الأنستغرام بين المزايا والمعايِب

ماجد ع  محمد
“الحرّيّةُ ليست دائماً حرّة، فهي مقيَّدةٌ بأفق الشّخصِ الذي يُمارسُها”
ادونيس
 
ليس بعيداً عن مفهوم امبرتو إيكو في ما يتعلق بمنصات التلاقي عبر الشبكة العنكبوتية، فيبدو أن حال المهووس بالسوشال ميديا إلى حد الإدمان، هو أشبه بحال المعتصم جهلاً بالعقيدة، ليس بالضرورة لفهمه لها وإيمانه بها، إنما ربما كان تمسكه بها نابع من رغبته في تحقيق أناه من خلالها، وحيث يلمح إيكو إلى أن مدمني الفضاء المفترض هم أقل الناس علماً ومعرفةً وثقةً بالنفس في الواقع، لذا يزيد تماهيهم وتشبثهم بوسائل التواصل الاجتماعي عن بُعد أكثر من أقرانهم الطبيعيين، بما أنها تشعرهم بأهميتهم الوجودية التي تعوضهم عما يفتقدونه على أرض الواقع، فالسوشال ميديا تعزّز وجود ذلك الشخص في الفضاء الرقمي طالما كان حضوره على الأرض ليس على ما يرام.
وبما أنه سبق وكتبنا أكثر من مادة عن محاسن ومثالب الفيس بوك، فستكون مادتنا هذه عن الأنستغرام حصراً، فمع أن للأنستغرام منافع وميزات عدة تختلف عن غيرها من منصات وسائل التواصل الاجتماعي فيما يخص السرعة الهائلة في نشر الصور وكثافة تدفق  المقاطع عبرها، إضافةً إلى ما توفره من فلاتر تجميلية قادرة على إظهار ملامح وجه المرحوم الجاحظ خلال لحظات بأبهى حُلة، فتجعلهُ وكأنه الممثل الهوليودي ليوناردو دي كابريو حبيب كيت وينسليت في فيلم التايتانيك، إلا أن الذي يرغب بأن لا تكون المقاطع الإباحية في متناول أطفاله، ربما عليه أن لا يحبب بهم التعلق بالأنستغرام أو جعلهم يعتصمون بتلك الكوة ليل نهار، والسبب هو أن في الانستغرام الشركة لا تتحكم بكل ما ينشره عليها المستخدمون وذلك بعكس الفيس بوك، لذا تظهر المقاطع كيفما اتفق في الأنستغرام على العام وبدون أي تحكم أو غربلة أو تصفية، بينما في الفيس بوك فطالب تلك المقاطع أو المهتم بها هو الذي عادةً ما يبحث عنها بنفسه حتى يجدها، أما في الأنستغرام فتظهر تلك المواد للكل ومن دون أية رقابة أو ضوابط، وعلى المرأة أو البنت التي تحب نشر صورها وتجميل قبحها إذا لم تكن جميلة بالقدر الذي يرضيها من خلال الفلاتر التجميلية الموجودة على الأنستغرام، أن تتوقع ظهور المقاطع المخدشة لحيائها أمام أولادها أو أخواتها الصغار في أية لحظة أوان جولة التصفح.
وكما هو معروف ففي العالم الواقعي على أديم البسيطة، فعادةً يبحث الإنسان بنفسه عن البضائع والأشياء التي تلبي مراده، بينما في وسائل التواصل الاجتماعي فالبضاعة هي التي تلاحق الزبون، وذلك لأن التلفون أو الايباد أو الكمبيوتر يحفظون المواقع أو الطرق التي يسلكها المستخدم، فإن كان من عشاق العلوم والتكنولوجيا تكون المعروضات التي تظهر لديه أغلبها علمية، وإن كان ذا ميول أدبية كذلك الأمر تظهر لديه المواد المرتبطة بمجالات اهتمامه، وإن كان ديّناً كثُرت لديه الأشياء المتعلقة بالدين والماورائيات، وإن كان من عشاق الأفلام الخلاعية فأكثر ما يظهر على العام لديه هي المقاطع الإباحية، وهذه الآلية تلقائية لأن وسائل التواصل الاجتماعي تفهم المستخدم وتعرف نفسيته وتدرك ميوله، لذا تكثر لديه من المواد التي يحبها ويتابعها.
وثمة سلبية أخرى في البازار العام للأنستغرام، فهو كسوق مفتوح وكل البضائع الثمينة والبخسة بجانب بعضها البعض، فالقبيح والجميل متلازمان، والنظيف والقميء بجوار بعضهما البعض، ولتقريب المشهد أكثر فيمكن تصور شخص ما وهو يتناول طعاماً شهياً، وإذ به يرى أحدهم يتغوط أمامه، فتصوروا حالة من يأكل وهو يشاهد أمامه فضلات شخصٍ آخر، فكيف ستداهمه موجة القرف والاشمئزاز وقد يدفعه المشهد الى استفراغ ما تناوله، وبالتالي يفقد ماله ويخسر جسمه وجبته الغذائية الضرورية لصحته، أما مَن كان في حاجة ماسة إلى صفاء روحي وتوحد مع الذات والكون بحيث تكون القداسة حاضرة بكل تجلياتها، فقد تظهر أمامه من دون سابق إنذار شخصان أو أكثر في وضعية الوطء، فهذا هو الجانب السلبي الآخر في الأنستغرام، إذ يظهر كل شيء مع بعضه وكأن الشخص جالس في مكانٍ اجتمع فيه حشدٌ من المصلين وراقصات التعري في محفلٍ واحد.
كما أن المتصفح في الفيس قد يحظى بمواد جادة  إن رغب بذلك، وحيث يمكن من خلال الروابط الدخول الى المواقع المعروفة والاستزادة العلمية، بينما في الانستغرام الوضع أشبه بصالة عرض الأزياء والأجساد والصور والمظاهر فقط، فلا وجود للحوار أو الإبحار في مجال ما من المجالات المعرفية، إنما أغلب المنشورات مجرد فلاشات بسيطة لا تلبي إلاّ حاجة المكتفي بالفتات في عالم المعرفة والثقافة، وبعيداً عن أي توجه ديني نود الإشارة ههنا إلى أن الآثار السلبية للإدمان على المقاطع الإيروتيكية لا تختلف كثيراً عن الآثار السلبية للإدمان على المخدرات، وهنا بودي ذكر ما جاء على لسان عدة باحثين كنديين منهم: اليزابيث باولوتشي ومارك جينيوس كلوديو فايولاتو، وذلك في دراسة عن الإباحية في الأنستغرام ونشرت الدراسة في موقع الحصيلة بتاريخ 26 شباط 2016، وحيث قاموا بدراسة 74 بحثاً مختلفاً كلها تدرس تأثير المواد الإباحية الجنسية على الجرائم الجنسية بشتى أنواعها، وكان من نتائج ذلك البحث أن نسبة الانحطاط الخلقي العام هي 28% كما وجدوا أن نسبة الازدياد في جرائم العنف والاغتصاب تزداد عند متداولي المواد الإباحية بنسبة 30% وإن نسبة الانحطاط في العلاقات الزوجية تتدنى بنسبة 32% ونسبة تقبل جرائم الاغتصاب وعدم المبالاة بها تزداد بنسبة 31% وفي دراسة للدكتور وليام مارشال اعترف 86% من المغتصبين بأنهم يكثرون من استخدام المواد الإباحية واعترف 57% منهم أنه كان يقلدون مشهداً من تلك المصادر حين تنفيذه لجريمته.
وكملحوظة صغيرة لمن قد يُخمّن بأن الانتقال من نافذة إلى نافذة أخرى من نوافذ التواصل الاجتماعي قد ترفعهُ من مستوى إلى مستوى أعلى منه، ويردّد في سره بأن الفيس بوك للعوام والطبقات الاجتماعية الأقل أناقةً ورقياً، وأردف بأنه تخلى عن تلك المنصة للطبقات الدنيا وراح إلى شباك أرفع منه منزلةً، فنقول له إن كان فرداً ولهم أو لهن إن كانوا جماعات، بأنه ليس في نيّتنا ثقب بالون الوهم الذي صنعوه يوم نقول: بأن الأنستغرام هو أصلاً تابع للفيس، وقد استحوذت شركة فيس بوك في الثاني عشر من شهر نيسان عام 2012 على تطبيق إنستغرام؛ يعني بأنها كوة أو فرع صغير من الشركة الأم.
وفي الختام نؤكد بأننا لا نسعى قطُ من خلال هذه المادة إلى تنفير الناس من ذلك البرنامج، باعتبار أنني كشخص مِن مشتركيها ولو أني مرات لا أفتح صفحتي أسابيع بأكملها، ورغم المآخذ التي أشرنا إليها في الأعلى، نتصور بأن ما رآه الإعلامي الفلسطيني عارف حجاوي بخصوص العلاقة بين القارئ والكتاب بقوله: “ليس هناك كتاب ضار للبالغ العاقل”، ينسحب كذلك الأمر على الشخص العاقل والبالغ في تعاطيه مع وسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف منصاتها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي

في عمله الروائي “قلعة الملح”، يسلّط الكاتب السوري ثائر الناشف الضوء على واحدة من أعقد الإشكاليات التي تواجه اللاجئ الشرق أوسطي في أوروبا: الهوية، والاندماج، وصراع الانتماء. بأسلوب سردي يزاوج بين التوثيق والرمزية، يغوص الناشف في تفاصيل الاغتراب النفسي والوجودي للاجئ، واضعًا القارئ أمام مرآة تعكس هشاشة الإنسان في مواجهة مجتمعات جديدة بثقافات مغايرة،…

خالد بهلوي
يُعدّ مهرجان الشعر الكردي السنوي واحدًا من أبرز الفعاليات الثقافية التي تُعنى بالإبداع الأدبي في المجتمع الكردي. ويُقام هذا المهرجان كل عام، مستقطبًا شعراء ومثقفين، ليشكّل منصةً فريدة تجمع بين الكلمة الحرة والتراث والهوية الكردية.
ليست مهرجانات الشعر الكردي مجرّد فعاليات أدبية تُقام سنويًا، بل هي رمزٌ من رموز التعبير عن الدور الثقافي لشعبٍ حُرم…

بهجت حسن أحمد

ولد رشاد زازا في شمالي كردستان عام 1910 عندما كانت الدولة العثمانية المحتلة لكردستان تعاني من سكرات الموت بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني وتنصيب محمد رشاد الخامس سلطاناً على الدولة المتهالكة بعد انقلاب حزب الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني.

في تلك الأجواء المشحونة عالمياً ممثلة بخطر قيام حرب عالمية بدأت بوادرها…

فراس حج محمد| فلسطين

لا شك في أنّ نافذ الرفاعي روائيّ بارع، يُحسن عمله الروائي، ومن خلال ما قرأته له أدرك حجم موهبته الفذّة في صناعة رواية جيدة، وهو من الروائيين القلائل الذين يتأنون في صنعته، ولا يعاني من الفيضان الروائي أو الغزارة في إنتاج الروايات. إنه يتأمل جيدا قبل الكتابة وخلالها، وها هو يتأمل مرحلة…