحث عن مكانة المرأة».
نحن أيضاً مجتمع مهووس بالمؤامرة حدّ المرض بها، رابطين كل الويلات والحروب التي نتعرض لها بمؤامرات وهمية، وإن كانت حقاً حقيقية فإن الإنسان السوري والشرق أوسطي ينسى أن ما من مؤامرة لتنتصر لو لا وجود قاعدة مجتمعية مهيّأة لها، أيّ نحن!
ما شدّني أيضاً هو البُعد الجنسي لأغلب أحداث الرواية، أو الاستخدام المتكرر «المفرط قليلاً» للمشاهد والأحداث الجنسية. ربما الكاتب يحاول أن يوضح بأن ما يحكمنا ولو ضمنياً غرائزنا الجنسية المكبوتة وأننا مجتمع مكبوت يحاول إفراغ كبته الجنسي بأيّة طريقة كانت، وهذا ما يؤيد الإحصاءات التي تؤكد بأننا أكبر شعب مستهلك للأفلام الإباحية.
أو لربما يحاول أن يُنزل هذا المصطلح من عرشه القدسي المحرّم كي يمنحه أخيراً طابع شيء عادي كما شرب الماء، محاولاً نزع تلك الهالة التي تحيط به والذي يدفع شبابنا وحتى سياسينا للركض خلفه بشراهة، إنه يُخرج هذه الكلمة من دائرة الحرام والعيب اللذين كانتا سبباً في كل هذا الكبت الذي نعانيه، وبالتالي نقوم بتفريغه بوسائل وطرق شاذة الذي يؤدي إلى ظهور الشذوذ بكافة أنواعه، من سفاح القربى للمثلية الجنسية، التويرية إلى البيدوفيلية الذي نراه بكثرة في مجتمعنا، وأيضاً ذاك الكبت الذي يدفع بالآلاف للمشاركة في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، عدا الغنائم الجنسية.
يأخذنا مازن عرفة بالأحداث الغرائبية التي تتشكل بها الرواية إلى المشكلات والتفسخات التي نعانيها، مروراً بالأسباب النفسية والاجتماعية لتلك العقد، وصولاً إلى عرض الحلول والتي تكون بنبذ العرقية والطائفية والتوجه نحو العلمانية «الحقيقية النقية»، التي يرى فيها الكاتب الطريق الوحيدة التي فيها خلاصنا.
وفيها… عند الاقتراب من نهاية الرواية يحاول عرفة كحلّ جذري لكل ما نعانيه بحسب رؤيته الشخصية الإنسانية نهج وصوغ مبادئ تعيد إلينا ذواتنا التي تحلّلت وسط بركة من النفاق والكذب الديني القومي السياسي الذي فيما بعد يمكّننا من بناء أوطان لبنتها الأولى هي الإنسان دون أيّ تميّز عرقي طائفي.
هذه المبادئ الست الأساسية التي وضعها الكاتب أُولها أننا جميعاً بشر وكلنا منحدرون من نفس الجينات، وأننا جميعاً متساوون أمام الدولة والقانون مهما كانت رُتبنا الدينية أو السياسية عالية، وأننا بالرغم من اختلافاتنا الفكرية العقائدية العرقية فإن هذا لا يُشكل أيّ سبباً الخلافات و المنازعات، بل العكس من ذلك فإن تلك التركيبة الفسيفسائية هي ما يجب أن تعطي جمالاً لذاك النسيج الاجتماعي الذي نعيشه.
المبدأ الخامس ينصّ على اللا عسكرة والقتل والدم، فهذا الكوكب يتسع للجميع إن تخلينا عن جشعنا واقتنعنا أننا لن نبلغ عنان السماء كما فعل فرعون من قبل. في النهاية ينادي الكاتب بفصل الدين عن الدولة والعمل معاً على تأسيس دولة تكنوقراطية لا يكون فيها للعسكر والدين الدور الرئيس فيها.
القارئ لهذا الرواية وهذه المبادئ الست لا يسعه إلا أن ينبهر بخيال الكاتب وغزارة الأفكار التي يمتلكها. هي رواية تجعلنا نعتقد بل ونجزم بأنها تصلح أن تكون بمثابة ميثاق ليس بمحلّي لكن ميثاق دوليّ، يلزم كل دول العالم على الخضوع له والالتزام به؛ لأنه السبيل الوحيد للخروج من هذه الفوضى التي نعيشها نحو عالم مسالم يحكمه العقل والوعي والإنسانية.
هي أيضاً رواية تؤكد لنا دور القلم والكتابة وأنها أكثر قيمة وقوة وتأثيراً من ألف مدفع وقذيفة، كيف لا وكاتب الرواية قد تعرّض ليس بالقليل للاعتقال والتعذيب بسبب أفكاره وقلمه.
مازن عرفة… داهية، بدون أيّة مجاملة أو تملّق.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…