جان بابيير (النمسا)
كل واحد منا كان يبحث عنه في المرآة.
حينما يختلط الحب بين الزمن والجغرافية, أية بوصلة تحدد شمال القلب؟
يلزمني الكثير لأرمم وجودي المتصدع بك قبل أن تتحدث شفاهي، نطقت أصابعي بما أمر القلب وغصة خلف غصة.
طالما راودني النصح بأن أبكي على بقايا أطلال صباح من دونك, معك بالقرب من جدار الوحدة المتصدع لأنثاي التي تهرّب وقتي من تحت إبطيها بضاعة ممنوعة خلف تذكرة الرحيل، وأنا أعيد ترتيب نفسي المجعدة، كما ثيابي المكوية بأناقة.
اللقاء لا يهمني, صياغة أحاديث الأم وهي تتسلح بأنه يعيش نزوة البخار، فقط أعيد ترتيب صورة الأمس في ألبوم القلب والصورة كانت من نضج الأمس في شجرة اللقاء.
أكره المحاولات, فأنا رميت بنردي على رهان الحب سنوات ضياع أدوزن حضوري في مشهدك التلقائي, خمسون سنة تعيدني إليك.
أشياء كثيرة تملك تلابيب الوقت, شيء ما يجذبني إليك. أشياء كثيرة بها أنتمي إليك بوشاح مطرز بأصابع اللقاء قنينة عطر وباقة ورد ليلكية نبتت على وسادتي، أظن أن إبهامي يبصم على مواثيق خلوتي بك انتمائي إليك من ضجيجي بك, وحدتي إليك، ألوي عنق السواد على اللوحة بدل منك, إني أتلقى شبقك مثل خَرْق في المواثيق، من حقول ذاكرتنا أشمّ رائحتك على بعد قبلة وفرسخين من التيه تعيدني إلى المزاح.
نركض في الشوارع, تبتسم لنا تلك الكازخية وهي تقدم الشاي على كفي اللقاء وندفن الحزن, نرتوي بقنية عرق وأربع قصائد ولوحتين ونمضي إلينا أكثر من عمرين وحب.
تضيء زاوية الحلم المظلمة تحت أقدام الطاولة نخب ميلاد الحب, هنا ولدت وهناك بين نهديك وعلى طول جسدك مثل كفن أسربل موت اللقاء. لم تعلّمني أن أحتمي من شتاء عينيها في عاصفة الفراق، لأعود بذاكرتي خلفاً، الحب في بيتنا كان مرآة كبيرة تسمى بمرآة البدن معلقة على حائط طيني وصوت الميزاريب هي أغاني الشتاء، والجنادب ليلاً في الصيف تعلن الهدوء، الحب في بيتنا القديم كان كعكة مخبأة لي في صندوق أمي، بعد خمسين عاماً ألتجئ إلى حضن ذاكرتك مقصياً منفياً عني وعن الجميع، أماه أماه خذلتني وخذلني الجميع!
تبعدني وتنهرني الجغرافية والزمان فتنهال السياط على ظهر ذاكرتي، أحصد ما بقي مني بمناجل الفراغ، بعدئذ أنا الشقي الذي يبحث عن جهته الضائعة وأنا أمقت الضياع، بين أن أشم رائحة أبي التي أفتقدها من القفطان الموضوع بحب في صندوق أمي و أتذكر ذلك الكيس القماشي الذي يوضع فيه القرآن مشنوق على الحائط بالقرب من تلك المرآة، المرآة كانت تعكس صورتينا أنا والكلب «جومر – çumer»، ينبح، ينبح ويلتف حول الدار ثم يقف ثانية أمام المرآة ينبح ثانية ويبحث عن شبيهه في توقيت صورته المعكوسة، وأنا كنت أبحث عن ذاتي المتشظية في عرس الخذلان، رفعت عالياً نخب الهزيمة مع القليل من آهاتي وخبز محمص وفلفل حاد مشوي كقصيدة غرة، يتوزعون فوق طاولة المساء وجبن أبيض وعرق أبيض لأيامي السوداء, صور ووجوه وذاكرة نساء تحاصرني ويتزاحمن على مائدتي، آهاتي تبث في أرواح ذاكرتهن أشياء وأشياء، سراويل ملونة تطل بخفاء تخفي مثلث فينوس المكتنز، أنا كنت هناك وهن ها هنا, وكلبي جومر كان باسطاً قدميه يأكل بقايا مصارين دجاجة بلدية، لتلك الدجاجة قصة, لكل عضو في تلك الوليمة المطهوة على نار الحطب ودموع أمي, أخواي اللذان يكبرانني, لهما الفخذين، شقيقتي التي تصغرني، لها الرقبة، ولأمي، الظهر، كانت عمود البيت ولا بد أن تأخذ الظهر ومن ثم توزعه علينا من حصتها، ولي الصدر أقسمه إلى ثلاثة أرباع, قسم منه أكله وقسم آخر أخفيه تحت البرغل لصباح اليوم التالي، والثلث الأخير أرشي به جومر، ورافقتني إلى الآن القسمة على ثلاثة, ربع ذاكرتي لحبيبتي التي تركتني البارحة عن سبق حب وترصد واشتياق، وربع لي أتدبر أموري اليومية بها من كتابة وقراءة وأستفرد بها بنفسي لأمسك تلابيبي وأجُرّني إلى جهتي التي دائماً أفشل في الوصول إليها، أبحث في الربع الباقي من ذاكرتي المثلثة عن زاويتي أمي وكلامها المركون، كتلميذ يستعين بمعلمه في زحمة الحياة، «ابني نجمتك أنثى»، فأقول في نفسي: «أماه ليت نجمتي لها خصى الثيران وفحولتها»، لم أجنِ من نجمتي سوى ضوء شحيح لا يرشدني إلا إلى الحفر، مَن حفر قبراً لنجمتي؟ مَن اعتقل الضوء؟ أماه ما زلت نحيفاً, أعمل بوصيتك وأبقى على اللقمة الأخيرة من الرغيف وأمنح سيجارتي الأخيرة لصديق عابر، لكن لا أمنح رواسب العرق في قعر كأسي الأخيرة لأحد, أتلذذ بها لأتذكرك أكثر، لا تخشي عليّ, لن أذهب إلى الجحيم بخطاياي، فالجحيم هنا يعلن حضوره بقوة، واقف على مدخل الباب، وبداية الأسطر التي أكابد في كتابتها ونهايات رواياتي، كمية كبيرة من الوجع تنتظرني، هل ولدت من اللا حب؟ حنجرتي تختزن الكثير من كلماتك أمي، وأنت تطرزين منديل الليل بالأغاني والحكايا، تعلمت السرد منك حباً وحليباً.
قدمت من أرض بور من بوابات الجحيم والتمرد، انتهجت الثورية في الحلم والكتابة وأشياء أخرى، قبل أن تدق الحرب أوتاد خيمتها رحلت عنا أمي، خمسون حب إلا فصلين لم أفطم من كلامك، قبل أن يداهمنا كل هذا الموت نبح جومر, عويله الأخير في سماء القرية ولم يجد صورته الشبيهة وانكسرت المرآة وما عادت تقلدنا بحركاتها وتكوم البيت كومة من تراب، ورحل المغادرون باكراً عن طريق عيني، وكل هذه المدة لا يبرحون ذاكرتي الثكلى، النساء ما زلن يتربصن بي وينصبن مكائد الأنوثة ويصطدن قلبي – الطريدة – على رصيف ما وتلويحات الأيادي والحقائب في المحطات تذاكر عشق, وبقيت المواعيد المؤجلة تمضغ من لحم انتظارنا، ارتديت في قدمي انزياح الوقت بمقاس الشهقة الأخيرة في النص إلى عتبة امرأة أردتني في رقصة البحث متمرغاً بي.
* جان بابيير:
شاعر وروائي ومخرج سينمائي كردي. ولد في 27 آذار عام 1970م في قرية (بوزيك) بمدينة كوباني في غربي كردستان. صدر له حتى الآن، شعراً ورواية:
1. شطحاتٌ في الجحيم (شعر)، 1998م – سوريا (دمشق).
2. الأوتاد (رواية)، 2000م – سوريا (دمشق).
3. ديوان شعر باللغة الكردية (Gewiriya Helbeste Za)، 2001م – لبنان (بيروت).
4. قراراتُ الخطيئة (شعر)، مشترك مع الشاعر صلاح الدين مسلم، 2003م.
5. ثلاثية كُوْرستان:
– فوضى الفوضى (رواية)، 2005م.
– صريرُ الأحدِ غرفةُ الأربعاء (رواية) 2007م.
– نبوءةٌ اغتالها التدوين (رواية).
6. طفلٌ يلعبُ في حديقة الآخرين (شعر)، 2012م.
7. عقدٌ قرانٍ في القصيدة (شعر)، مشترك مع الشاعرة الأمازيغية خديجة بلوش، 2013م – تونس (تونس).
8. متنُ الغجر (شعر)، مشترك مع الشاعرة تارا إيبو.
9. هيمَن تكنّسبن ظلالك (رواية)، 2019م – مصر (الجيزة) وسوريا (كوباني).
10. ديوان شعر باللغة الكردية (Peyalên Janê)، 2019م– سوريا (كوباني).
11. خيط واهن (رواية)، 2020م – سوريا (كوباني).