الأصابع المتكسرة

خالد إبراهيم 
في عالم الزرنيخ ، مباغتاً ، يهرطقُ كُحل الليل على ثقوب الثياب المُبللة ، سأوبّخ اللغة ، و سأجرح الكلمات ،هكذا يقول الشاعر ، ويمضي بين أوراق عُزلته التي ترفض العزلة مِن العزلة المصبوغة بالأنتقام الساذج ، المتأرجح ، بمراجيحٍ لا تنقض العِظام الرطبة ببول الأفاعي المنتشرة في البساتين الخضراء ، و في سهول ساحقة و حاقدة بقلمٍ يَنط بين الكلمات مِثل حبل غسيل في معمعة الكون الغارق بالفوضى ، و يستبيحُ أسرار المكاشفات الضَّارية ، والحامقة بلذة الزوال الألهي مِن قلوب الملاعين و أنصاف الرجال ، البارعين بقتل الأجّنة ، الماهرين بسلخ الأثداء تحت الثياب وفوق الثياب ، في الليل كما في النهار ، فوق الماء و تحت الشاطئ الغارق بالدمِ الأحمر ، كنياشين الظلم و العار  .
الأب العاق ، و الأم العاهرة ، والأخوة الزناة ، وكل هذا الفضاء بطيوره السوداء و البيضاء و الخضراء و الصفراء ، مِن الإوز و الصقور والنسور و الكناري ، وحتى طيور الحب مِن النوارس الباسقات على منصات الألم ، تتدحرج صمتاً و تتلألأ سكاكين السفر الأول و الأخير منأعلى قمة في جبل عبدالعزيز 
متى كانت الأشجار محط سخرية ؟
هذا الربيع الباذخ في سعادته ، يهذي في سجن وقته مِثل جريح في معركة القيامة ، هنا كركوك ، و هنا شنكال ، و داريا ،وهنا دوارالصاخور، هنا سري كاني ، عفرين الجثة العابرة عبر ثقبٍ نحو أصابع الله ، وهنا كل هذه الأتربة الملطخة بالدماء ، و زفرات الأضداد المُتناصة ببعضها البعض ، هنا الضحايا يرمون نرّدَ عبورهم الأزلي نحو الحياة الأرضية  على أوتار معدنية الشكل و المضمون ، لا شيء يمنع الميت كي يحلم .
الحلمُ سيد العالم ، و الموسيقى  وحدها تبث الروح بين ضحاياها المليون ، وهكذا يولد الطفل مِن جديد ، يبحث عن لعبته التي مزفتها عربات الغزاة ، يطيرُ بين أكوامِ الركام ، نسمةً تلطخ وجه الكبرياء الأخرس القابع في  الوجوه القبيحة ، التي زينت العالم بهذا الدمار ، الذي يملءصداه أكوابٌ من عصير قمحنا المسلول و خبزنا اليابس .
 في عالم الزرنيخ ، مباغتاً ، يهرطقُ كُحل الليل على ثقوب الثياب المُبللة ، سأوبّخ اللغة ، و سأجرح الكلمات ،هكذا يقول الشاعر ، ليمضي بوجه صامتٍ يحتوي كُل الأضداد ، ليطحن الوقت المتبقي ما بين الرصاصة و جسد الضحية ، ليحسمَ عدد الكلمات و إمكانية تنقيح هذا الفلم العميق المتاهة و البلاهة ، ليسرقَ الغصة مباغتاً اليد القابضة على سكين تحز عنق الضحية .
هأهأت الريح بوجهه المائل ، الممتلئ بالنعاس ، المُتساقط ما بين الفتحة و الكسرة و الضمّة الباردة مِثل قطعة جليد على جسدٍ أعزل .
سهلٌ على العاهرة فتح فخذيها ، و إطلاق سراح أنوثتها للهواء المليء بحبر الجنس المدلوق على كمائن الرغبة و الشهوة العارمة عند نقطة التلاقي مِثل بجعة تئن عند حافة نهر جاف .
في عالم الزرنيخ الأزرق ، وبعد منتصف الليل ، كيف يبدو نتوء جسد الساقط و هو يهرطق جسد الليل المُبتل بتمساح اللغة السِحر ، اللغة الحجر الصوان ، الصلِد ، العنيد مِثل حشرجات السكير على تخوم مئذنة مهشمة القوام ، الحافر قمة جبل كَهل بمخالب طينية رطبة تنزُّ بالزعفران المعصور بجملةٍ تُشبه فوه مدفع يدوي في سماء القرى المنكوبة منذ آلالاف الأعوام 
هنا سوريا الأسد ، سوريا الكلب ، سوريا الزعران ، سوريا الوجع المطبوخة بأكباد الأجنّة ، وبصل المهابل النابتة بوجه النسب والملّة ، شرفاً ،وعذريةً تطفوا فوق السحاب الملتهب بدموع الملائكة و الأسلاف و الأجداد 
هنا سوريا القيِح ، السرطان الطازج ، الجثة المُعلقة على جبين الشمس ، سوريا السكون في ديجور الريح العصية !!
ياااااه :
إيها الجنوب و الشمال و الشرق و الغرب ، يالَ ثُقل الجهات على جسدي ، يالَ ضعف حيلتي و يالَ حجم حلمي المسلوق بغضب الجهات الأربعة !
 تحت غصن زيتون عفرين و هكذا العجائز يُقتلون خنقاً بحقدٍ دفين ، و يُدلفُ منيُّ الحمير بأفواه الأباطرة ، مِثل العدو بساقٍ واحدة ، مِثل النظر بعين واحدة ، مِثل الفحل الذي يحمل خصية وحيدةً و مفقوءة ، مثل سحل وطنا في مرفأ مليء بالقراصنة .
هل نحن نهذي في ذروة الإنتقام البارد ؟
يالَ أنا الذي يقع في مصيدة الوقت الباذخ بالحمى ، أتجرع قدح من البيرة الفاسدة لأنام بصمتِ مصفحة حربية قديمة ، قد تبول عليها هتلرو ستالين و أتاتورك ، و سايكس بيكو 
أستيقظ في الصباح ، أنظر بين فرجي ، و إذ تسيل دماءٌ حمراء اللون ، وصفراء الذاكرة ، وبيضاء الحلم ، هكذا أنا  أنهش ضريبة الحروب  ،مُذ عبورنا الأول و الأخير تحت شجر البرتقال ، العنب الأشوري  في ضفاف الخابور ، 
سهلٌ إن تَجرَّ عربة على عجلاتٍ مطاطية سوداء مِثل وجه هذا العالم الممتد ما بين القطيعة و الفضيحة ، عربة تحتوي صورٌ و حكايات مقضومة بأسنان التيه و الرغبة ، بأسنان مصطفة مِثل مِشط رصاص  يهدر سحابة الوقت بجرحه العابر فوق جزيرة جرداء ، و يالَ قُبح الحروب الطائفية المنزلقة في فخ السياسات ، المصلوبة حول تيجان أسياد الأموال المهربة تحت فيئ جثث الأموات و عبر سراديب أحلامهم المشنوقة بحبالٍ مِن السواد الأعظم .
أنا حلمي الذي لا أحلم بعده.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…