
الترجمة عن الكرديّة : عثمان عيسو
ملحمة مم و زين
و كما بيّنا سابقا نتاجٌ أدبيٌّ قيّمٌ وهي ملحمة لا تحتل مكانة مرموقة لدي الشعب الكرديّ فقط بل لدى معظم الباحثين و النقاد الأجانب و الكرد بدون استثناء فالجميع متفقوق على أنّ ملحمة مم و زين تتبوّأ المرتبة الأولى في الأدب الكرديّ .
لقد نسج خاني آراءه ( الفكريّة. و القوميّة و الفلسفيّة و الصوفيّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة ) بطريقة فنيّة أدبيّة رائعة ، لذلك قال بروفيسور عزّالدين مصطفى رسول :
( أحمد خاني كان شاعراً و مفكّراً و فيلسوفاً ومتصوّفاً )
خاني اتّكأ في حبكة بنية ملحمته على ملحمة مم آلان الفلكلوريّة .
شخصيّات ملحمة مم و زين
١- مم Mem : سكرتير ديوان الأمير زين الدين
٢-زين الدين : أمير جزيرة بوطان
٣- سيتي Sîtî: أخت الأمير زين الدين الكبرى
٤- زين Zîn : أخت الأمير زين الدين الصغرى
٥- زين و سيتي شقيقتان
٦-تاج الدين : ابن الوزير الأوّل لدى الأمير زين الدين و هو الصديق المخلص ل مم
٧- جكو و عارف أخوة تاج الدين
٨- هيلانه : عجوز و مربيّة ( سيتي و زين )
٩- بكر ( بكو ) : خادم ( مخبر، نمّام ) الأمير زين الدين .
مم و زين يلعبان دور البطولة في الملحمة ( الشخصيّة الرئيسة ) و الشخصيات الأخرى هي شخصيات ثانويّة و لكنها تساهم في مجريات و تصاعد الأحداث .
و بالعودة الموجزة إلى مضمون الملحمة نجد أن أحمد خاني
قد تحدّث في المقدمة و بشكل مسهب عن ( الأرض و السماء و الحياة و مآسي و آلام شعبه و قدّم الحلول لإنهاء تلك المشاكل و العقبات التي تعترض سبيل حريته .
ثمّ ينتقل للحديث عن جزيرة بوطان ( حيث تجري أحداث الملحمة ) و أميرها زين الدين بشكلٍ عام .
و بعدها ينتقل للحديث عن زين فيقول :
( كانت تجلس مع شقيقتها سيتي في الطابق العلوي من القصر
وحيدتين تتشاوران و تتساءلان عن سبل اختيار الخطيب أو الزوج المستقبليّ المناسب لهما ….ثمّ تقترح زين أن تتنكّرا بزيّ الرجال لتتمكنا من التجول بحريّة تامة بين الشباب .
و في صبيحة يوم نوروز تنفذان المقترح و تتوجهان حيث الاحتفال بشعلة نوروز
و من مصادفات القدر فقد توجه شابان متنكران بزيّ النساء إلى الاحتفال بنوروز ، و في المُحتفل تتلاقى نظرات الشابين مع نظرات الفتاتين المتنكرتين بزيّ الرجال تقع تلك النظرات عليهما كالصواعق و السهام القاتلة فيفقدان الوعي و يقعان أرضا ، تندهش زين و سيتي من هذا المشهد و لا تدركان من يتخفى خلف هذا الزيّ ….و من ثمّ و بعد أن يستعيدا الوعي و يدور بينهم حديث مشوّق مسربل بنظرات الحبّ يقومون بتبادل الخواتم و يفترقون …و لكن دقّات القلوب تضطرب و تظل تنبض بقوّة الحب و العشق علّّها تصل إلى برّ اللقاء المفقود .
تمرّ الأيام و سيتي و زين سارحتان بالخيال مسربلتان بالشرود و عندما تشاهد المربيّة العجوز ( هيلانة ) سيتي و زين تتجرعان الغمّ و الأسى تقترب منهما و تسأل :
يا ابنتي يؤلمني أن أراكما في هذه الحالة …هيا أخبريني علّنيّ أجد لكما دواء شافيا يعيد إليكما الرونق و البهجة …
في النهاية تبوح زين لهيلانة بكلّ التفاصيل ثم تخرجان الخواتم فتأخذ هيلانة الخواتم إلى عرّاف عجوز يخبرها العجوز قائلاً:
عليك يا هيلانة أن تمتهني الطّبّ و يجب أن يُذاع صيتك بين الناس كطبيبة حاذقة قادرة على شفاء كلّ الأمراض و العلل …و بالفعل تشتهر سمعتها بين الناس في وقتٍ قصيرٍ جدّاً كما طلب منها الشيخ العرّاف .
و هنا علينا أن نتذكر الشابين المتنكرين بزيّ النساء ، من كانا ؟ و كيف صارا بعد آخر اللقاء في يوم الاحتفال بنوروز
كانا مم و تاج الدين ، سهام الحبّ تركت جراحاً عميقة في قلبيهما ففقدا لذّة العيش و الهناء فكان الحبّ و الأرق يبري جسديهما فتغلغلت الأمراض و الأسقام إليهما فأصبحا طريحي الفراش .
هيلانة العجوز التي امتهنت الطّبّ و ذاع صيتها تمرُّ في أحد الأيام أمام منزل مم و تاج الدين المنهاران من العشق و الهيام ، أهل العاشقين يطلبان منها أن تكشف عليهما علّها تجد لهما دواء شافياً …تدخل هيلانة ثمّ تطلب الانفراد بهما ،تستمع إليهما و تستوعب جيداً الداء الذي ألّم بهما ثم تحاول استرجاع الخواتم و لكن مم رفض إعطاءها خاتم زين لأنّه وجد في الخاتم العزاء و السلوى فبه يواجه آلامه و يبدّد وحشة أيامه المظلمة و قد علّق على الخاتم كلّ أماله فهو بمثابة طوق النجاة ينقله إلى برّ الأمل المنتظر ، استعادت هيلانة فقط خاتم سيتي من تاج الدين ثم عادت إلى القصر و انفردت بزين و سيتي و قصّت على مسمعيهما تفاصيل ما جرى معها و ما آلت إليه أحوال مم و تاج الدين . و هنا علينا ألاّ ننسى أن نيران الحبّ و الشوق كانت تتأجج و تلتهم قلبي زين و سيتي و عندما تنظر هيلانه إليهما و هما تفقدان النضارة و الرونق و يتسرب النحول و الضعف إلى جسديهما رويدا رويدا لا تتحمل ذلك المشهد فتعود مرّة أخرى إلى مم و تاج الدين و تقول لهما :
زين تحبُّك يا ممو مثلما تحبها ، و كذلك سيتي يا تاج الدين
و الدواء الشافي لقلبيكما واضحٌ كالشمس
الدواء هو في القصر عند الأمير زين الدّين عليكما أن تتقدما لطلب يد زين و سيتي من أخيها الأمير .
و بالفعل طلب تاج الدين يد سيتي و خطبها و لكن ممو لم يتقدم لخطبة زين لأنه خشي أن يرفض الأمير خطبة الأختين معاً
الأمير زين الدين لم يوافق على خطبة تاج الدين و أخته سيتي فقط بل زوّجهما و أقام لهما عرساً ملوكيّاً .
من العادات الكردية القديمة كان الصديق المقرّب يمشي خلف العرّيس ، لذلك مشى ممو خلف صديقه تاج الدين و رافقه حتى باب غرفته ، دخل العرسان العشّ الزوجيّة و غرقا في شهد الوصال و تحقّق حلمهما المنتظر .
خاني في ملحمته الشعريّة يصفُ و بأسلوبٍ فنّيٍّ رائعٍ ليلة الدخلة و ما دار من حديث بين العاشقين و هما يبثّانّ لبعضهما البعض لواعج القلب و ينهلان من الشفاه رحيق الحبّ العذبّ الصّافيّ ، و قد زيّنا السرير بالورود ،
يزخر الوصف بصور جميلة و هو في هذا المعنى يقول :
Ew herdu şîrîniyê ji lêvên hev vedixwin
Gulên sor li dor xwe civandin.
الصديق الحقيقيّ لا ينسى صديقه في كلّ الظروف و هذا كان حال تاج الدين صحيحٌ أنّه نال مراد قلبه و حقّق حلمه و غرق في بحور الحبّ إلاّ أنّ لم ينس صديقه ممو و قلبه النازف و ظلّ مهموما يفكر بوضعه دون أن يفقد الأمل و ظلّ متفائلاً ،
و هو يعلم أنّ نيران الحبّ تحرق قلب مم و زين و لا أحد يداوي نزيف قلبيهما و تحوّل الربيع إلى خريف أمام عينيهما الملأى بالدموع ، و الصبر و الهدوء قد ضيّعا درب الوصول إلى قلبيهما.
بكر عوان المخبر و الخبيث من جهة أخرى كان يعمل جاهدا كيّ يفرّق زين عن مم و لا يصل العاشقان إلى تحقيق مرادهما
و كي يحقق بكر غايته بدأ يسمّمُ مسمع الأمير زين الدين بالقصص و الأكاذيب و تلفيق التهم بحق تاج الدين و صديقه مم فقد أخبر الأمير قائلاً :
مولاي الأمير يؤسفني أن أخبرك ….لا لا أستطيع أخبارك …أخشى أن تغضب منيّ و تعاقبني …
لقد كان بكر الخبيث يعلم جيدا كيف يتسلل رويدا رويدا كالأفاعي إلى نفسيّة الأمير كي ينفخ نيرانها و يؤججها ….
و هنا يقف الأمير و يتساءل بنبرة حادّة :
تكلّم يا بكر و إلاّ أمرت بقطع رأسك
بكر : مولاي إن لدى تاج الدين نوايا سيئة فقد سمعته يحلف ل ممو بأنّه سيساعده في الوصول إلى قلب أختكم العفيفة زين إن هو ساعده و لا أعلم يا مولاي ماهيّة المساعدة التي سيقدمها مم لتاج الدين ؟ !!!! .
يتضايق الأمير زين الدين كثيرا و تسوّدُ الدنيا في عينيه حتى غدا كثير التوتر و الهيجان و هيجانه جعله يفقد اتّزانه المعهود فهو يغضب لأتفه الأسباب …بلى فقد سمّم بكو ذهنه بأكاذيبه و أوقع الأمير في حبائل خبثه ممّا جعل الأمير يقسم بأغلظ الإيمان و برأس أبيه و أجداده بأنّه لن يزوّج زين ل ممو مطلقا .
و علاوة على ذلك فقد غيّر معاملته مع زين و غزا الجفاء و البرود قلبه ..
أمّا زين المسكينة فقد كانت تقضي يومها غارقة في بحار الهموم و الدموع .
جواري القصر تحاولن جاهداتٍ تخفيف أوجاعها و تهدئة أمواج حسراتها المتلاطمة و طرد الأحزان من قلبها المكتوي بنار الحنين و الحبّ و لكن عبثاً فكلّ محاولاتهنّ ذهبت في مهبّ رياح اليأس .
نهار زين يتلاشى حزناً و لياليها تئن من الوحدة ، فهي وحيدة تذرف الدموع و تسهر مع الشموع …وحدتها و احتراق قلبها دفعتها إلى إجراء مقارنة بين نار حبها المتأجج و نار الشموع فها هي تناجي الشموع قائلة :
( نيرانكم تخبو و تنتهي مع بزوغ الشمس ، أمّا نيران قلبي فتزداد اشتعالا ) .
و لم يكن مم بأفضل حالاً فقد اقترب من حافة الجنون فهو يخفي أسراره و آلامه و أحزانه …..دائم الهمّ و الغمّ يطلق حسراته و آهاته من أعماق قلبه المكلوم و المسربل بالشوق و الحنين و أمل اللقاء .