المكممون

 إبراهيم اليوسف
لم أستغرب، وأنا أخرج من المحجر، أو المنزل، في أول يوم في فترة الحجر الصحي، إلى المدينة، بناء على موعد مع طبيب أن أجد الشوارع طبق الصورة التي خشيت أن تكون عليها، فهي تكاد تكون خالية إلا من مارة مكرهين على الخروج، أو مغامرين سكارى ومجانين. كانت كماماتهم ملونة. كمامات النساء تكاد تكون مختلفة، بل من بينها كمامات ذات ألوان زاهية، بينما كمامات الرجال تكاد تكون ذات لون واحد. بيضاء أو رمادية أو زرقاء. كنت أراقب الناس، وأنا أسير الهوينى تجاه عيادة الطبيب حذراً. حركاتهم حذرة. كل منهم يسير بحذر. إن حكَّ أحدهم وجهه أو أنفه فعل ذلك بظاهر كفه المقفزة. إن اضطر لفتح باب أو الضغط على زر مصعد فهو يفعل ذلك مستعيناً بأصبع مطمورة في مكانها المحدد في القفاز، وغالباً ما تكون البنصر، وهكذا حينما يفتح الناس أبواب سيارتهم، أو يصعدون الترام، أو باصات النقل الداخلي. كل ينفر من الثاني، وتكاد لا ترى إلا عيونهم، وما إن عطس أحدهم أو سعل ثمة نفير ما بعد النفور.
أي مس، ترى، أصيب به، كل هؤلاء، يا إلهي! إنه أشبه بمس الجان، اللامرئي، إلا أنه هنا مس فيروس كورونا الذي يتوارى وراء اسمه الحركي: «كوفيد 19» من دون أن يفلح في ذلك، لأن قلة ينادونه باسمه الجديد. الخبراء، والعلماء، والأطباء، والكتاب والصحافيون. بينما اسمه الأول الذي أطلق عليه هو السائد، والأكثر نطقاً. هذا المس الذي مني الناس به ليس مساً ضمن حدود شارع، أو حي، أو مدينة، أو قرية. إنه مس كوني. مس عابر للقارات. عابر للكواكب. مس لاحق الناس في الفضاء وهم في الطائرات، ولاحقهم في البواخر، ولاحقهم وهم تحت الأرض، إذ إن «الترابي» حافر القبور يحفر القبر للمتكورن ويهرب إلى بيته، وإمام الجامع يصلي عليه وهو في سيارة الإسعاف، وهكذا بالنسبة لمشيعي الجنازة. كورونا تهمة. كورونا لعنة الدنيا والآخرة، حتى جيران المقابر يحتجون على دفن أحد من المكورنين فيها!
سألني أحدهم:
ماذا تنصحني أن أعمل؟
مازحته وقلت:
افتح مصنعاً للكمامات والقفازات. المستقبل لها
لربما كان تصوري هذا مفزعاً، إلا أنه ليس من بنات خيالي، فإن كورونا من الممكن أن يهزم، وهو سيهزم، إلا أن شبحه سيعيش معنا طويلاً. هذه الأسابيع. الأشهر المرعبة التي عشنا تحت ظل حكمه، في قارات العالم جميعها، لا بد ستظل ترافقنا طويلاً، وقد نورثها أبناءنا، وأحفادنا. كم من الوقت يلزم كلاً منا أن يعود إلى أصابع يديه، كفيه، أنفه، عينيه، وجهه، شعر رأسه. متى سيصبح أن أي تماس مع الآخر، مع أصابع وأيدي وكفي بالذات. ذاته، لا يشكل خطراً. كيف سنقنع الناس أننا لن نفكر طويلاً قبل أن نغامر ونتناول وجبة طعام في مطعم؟ من يقنع أطباءنا الذين كانوا يبحثون، أصلاً، عن ذريعة، ليتكمموا، ويتقفزوا، بأننا معافون، سالمون؟
كثيراً ما يخيل إليّ، وأنا أستغرق في التفكير في أمر الكمامات بأنها ليست إلا امتداداً لتكميم الطغاة لشعوبهم. والتكميم اعتداء على أكثر من عضو في جسم الإنسان. إنه تكميم لفمه. تكميم لأنفه. إنه تدخل في نيله حصته من الهواء والشهيق والزفير ولفظ الأنفاس. إنه جهاز مراقبة للترهيب أمام كل حالة عطاس أو سعال. إنه جهاز مراقبة على الكلام. بل آلة لتصفية الكلام في أحسن الأحوال، إن لم نقل لمنع الكلام. إنه تكريس للاستبداد. تكريس للرعب.
أجل، لا مستقبل إلا للكمامات والقفازات. ستتفرغ لها وسائل الإعلام. مصممو الأزياء سوف يبدعون في تصميم الكمامات التي ستعيدنا إلى مرحلة الحيونة. مرحلة الوعولية. المرحلة الغنمية، القطيعية. الطغاة أيضاً سيتكممون أنى قابلوا رعيتهم لئلا يصابوا بعدوى آفاتهم، ليخفوا عنا وجوههم. سيستعينون بالقفازات لتغطية أكفهم التي تقطر منها الدماء، وتفوح منها رائحة القتل والعفونة.
لن ينسى هؤلاء المصممون – وكما سيطلب منهم – ترغيب الناس بالنظارات السميكة، لحجب عيون الناس، باعتبار العيون ذاتها من بين معابر فيروس كورونا إلى أجسادنا. الكمامات ستجعلنا نخسر رؤية ضحكات الناس، ورؤية أحمر الشفاه. ها نحن جميعاً على موعد، إلى إشعار آخر، مع مجتمع أبكم، يرى كل شيء من وراء النظارات، ويستشعر بعينيه بعد أن خسر حاسة اللمس. كل ذلك كي يتم ربط فيروس كورونا في غياهب أذهاننا، على إيقاع أجراس موقوتة، أنى دعت الحاجة إلى ذلك!
– كاتب سوري كردي مقيم في ألمانيا
– من مخطوط بعنوان:
«خارج سور الصين
من الفكاهة إلى المأساة!»
—————
الشرق الأوسط

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…