هوَ والأشباحَ.. قصة قصيرة


د آلان كيكاني 
لا تفارقه الكآبةُ لحظةً واحدةً. بل هي تلازمُه في العمل، وفي الأسواق، وحتى في شواطئ البحار التي يلجأُ إليها ليرفّه عن نفسه فيها. أما الشعورُ بالوحشةٍ فهو سيّدُه الذي يسيطر عليه في كل مكان، وحتى في أكثرِ الأماكنِ اكتظاظاً وأشدُّها ازدحاماً بالناس. ويرى أنَّ الإحساسَ بجفافِ الحياةِ هو العرضُ البارزُ لمرضِه الذي يعاني منه، لدرجة أنَّ البحرَ ذاتَه يبدو جافاً عنده مثل الصحاري التي يحيط بها. 
يتّهمه أحدُ زملائِه في العملِ بأنَّه يحب النساء، وبما أن النساء مستوراتٌ من رؤوسهنّ حتى أخماصِ أقدامهنّ وتتعذرُ عليه رؤية وجوههنّ فإنّ هذا لابد وأنه يدفعُه إلى الاكتئابِ وسوءِ المزاجِ الدائم. 
لا يمكنُ أنْ يهملَ اتهامَ زميلِه له، لكن بفارقِ اختلافِ النيةِ، فهو لا يحبّ أن يرى وجوه النساء جرياً وراءَ الفاحشةِ أو ارتكابِ الموبقاتِ أو لبناءِ علاقةِ غيرِ شرعيةِ، بل لأنَّ شيئاً ما، في نظرِهِ، يبدو ناقصاً في لوحةِ الحياةِ في حالِ غيابِ وجهِ المرأةِ عن المشهدِ، شيئاً لا تكتملُ الحياةُ إلا بهِ. ويدافع عن نفسه بالقول: لو أنَّ الرجالَ دون النساءِ أخفوا وجوهَهم وراءَ أخمرةٍ سوداءَ لكنتُ أمامَ ذات النتيجةِ من الاكتئابِ وسوءِ المزاجِ.
وإذا كانَ لابدَّ من الاعترافِ، فعليّه أنْ يعترفَ أنَّ منْ بينِ أغراضِ زوجتِه الكثيرةِ، وبما فيها قطع مجوهراتها وحليّها وأحذيتها، تحظى حقائبُها وحدَها باهتمامِه، فيعرف أعدادَها وألوانَها وماركاتِها وأشكالَها، ليس حباً بالحقائبِ، بل لأنّها تبقى العلامةَ الفارقةَ الوحيدةَ التي تدلّه على زوجته وسطَ جموعِ النساءِ المتشحةِ بالسوادِ المصمتِ في الأسواقِ والمشافي والمهرجاناتِ التي كثيراً ما تقامُ في الساحاتِ العامةِ. ومن أجل الاهتداء إليها في حال غياب الحقيبةِ يبتكر كحة ذات نغمةٍ خاصةٍ كوسيلةٍ احتياطيةٍ.
ويحدث أن تتشابه حقيبةُ زوجتِه مع حقيبةِ امرأةٍ أخرى في مقهى دعا إليه زوجتَه. ومن سوءِ حظّهِ أن تكونَ الخدمةُ ذاتيةً في المقهى، فيذهبَ لإحضارِ القهوةِ، وعند العودةِ يجلسُ على طاولةِ المرأةِ ذاتَ الحقيبةِ الشبيهةِ بحقيبةِ زوجتهِ، فتتجمَّدُ الغريبةُ على كرسيّها ولا تنبسُ بكلمةٍ بينما يسألها هو: أين ذهبتْ عيناكِ الخضراوان؟ كيف استحالَ لونُهما إلى السوادِ خلالَ نصفِ دقيقةِ تركتكِ فيها؟ وفجأةً، يسمع ولولةً منْ خلفهِ، ويلتفتُ ليرى زوجتَه تصرخُ من الطاولة المجاورةِ وتقولُ: ها هي أنا، ها هي أنا هنا. لقد أخطأتَ الطاولةَ! تعال. ومن حسنِ حظهِ أن يكونَ زوجُ تلكَ المرأةِ في قضاء حاجته. فيُكتب له عمرٌ جديد!
يسير إلى بيتِه على الأقدامِ بُعيد المغيبِ بقليلٍ، وعندَ ركنِ المقبرةِ القريبةِ من بيتِهِ يعنُّ لهُ جسمٌ أسودٌ يتدحرجُ في الشارعِ، ينتابهُ الذعرُ ويكادُ أنْ يطلقَ العنانَ لساقيه ويجريَ بأقصى سرعةٍ لولا أنَّهُ يسمعُ صوتَ زوجتِه وهي تناديه من تحتِ الخمارِ: إنها أنا، لا تخفْ. ويقفُ لاهثاً من شدةِ الرعبِ، ويقرأ المعوذات ليسيطرَ على الخوفِ في داخلِه.
من خلالِ شامةٍ أعلى سرةِ مريضَتِهِ يعرفُ منْ هي، وما هو مرضُها والعلاجُ الموصوفُ لها. ففي حال غياب الوجهِ لابدَّ أن يكون ثمة ما يحلُّ عنه ليستدلَ من خلاله الطبيبُ على هوية مريضه: قدمٌ كبيرةٌ جداً، أو صوتٌ أجشُّ أو ذو غنّةٍ، أو رائحةُ عرقٍ مميزةٍ، أو فتقٌ في البطنِ في حالِ فحصِ هذا الجزءِ من البدنِ، أو وزيزٌ أو خراخرُ عند وضع السماعةِ على الصدرِ.
تسألهُ مريضتُهُ: ما لي ألهثُ عندَ السيرِ وأنا في ريعان شبابي، أيها الطبيب؟ فيشرحُ لها مفهومَ الحيزِ الميتِ في العمليةِ التنفسيةِ والذي يزدادُ كثيراً في حالِ لبسِ خمارٍ مانعٍ لتبادلِ الهواءِ، فيُعادُ استنشاقُ الهواءِ المزفورِ الذي ينحبسُ خلفَ الخمارِ قبل أن يتشبعَ بالأوكسجين. ويستطردُ في الشرحِ مبيناً أن العمليةَ مشابهةٌ لتناولِ المرءِ لقيئِه.
إلّا أَّن المللَ الأكبرَ يصيبُه عندما يرى الأشباحَ تتزاحمُ في الأسواقِ، متماثلةً كما لو كانتْ توائمَ حقيقيةً يصعبٌ معها التفريق بين الشبحِ والشبحِ، ومتطابقةً وكأنَّ كلَّ شبح مستنسخٌ عن الآخرِ، ومتراصةً مثلَ حباتِ الفواكهِ المهندسةِ وراثياً، حيث تبدو كل تفاحةٍ، مثلاً، متماثلةً في اللونِ والشكلِ والحجمِ مع أختِها. وحين تسيرُ الأشباحُ في الممراتِ تلوحُ لهُ مثل أسرابِ النمل الأسود، أو كحباتِ مسبحةٍ سوداءَ تعقبُ فيها الحبةُ أختَها ولا تختلفُ عنها في شيءٍ. 
بيدَ أنَّ الأسوأَ من كلِ ما سبقَ هو أنَّ مجاميعَ الأشباحِ السوداءِ، أينما حلّتْ، فهي تشبهُ أسرابَ الغربانِ الباعثةِ على التشاؤمِ والاكتئابِ، ولا ينقصها سوى النعيقُ الكئيب. فمن أينَ له بلطفِ المزاجِ، ومن أينَ له بطيبِ المعشرِ؟
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصدق عاشور

 

إنها حروف

إنها وقع أماني

فهل يدركني زماني

إنها وصلت غناء

أضاعت حروفها

وأضاعت الأغاني

رجاء

إنها سفينة تحلق

بزرقة الوجود

فهل نرسم الأماني

أم نحلق بالروح

أم نحلق بالسجد

ياسمينة

ترسم الروح

وتشفي الجسد

فلا وقت للحسد

رجاء

ماالذي غيرني

ماالذي عذبني

فهل تدركني الروح

في الأغاني

ومزج الصور

رجاء

إيقونة روحي

تعلق جسدي بالدموع

إنها سر الحزن

بين الضلوع

بين مراسي الحنين

يشق يمزق جسدي

سيوف الحاقدين

لن أعرف الحزن يابشر

تعطلت المراسي

تعطلت البحار

لكني روح

أختار ما أختار

فكو عني السلاسل

روحي وجسدي

أيقونة ياسمين

أيقونة حنين

ا. د. قاسم المندلاوي

 

الفنان الراحل (صابر كوردستاني) واسمه الكامل “صابر محمد احمد كوردستاني” ولد سنة 1955 في مدينة كركوك منذ الصغر فقد عينيه واصبح ضريرا .. ولكن الله خالقنا العظيم وهبه صوتا جميلا وقدرة مميزة في الموسيقى والغناء ” فلكلور كوردي “، و اصبح معروفا في عموم كوردستان .. ومنذ بداية السبعينيات القرن الماضي…

فراس حج محمد| فلسطين

-1-

لا تعدّوا الوردْ

فما زالتِ الطريقُ طويلةً

لا نحن تعبنا

ولا هم يسأمون…

-2-

ثمّةَ أُناسٌ طيّبونَ ههنا

يغرّدونَ بما أوتوا من الوحيِ، السذاجةِ، الحبِّ الجميلْ

ويندمجون في المشهدْ

ويقاومون…

ويعترفون: الليلُ أجملُ ما فيه أنّ الجوّ باردْ

-3-

مع التغريدِ في صباحٍ أو مساءْ

عصرنة النداءْ

يقولُ الحرفُ أشياءً

ويُخفي

وتُخْتَصَرُ الحكايةُ كالهواءْ

يظلّ الملعبُ الكرويُّ

مدّاً

تُدَحْرِجُهُ الغِوايَةُ في العراءْ…

-4-

مهاجرٌ؛ لاجئٌ من هناك

التقيته صدفة هنا

مررتُ به عابراً في…

عبد الستار نورعلي

(بمناسبة عيد المرأة)

 

حين تكون المرأةُ الأحلامْ

تنسدلُ الستائرُ الحريرْ،

فلا نرى أبعدَ من أنوفنا،

وخافقٌ يضربُ في صدورنا،

فكلّ نبض امرأةٍ هديرْ

والمطر الغزيرْ،

 

نفتحُ حينها عقولَنا

أم نسرجُ الخيولْ

والسيفَ والرمحَ

وصوتَ الحلمِ الغريرْ؟

 

في حلمٍ

يُبرعمُ الربيعُ فوقَ صدرِها،

ينتظراللحظةَ كي يدخلَ في الفؤادْ،

يُعطّرُ الروحَ بدفء روحها،

يقتطفُ العشقَ

ويبدأ الحصادْ،

 

في كتبِ الروايةِ الأولى:

غزالةٌ تسلَقتْ تفاحةَ البقاءْ،

وانتزعتْ تفاحةً لتقضمَ الغرامَ

واللعنةَ، والدهاءْ،

 

امرأةُ العزيزِ راودَتْ فتاها

عنْ…